قبل عقد من الزمن، ظهر في الوسط السينمائي الايطالي تعبير جديد هو "سينما المافيا"، أصبح اليوم شائعاً، ووقع هو الآخر في براثن المؤسسات السينمائية المهنية والتقليدية. وبمنطق "التصنيف السلعي" أضيف هذا النوع من الأفلام الى القائمة التي تقدمها الشاشة الايطالية لمخاطبة حاجات المشاهد الايطالي خصوصاً والغربي عموماً. وقد اعتبر كثر من النقاد الايطاليين ان هذا النوع من الأفلام التي تتزايد يوماً بعد آخر، لا يعدو أن يكون "موضة" جديدة أشاعتها مراكز الاحتكار للسينما، وخصوصاً هوليوود، بينما اعتبر الرأي الآخر أنها تندرج في خانة ما يسمى بالفيلم السياسي، لأنها تمجد قيمة الانسان، وتؤكد حقه في الحياة الحرة الشريفة الآمنة، على أساس أن السينما السياسية هي التي تتخذ موقفاً فكرياً ضد كل مظاهر القهر والتسلط والابتزاز والتخلف والاجرام المنظم وامتهان حرية الانسان وكرامته. ويرى هؤلاء النقاد أن معطيات أغلب الأفلام التي أُنتجت في مدينة السينما جينا جيتا في روما، أو في استوديوهات هوليوود عن هذا النوع من الأفلام، لا تختلف عن مفهوم أفلام العصابات في الغرب ورعاة البقر أو "الويسترن" الاميركية. فالصراع هنا بين عصابة وعصابة أخرى. والعصابة تخضع كما هو معروف في تجمعات المافيا لنظام يقوم على سلم طبقي، يقف على رأسه زعيم "عرّاب" بطريركي، يمثل الأب الروحي أو السلطة العليا، ولا فرق بين هوية هذا البطل وهوية أي حاكم عنصري أو فاشي. وكل الفارق ينحصر في أن الأول يتخذ وصفاً هامشياً، بينما يستمد الثاني كيانه من السلطة. ويجمع المعارضون، في ادراج افلام المافيا في الخانة السياسية، على اعتبار ان السياسة هي علم تغيير الواقع، ومعرفة القوى المتصارعة المتحكمة بحركته، وطريقة حل التناقضات فيه ببلورة العناصر الانسانية، وهي طبقات وفئات اجتماعية. إذ يمكن، في اعتقاد هؤلاء، أن يخلع البطل الهوليوودي ثياب رعاة البقر، ليرتدي ثياب "المافيوزي"، ولكن لا يمكن رجل العصابة أن يكون قائد حزب سياسي، مثلما لا يمكن أيضاً تصنيف هذه الأفلام في خانة "المدرعة بوتمكين" لايزنشتاين، أو "العصر الحديث" و"الديكتاتور العظيم" لشارلي شابلن، أو "زد" لكوستا غافراس، أو "الاغتيال" لايف بواسيه... الخ، مع انها نصف تسجيلية من ناحية اختيار الأماكن والأحداث والشخصيات والعقدة الدرامية. هذا النوع من أفلام الموجة الايطالية الجديدة المسماة أفلاماً سياسية، اذا ما جردت من روح "الموضة" التي تصاحب ظهورها عادة هزة تحدثها عصابات المافيا من خلال واحد من جرائمها المعروفة، وردها الى السياق التاريخي الذي ظهرت في إطاره، فستتضح هويتها الحقيقية على أنها مجرد أفلام بوليسية، لا يخلو بعضها من عملية نقد اجتماعي. فهي أشبه بأفلام العصابات التي أوجدها الأميركيون واعتبروها تعكس جزءاً من تاريخهم الخاص الذي يمكن أن يستمدوا منه تقاليدهم القائمة على تقديس النزعة الفردية، والتي تشكل المفتاح الأساسي للكثير منها. فرجل العصابة الذي يأمل بانفتاح الدنيا أمام طموحاته، هو أشبه برجل المافيا القوي الذي لا يستسلم على رغم كل المخاطر التي تحيط به في مطارداته وابتزازاته للناس، وعلى رغم كل الرصاص الذي يدوي في شوارع المدن الكبرى، مثل باليرمو وكاتانيا ونابولي. السينما، من نشأتها الى الوقت الحاضر، لم يكن لها شكل واحد، بمعنى النمط الذي أشاعه الانتاج الهوليوودي، وهو في حقيقة الأمر امتداد لمسرح البوليفار البورجوازي، وللرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ولتقاليد الميلودراما، اضافة الى ملاحم الويسترن الاميركية وتقاليد رعاة البقر، وأفلام الموسيقى والأفلام البوليسية والجاسوسية وأفلام الخيال العلمي. فهذه الأنماط وغيرها لم تكن قط، كما يعتقد كثيرون، هي كل السينما، بل ان نمط الانتاج الذي فرض على الجماهير، من أعلى، لتحقيق أهداف معينة، يهدف في الكثير منها، الى اشباع رغبة الجمهور في المزيد من العنف والجنس، حيث يقدم الخصم، عضو العصابة الذي لا يستسلم في سهولة، والذي يبرر كل شيء باعتباره جزءاً من عمله. هذه الأفلام إذاً، تمر بعملية تقويم مستمر، تشرف عليها مجموعات مختلفة من الناس، ومؤسسات رسمية ونقاد وجمهور وعاملون في صناعة السينما وحكام. وكي يحصل الجمهور على فيلم ما، فإن الاجابة عند أصحاب الشركات السينمائية والمنتجين الذين يرون عادة أن ذوق الجمهور فاسد يجد متعته في وجبات الجنس والعنف، لذا يروجون لنوع معين من الأفلام الى حد تصبح "موضة" سائدة، لها دور في تحديد مواصفات الصورة الرائجة ، كما هي الحال في أفلام عصابات المافيا. الفيلم السياسي الفيلم السياسي الذي تبلور في حموم أوروبا بعد أحداث ايار مايو 1968، انبثق منه تيار احتجاجي في أميركا يعترض على تعبئة الشبيبة لتذبح في حرب فييتنام، وتيار السينما السرية في نيويورك، والموجة الجديدة والسينما الشابة والسينما التجريبية وغيرها. وبرز نوع آخر من الأفلام السياسية لا يصنعه مخرجون تقليديون، ولا يؤديه ممثلون محترفون، بل يقيم علاقة بالجمهور على اساس تعويض الحرمان بتقديم عالم آخر، إذ بدأت مراكز الانتاج تتلقف هذه النماذج الجديدة وتفصل مواضيع قادرة على أن تتأقلم مع الواقع المحلي هنا وهناك. ومن أبرز الأفلام السياسية التي شاهدناها في العالم العربي "زد" للمخرج كوستا غافراس، وتدور أحداثه في ظل الدكتاتورية العسكرية في اليونان، وكيف يتم التركيز على شخصية الزعيم السياسي الذي يتعرض للاغتيال على أيدي رجال الانقلاب العسكري، وفيلم "الاغتيال" لإيف بواسيه الذي يتناول اغتيال الزعيم المغربي المهدي بن بركة والمؤامرة التي ينفذها عملاء المخابرات الاميركية والفرنسية والمغربية بذلك... ومروراً بفيلم "قضية ماتيي" لفرانشيسكو روزي، وفيلم "انتهى التحقيق المبدئي... انس الموضوع" لداميانو دامياني، وفيلم "كيمادا... الأرض المحروقة" لبونتو كورفو، وفيلم "الطبقة العاملة تذهب الى الجنة" لأليو بيتري... وعشرات غيرها انتجتها الاستوديوهات العالمية واتخذت طابعاً يتمثل بالرفض والاحتجاج، وكانت أهدافها تتلخص بتحويل الفن السابع وسيلة للتعبير عن مشكلات وأحلام، وتصحيح الأوضاع الخاطئة التي تعيشها الجماهير. عالم عصابات المافيا الاجرامي يتسم بالغموض والسرية، وتحيط به أجواء من الاثارة والمخاطر، وتحتوي ملفات المحاكم في باليرمو، العاصمة الاقليمية لجزيرة صقلية، قصصاً عدة ثرية بأحداثها التي جسدت وقائع حقيقية في اطار لعبة تدور تفاصيلها في كواليس سرية من دون أن يعلم بها أحد، إلا عندما تسمح الأجهزة بحرية النشر والتناول العلني. ثم ان التحولات السياسية في ايطاليا وسقوط الجمهورية الأولى، ونشر غسيل الفضائح التي ارتبط بها كبار رجال السياسة في الديموقراطية المسيحية الذين قادوا البلاد أكثر من أربعين عاماً، أعطت دفعاً لعدد كبير من السينمائيين لتناول مواضيع تخص عالم المافيا كانت الى مدة قريبة أشبه بالمحرمة وتتحمل مغامرات خطيرة. وهنا يجد صنّاع الفيلم السينمائي مجالاً خصباً ورحباً وثرياً بالتفاصيل والشخصيات والأحداث التي تتميز بالثراء، من عنصري التشويق والاثارة، وهما من المقومات التي تكفل لأي فيلم النجاح الجماهيري من خلال احتفاظه بقيم التسلية، وخروجه على الحدود المعهودة من الجرأة في عرض بعض المشاهد التي تتصل بتفاصيل العنف ومناظر الجنس، وحوادث القتل المرعبة. هل يصدقه عقل؟ في احيان كثيرة، تُقَوَّم هذه الموجة من الأفلام ليس على أساس صدقها أو كذبها على المستويين الأخلاقي والواقعي، مع ان ما يحدث في عالم المافيا لا يكاد يصدقه عقل، بل عادة من خلال قيمتها الفنية. وأبرز مثال فيلم "الصقلي" الذي انتجته هوليوود للمخرج الاميركي مايكل جيمينو الذي يحاول من خلاله "تصحيح مجرى التاريخ" بتصويره واحداً من أعتى رجال المافيا ضراوة وبطشاً، سلفاتور جوليانو الذي قتل عام 1950، على أنه بطل تاريخي، يسرق الأغنياء ليوزع الخيرات على الفقراء، فنذكرهم بأفلام روبن هود. سوى أن الطيب الذكر روبن هود كان يطلق السهام فوق رؤوس الأثرياء ليتركوا نقودهم وثرواتهم ويهربوا، في حين ان جوليانو الصقلي كان يطلق الرصاص على الرؤوس مباشرة ومن دون رحمة أو تفريق. الموجة الجديدة من الأفلام التي تتحدث عن عصابات المافيا، مع ان اغلبها لم ينهل وقائعها من الخيال أو التصورات الفنتازية، بل من مواقع تعيشه مدن الجنوب الايطالية المشبعة بالعنف والدم والفضائح والفقر والفاقة والتسويات الخفية التي جعلت من المافيا دولة داخل دولة... هذه الموجة طغت أخيراً على صناعة السينما الايطالية. المخرج الكبير فرانشيسكو روزي الذي يعمل منذ عشر سنوات على موضوع أفلام المافيا، بدءاً ب"نسيان باليرمو" عام 1990، أجاب عن هذه الظاهرة بقوله: "لا ضير في أن تهتم السينما العالمية بطرح احدى مآسي عصرنا الراهن، التي تستخدم سلاحاً رهيباً في قمع تطلعات الشبيبة في كل مكان في العالم. انها عملية أشبه ما تكون بتلك التي كانت تدور خلال الستينات، بدفع الشبيبة الى ساحات قتال لا يعرفونها ولا يعرفون الأهداف التي يقاتلون من أجلها. وعالمان الآن يغرق في بحار من الدمار، ولكن من نوع آخر. وأعتقد أن هذا النوع من الأفلام التي يطلق عليها الآن اسم الموجة الجديدة لأفلام المافيا، هو أفلام احتجاج ورفض، أفلام اذا أحسن اختيار مواضيعها، قادرة على أن تقول كلمتها بسبب انتشارها وتأثيرها". ويضيف: "انه نوع يتضمن مواقف فكرية تتحدد في اتجاه فضح الاستخدام السيئ للسلطة وامتهان حرية الانسان وكرامته واختياراته، وتبين من جانب آخر ترابط الكثير من الأنظمة والمؤسسات مع المنظمات الاجرامية صاحبة السطوة والقوة، من أجل ترويج بضاعتها، ولو كان الثمن آلاف الضحايا".