كان عنوان الحلقة السابقة في هذه الزاوية "وقد أكون مخطئاً"، وقلت إنني كنت أتمنى أن يكون هذا العنوان هو عنوان الزاوية الرئيسي بدلاً من "أحلام صغيرة". وما زالت هذه الخاطرة تلح على مخيلتي حتى الآن، لا عن عدم ثقة في النفس، ولا عن تواضع - لا سمح الله - فعندي من "البجاحة" ما جعلني أحاول جاهداً أن أعبر عن وجهة نظري، على مدى خمسة وأربعين عاماً، سواء بالكاريكاتور أو بالكتابة أو بالرسم للكبار والصغار على السواء. ولم أحس أنني محتاج أن أكتب فوق ما أرسمه أو اكتب عبارة "وقد أكون مخطئاً" إلا في هذه الأيام. ففي بداية اشتغالي بالصحافة، كان من حسن حظي أن أعمل في دار صحافية تضم كوكبة هائلة من أصحاب الرأي، كتاباً وسياسيين وأدباء وشعراء ورسامين، ولم نكن نحس أبداً أننا نعمل عند أصحاب الجريدة، بل كنا نشعر أننا نعمل معهم. وفي اجتماع التحرير كنا نتناقش ونتجادل في ما سيكون شكل العدد من المجلة، وترتفع أصواتنا بحماسة الشباب المعهودة وليس لمحاولة التغطية على أصوات الآخرين، ونرهف آذاننا لسماع الرأي الآخر فاتحين قلوبنا وعقولنا لاستيعاب ما يقال، ومقارنين بين ما قلناه وما قاله الآخر، من دون أي شعور بالرغبة في التمسك بواجهة نظرنا حتى لا ننصاع صاغرين لوجهة النظر الآخرى. كانت هذه حالنا في تلك الأيام، وحتى في سهرات "الحرافيش" مساء كل خميس أيضاً. و"الحرافيش" هم نخبة من كبار المبدعين في ذلك الزمن، على اختلاف إبداعهم. فيهم الروائي القصصي والشاعر والأديب الساخر والممثل والمخرج والرسام. وقد اختاروا أسم "الحرافيش" اقتداء بما كان يطلقه المؤرخون القدماء - كالجبرتي وابن إياس - على عامة الشعب، أو ملح الأرض. وقد شرفني عمنا - صاحب نوبل - نجيب محفوظ أن جلسة الخميس هذه كانت استرخاء من عناء العمل طول الاسبوع، إلا أنها كانت تدور فيها مناقشات غاية في الجدية، تسودها رصانة الكبار وتختلف عن حماسة الشباب الطازجة العفوية، ثم أسمع مذعوراً - أحدهم يقول: هذا الكلام غير مقنع بالمرة يا نجيب! فإذا بعم نجيب يرد من خلال ابتسامته الحنون وأهدابه يثقلهما التواضع الجم: قد تكون على حق، ولكن لماذا؟ وبدأت مناقشة، هي درس من المعرفة صيغ بفنية عالية على هيئة حوار، بل كنت أسمع احياناً عمنا نجيب العظيم يتوج نهاية المناقشة بكلمة: صحيح... الحق معك. آسف لأن كلامي هذا يشبه ما كنا نسمعه من الآباء والأجداد عندما يترحمون على أيامهم الخوالي، ساخرين من أيامنا التي لم تعد أياماً! ولكن أجدني مضطراً أن أحكي عن اسلوب الحوار في الماضي، أما الآن، فما أكاد أتعامل مع وسيلة من وسائل الإعلام المنظورة والمسموعة والمقروءة، حتى تنهال منها قذائف من الآراء الواثقة المتأكدة بالثوابت والقواطع بما لا يتيح لك أي فرصة للتمعن والتفكير فيما يطرحونه علينا. والأدهى والأمرّ إذا كان ما يقدم على شكل ندوة أو حلقة نقاش، فهذا هو بالضبط ما يسمونه حوار الطرشان، فكل مشارك يتكلم بثقة قاطعة باترة، من دون أن يستخدم أذنيه لسماع ما يقال حوله، على رغم أن الله خلق لنا فماً واحداً وأذنين اثنتين، بل أكاد أحس أن بعضهم يتكلم من فمه ومن أذنيه أيضا! وحكمتك يارب في ما خلقت. ومع ذلك فقد كنت أتصور أن لغة الحوار المفقودة هي إحساسي الشخصي وحدي، وقد أكون مخطئاً في إحساسي هذا، حتى انهال التعبير عن هذا الرأي من خلال النكت المروية التي تطلقها الشعوب تعبيراً عن سخرية الناس من وضع ما. يقولون مثلاً عن هذا الحوار المفقود أن بعضهم قال لزميل له أن ابنه شوهد يتعاطى المخدرات في الحديقة الخلفية، فما كان منه إلا أن قال ساخراً: يا للمبالغة... حالاً أطلقتم على مجرد شجرتين اسم حديقة؟! وهكذا عشرات النكات كلها تعبر عن حوار الطرشان أطلقها الوجدان الشعبي للسخرية من هذه الظاهرة. وبعد... أليست هذه الظاهرة جديرة بالتوقف عندها وبحث أسبابها؟ أم أنني قد أكون مخطئاً. فنان تشكيلي