في مرحلة من العام 1978، حين كانت ايطاليا هلعة وقلقة بعد أيام من عملية الخطف الصاخبة التي نفذتها منظمة "الألوية الحمر" اليسارية المتطرفة ضد الدو مورو، وبعد عشرة اعوام على احداث أيار مايو الطالبية التي اهتز لها الواقع الايطالي يتم العثور على جثة واحد من الشبان المتقاعدين عن العمل الثوري الذين ظل كثر منهم بوجوه زائغة العينين وسنوات طويلة خلف القضبان، او من طالبي اللجوء السياسي في الكثير من دول اوروبا الغربية. في تلك الايام الباردة تعثر الشرطة الايطالية على جثة جوزيبي رازيزي على السكة الحديد قرب محطة روما، وبعد التحقيق والتشريح والاخذ والرد البيروقراطي الايطالي يعلن القضاء الايطالي، كعادته ان موته انتخار، ليغلق الملف اكثر من عشرين عاماً، يفتح بعدها في ضوء اعترافات احد اعضاء عصابات المافيا التائبين ليكشف عن هذا الحادث الذي كانت عصابة المافيا وراءه، ويتبين ان الاسباب كثيرة لحمل المافيا على تصفية رجل غير "مريح" في بلد لا امان فيه الا للإرهاب السياسي والمافيوزي. فإيطاليا السبعينات والثمانينات التي كانت في مرحلة مخاض عنيف، يتصارع فيه اقدم ما في اوروبا واحدثه، بلد تشق قوى التقدم طريقاً لنفسها في سباحة شاقة مزدوجة، ضد اليمين والتخلف والمافيا من جهة، وضد مظاهر التطرف اليساري من جهة اخرى. وكان رازيزي يعرف اللعبة تماماً ويعرف تورط كبار الساسة مع المافيا، لذا كان يناضل في بلد عريق في ديموقراطيته، وكان مهداً لحضارة انسانية اعطت العالم الكثير، وهو للآن مقر لراس الكنيسة المسيحية الكاثوليكية، ومقر لأشرس عصابات الإجرام المنظم في العالم. وكان يعي تماماً ان ايطاليا الجميلة تشكل مثلاً حياً على التحلل الذي يمكن ان تصل اليه الامم من خلال الانهيار والتفسخ اللذين يصيبان الطبقة السياسية الحاكمة. كان يعمل في كل مكان كغيره من المثقفين الايطاليين ليغير خارطة الواقع الايطالي في عقر دار الاخطبوط التي تورمت وبدأت تتفسخ، في مدينة باليرمو. العاصمة الاقليمية لجزيرة صقلية. مئة خطوة هنا، وبعد فيلمه الذي حقق نجاحاً كبيراً عن حادث اغتيال الشاعر والفنان والمخرج السينمائي بيار باولو بازوليني، يقدم المخرج الايطالي ماركو توليو جوردانا فيلمه الجديد "مئة خطوة" عن حياة المواطن جوزيبي رازيزي واغتياله، وقد شارك فيه في مهرجان البندقية السينمائي الدولي الاخير. أمضى المخرج اكثر من سنة في الاحياء الشعبية في جزيرة صقلية ليتعلم لهجتها العامية، ويقترب من طبيعة العلاقات والعادات والمعتقدات الشعبية فيها. وعن تجربته هذه يقول: "كان عليّ العيش في صقلية للاقتراب من واقع الحياة اليومية للناس وطبيعتها، اذ وجدتها تجربة ثرية ساعدتني على انجاز عمل اعتقد جاداً بأهميته فقد ادركت، ومن قرب، أن فهم الكثير من الظواهر والامور والتفاصيل الصغيرة لا يمكن امتلاكه واستيعابه الا من خلال المعايشة اليومية لحياة الناس. ومع ان جدي كان يرأس تحرير صحيفة "الساعة" اليومية في مدينة باليرمو من عام 1908 الى 1912 فأنا لم اولد الا بعد هذا التاريخ الذي كان يحفل هو الآخر بالكثير من الاحداث والمفاجآت والتناقضات. لماذا اطلقت على الفيلم اسم "مئة خطوة"؟ - انها الخطوات التي تمتد الى عمق الكثير من الحقائق، ونشعر جميعاً اننا شركاء في خلقها. فيلمك السابق عن بازوليني كان بمثابة سؤال طرحته على الجميع تسأل فيه عن السبب الذي اودى بحياته هل فيلمك الحالي سؤال آخر عن المواطن جوزيبي رازيزي وعشرات من امثاله الذين راحو ضحايا الارهاب المنظم؟ - ليس فيلماً لمحاكمة مصير هذا الرجل، ولا فيلماً مباشراً عن المافيا التي اصبحت افلامها الآن مثل افلام "الوسترن" الايطالية، لكنه يشير الى ضرورة تقويم الامور حيال ظاهرة متشعبة ولها ارتباطاتها ونتائجها، ما زلنا نعيشها في بيوتنا العائلية الايطالية، وهي ظاهرة المتمرد على الاوضاع التقليدية السائدة التي يطالب الجميع بالبقاء تحت مظلتها. أي عائلة تقصد؟ - بيرو رازيزي كان رجلاً يتمتع بذكاء كبير، وكانت له مكانة اجتماعية باعتباره ابن واحد من المتعاونين مع المافيا. لكن هذا الشاب الذي كان عمره لا يتجاوز العشرين خلال انتفاضة ايار 1968 الطالبية، اكتشف ان الشبيبة يومذاك كانت قادرة على تغيير العالم، فما كان منه، وهو القريب على العائلة الكبيرة المافيا، إلا ان استخدم نفوذه وغضبه الثائر على الأقربين اليه، فتقدم بشكوى الى السلطات القضائية تحمل اسمه الصريح ضدها، وهو امر نادر الحدوث في تاريخ المافيا الذي يمتد عشرات السنين. واسس تجمّعاً ثقافياً موسيقياً للشبيبة المناهضة للعصابات الاجرامية، وقاد تظاهرة لعشرات الفلاحين الذين سرقت المافيا اراضيهم، لمطالبة السلطات باسترجاعها: ولم يكتف بذلك، بل اسس جريدة يومية ضد المافيا، واصدر الكثير من الكتب التي تستعرض تاريخ المافيا، ونظم الكثير من الاحتفالات والنشاطات المسرحية الجماهيرية في الساحات والشوارع من خلال معرفته بمحبة مواطنيه للمسرح. واسس محطة اذاعة اطلق عليها اسم "راديو الخارج" فاصبحت شعبية بكل معنى الكلمة. او في اختصار، فقد وضع عدداً كبيراً من العوائل المافيوزية في حال تنبه الى ما يدور من حولها، بعدما فضح الكثير من الاسماء التي تعمل تحت مظلة المافيا والتي تمارس اعمالاً وظيفة رفيعة في باليرمو. وقامت ثورة الاب على سلوك ابنه متوسلاً اليه ومحذراً اياه من الاخطار التي ستقضي عليه. ولم يكتف الاب بهذا، بل سافر الى الولاياتالمتحدة لطلب المغفرة لابنه المتحدر من رأس احدى العوائل المافيوزية الشهيرة، الا ان جوزيبي قتل عام 1978. وبعد عام واحد قتل الاب في حادث اصطدام افتعلته المافيا، ثم صفيت العائلة بطرق بربرية. هل تعتقد ان فيلمك سيحمل مضايقة لعوائل مافيوزية؟ - بالتأكيد. وهل تعتقد انه سيساعد على بعض التغيرات في الآراء والاقتناعات السارية التي اصبحت مثل برك مستقرة لا يحركها حجر؟ - جوزيبي كان من تجمعات شبيبة ال68 الطالبية المنتفضة التي حركت الكثير من القيم والتقاليد والاعراف الاجتماعية في البلاد عموماً. وكل فعل يتوجه نحو صميم الاشياء، قادر على ترك اثر ما، والسينما، في اعتقادي، ما زالت قادرة على امتلاك سلاح التغيير.