انتهى يوم الحساب مع جوليو اندريوتي ببراءته من التورط في واحدة من قضيتين، قبل ستة اعوام، سبق ان أذهلتا الرأي العام الايطالي والعالمي. والقضية التي انتهى منها تتعلق بتهمته باصدار امر باغتيال الصحافي نينو بيكوريللي ربيع 1979 في مدينة روما. فقد اعلن قاضي مدينة بيروجا براءة "ثعلب السياسة الايطالية" وعضو مجلس الشيوخ مدى الحياة والذي شغل منصب رئيس وزراء ايطاليا سبع مرات وهيمن على الساحة السياسية في البلاد لنحو نصف قرن كما اتهم بالانتماء الى المافيا. كل الشهادات والمعلومات والاعترافات التي ادلى بها كثيرون من اقطاب المافيا "التائبين"، والتي ضمت ملفا قدر بأكثر من 600 ألف صفحة تجمّعت على مدى ثلاث سنوات، وامتدت على عشرات الجلسات القضائية، أكدت على أن عملية اغتيال الصحافي بيكوريللي، رئيس تحرير مجلة "المراقب السياسي" الأسبوعية التي تصدر في باليرمو، تمت بأوامر مباشرة من قبل اندريوتي. مع هذا اقفل واحد من اعقد ملفات ايطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، ببراءة "العم" اندريوتي البالغ من العمر 80 عاماً. ويذكر ان الصحافي بيكوريللي قام بتجنيد مجلته للبحث والتنقيب عن ملابسات اغتيال الزعيم الديموقراطي المسيحي الدو مورو عام 1978، على يد جماعة "الألوية الحمراء" اليسارية المتطرفة. وكان لاكتشافه بعض خفايا الجريمة، سخّر مجلته لفضح العديد من الفضائح السياسية في البلاد، كما صب جام غضبه على اقطاب الحزب الديموقراطي المسيحي، اذ كان الصحافي الراحل يؤكد على أن لجريمة اغتيال آلدو مورو دوافع متعددة، وان لأندريوتي علاقة مباشرة بها. ويذكر ان مورو كان رمزاً كبيراً من رموز الحياة السياسية الايطالية، رمزاً تتعدى اهميته وحجمه مجرد كونه زعيماً للحزب الديموقراطي المسيحي. فقد اختطفته "الألوية الحمراء" في 16 آذار مارس 1978، وكان يهم بالتوقيع على الاتفاق التاريخي الذي اطلقت عليه تسمية "المساومة التاريخية" مع الحزب الشيوعي الايطالي الذي كان اكبر الاحزاب الشيوعية في عموم أوروبا، وثاني اكبر قوة برلمانية في البلاد. وكان قد وصف خطوة التحالف مع الشيوعيين بانها "شر لا بد منه". وقدّر البعض ان هذه المساومة ستؤهله كي يصبح الرئيس المقبل للجمهورية الايطالية وسط اندفاعة شعبية لم يسبقه الى مثلها اي زعيم آخر من زعماء الديموقراطية المسيحية. وهذا ما لم يرض العديد من زعماء الديموقراطية المسيحية وعلى رأسهم اندريوتي. وبعد اختطاف آلدو مورو وحجزه لفترة 55 يوماً، عثر على جثته مقتولاً في صندوق سيارة امام مقر حزبه في قلب العاصمة روما. وأكدت شهادات التائبين من قادة عصابات المافيا وعلى رأسهم توماسو بوشيتا وفرانشيسكو مانويا، بأن اندريوتي وراء تصفية بيكوريللي، كما انه وفّر الحماية للمافيا، وضمن لقيادييها تخفيف الاحكام الصادرة بحقهم، وانه اجتمع شخصياً مع "رأس رؤوس" المافيا سلفاتوري ريينا الملقب "توتو" قبل اعتقاله عام 1993. وبدورهم اعتبر زعماء حزب الديموقراطي المسيحي المنهار والذين يترأسون حالياً عددا من الاحزاب السياسية، التبرئة انتصاراً للعدالة الايطالية، ضد التهم الباطلة التي تريد النيل مما اسموه "شرف ايطاليا". وأعرب يواكيم نافارو فالز المتحدث الرسمي باسم الفاتيكان، عن الارتياح الكبير الذي تشعر به حاضرة الفاتيكان لقرار الحكم الذي اصدرته محكمة بيروجا، وذكر أن البابا كان يصلي باستمرار من اجل اندريوتي. كما تساءل زعيم المعارضة اليمينية الايطالية سيلفيو بيرلوسكوني عن الثمن الفادح الذي دفعه اندريوتي طوال السنوات الست الماضية منذ التهمة "المخجلة"، والتي أساءت الى شرف ايطاليا وكرامتها. وفي المقابل فان فاوستو بيرتينوتي زعيم حزب "اعادة التأسيس الشيوعي" المعارض، اكد أن الباب سيظل مفتوحاً لمعرفة قتلة الصحافي الذي كان يبحث عن الحقيقة، وقال ان البلاد لا تزال ترضخ لهيمنة اقطاب النظام القديم في اشارة الى الديموقراطية المسيحية التي يجب، حسب تعبيره، التحقيق في الفضائح التي اقترفتها طيلة نصف قرن. اما السيدة اندريا بيكوريللي اخت الصحافي القتيل والتي كان عمرها 14 سنة عند مقتل اخيها، فقالت "انهم في قرار حكمهم هذا قتلوا اخي مرة ثانية". وصرّح اندريوتي ل"الحياة" عند خروجه من مكتبه وسط روما ليلتقي حشدا من الصحافيين الايطاليين والاجانب الذين كانوا ينتظرونه: "اني حقاً مسرور لعدالة القضاء الايطالية، ومن المفرح ان ايطاليا تشهد، هذا اليوم، مناخات صافية". وحول قضية المحاكمة القادمة في مدينة باليرمو، والمتهم هو ايضا فيها بالعلاقة مع عصابات المافيا: "احتاج الى عمر اطول لأرى نهايات مزرية تمر على تاريخ ايطاليا". أغلب القوى اليسارية الايطالية، لم تقتنع بحكم التبرئة الصادر، حيث لا زالت تطلق على اندريوتي تسمية "عراب المافيا" بعد ان كان عراب السياسة الايطالية. وأول ما يستحضره الذهن امام هذا التطور الدراماتيكي الذي حمل الى قفص الاتهام اهم الزعماء السياسيين الايطاليين وأشهرهم على الصعيد الدولي، "قول مأثور" ل"العم جوليو" نفسه، بحسب اللقب الذي اطلقه عليه "تائبو المافيا": "ان السلطة تستهلك من لا يملكها". فهل يا ترى سيقع رجل كل الفصول يوم تنعقد محكمة باليرمو خلال الأيام القريبة القادمة لتبحث في تعاونه مع المافيا؟