"احذروا المافيا عندما لا تحرّك ساكناً... فهي تكون في اشدّ سطوتها عندما لا نسمع عنها ولا نراها". وهذا ما كان يردده القاضي جيوفاني فالكوني الذي قاد اكبر حملة شنّتها الدولة الايطالة على الاجرام المنظم، والذي اغتالته المافيا وزوجته واربعة من حرّاسه ربيع عام 1992، عندما كان في طريقه الى مطار باليرمو الذي يحمل اليوم اسمه واسم زميله بورسالينو الذي اغتيل بعده بأشهر في العاصمة الصقلّية. وعندما كان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان يفتتح قمة التوقيع على أول اتفاقية دولية لمكافحة الجريمة المنظمة بمعيّة رئيس الجمهورية الايطالية في عاصمة جزيرة صقلية الثلثاء الماضي، لم يكن في وسعه ان يتخيّل ان المافيا بالذات كانت أول المستفيدين من تلك القمة. فقد كشفت صحيفة "لا ريبوبليكا" الرصينة، قبل ساعات من اختتام القمة، إن معظم الشركات التي كانت رست عليها مناقصات تلزيم أعمال البناء والترميم والتنظيم لتجهيز المدينة من اجل استضافة رؤوساء ووزراء ووفود من مئة وخمسين دولة والتي فاقت تكاليفها أربعين مليون دولار، تملكها المافيا عبر وسطاء او شركات اخرى مموّهة. وأسندت الصحيفة تحقيقها بوثائق ومعلومات دامغة، دفعت المدّعي العام المكلف محاربة المافيا في صقلية الى فتح تحقيق فوري حول تلزيم الاعمال التي نفذّت لتجميل المدينة. ومن تلك المعلومات ان المبنى الذي استضاف الصحافيين والمؤتمرات الصحافية الى جانب قصر العدل حيث دارت اعمال المؤتمر، شيّدته شركة معروفة لاحد الزعماء المعروفين للكوزا نوسترا. ووصل الحرج اشّده في اوساط المسؤولين الايطاليين الذين حرصوا على اعطاء الانطباع بأن الانتصار حتمي على المنظمات الاجرامية، سيما وان القمة انعقدت في عرين المافيا. لكن الحرج طاول ايضاً الأممالمتحدة بعد التصريحات التي صدرت في مستهل القمة على لسان مساعد الأمين العام المكلف محاربة الاتجار بالمخدرات ومنع الجريمة الايطالي بينو آر لاكي، والتي أكد فيها "ان المافيا دحرت في ايطاليا". واضطر آر لاكي، بعد الانتقادات الشديدة التي انهالت عليه، وبعدما اصدر وزير العدل الايطالي تصريحات مضادة، الى التراجع عن تأكيداته في مذكرة اوضح فيها ان "المافيا دحرت موقتاً"! ليضيف "ان تحوّل هذا الاندحار الموقت الى هزيمة تاريخية يتوقف على الدولة الايطالية وعلى المواطنين"! واعتبر ويزر العدل الايطالي انه "لا يجوز الحديث عن هزيمة عندما يتعلق الامر بالمافيا، فالمنظمة الاجرامية غيّرت استراتيجيتها وتحاول التكيّف مع الظروف الجديدة، وقد تنقضي فترة طويلة قبل قطف ثمار الحرب التي تشنها الدولة على المافيا". ومن الادلة التي يمكن ان تقام على هذه الاستراتيجية الجديدة التي تتهجها المافيا، ان عرّابي الكوزا نوسترا قبلوا بلك طيبة خاطر ان تنعقد هذه القمة في مدينة مثل باليرمو، بينما في السابق كان من المستحيل ان تقبل العائلات المافيوزية التقليدية مثل هذا الحدث الاستفزازي في عقر دارها. واثارت هذه الفضيحة استياءً كبيراً في اوساط منظمي القمة والمشاركين فيها، سيما وانها انعقدت تحت شعار محاربة الفساد والنزاهة. لكن مؤتمر باليرمو لم يخرج عن المألوف في التقاليد الايطالية، حيث جرت العادة ان تكشف الفضائح بالتزامن مع مثل هذه الاحداث الدولية الكبيرة. ويذكر الذين حضروا القمة الدولية الاخيرة التي عقدتها الأممالمتحدة منذ ست سنوات في مدينة نابولي، ان ابرز ما فيها كان الاستدعاء الذي وجهته محكمة ميلانو الى رئيس الوزراء الايطالي آنذاك سيليفو برلوسكوني عندما كان يتبادل نخب الاحتفال بنجاح القمة مع الرئيس الاميركي بيل كلينتون.