} ما برحت قضية "الوليمة" اليمنية كما سمّيت قضية رواية "صنعاء... مدينة مفتوحة"، تثير سجالاً سياسياً ودينياً وخصوصاً بعيد الشروع في محاكمة الصحافي سمير رشاد اليوسفي الذي أعاد نشر الرواية في الملحق الثقافي الذي تصدره جريدة "الجمهورية" ويشرف هو على تحريره. والرواية المحظورة هي من عيون الأعمال الروائية في اليمن وكان أصدرها الروائي اليمني الراحل محمد عبدالولي في مطلع السبعينات. ولعل ما كتب عن قضية الرواية من مقالات وشهادات وبيانات كاد يطغى على الرواية نفسها وعلى الروائي الراحل. ماذا تتضمن الرواية؟ ومَن هم أبطالها وأي أحداث تناولت؟ هنا قراءة نقدية في الرواية: صنعاء حلم الحالمين، وهاجس الأدباء، صنعاء هي التاريخ... هي الحضارة، صنعاء هي الحياة والدفء: هكذا يراها الكثيرون، فهل كانت هذه صنعاء محمد عبدالولي؟ أم كانت له صنعاؤه؟ كلمات ثلاث عنوان روايته "صنعاء... مدينة مفتوحة" كلمات عميقة دلالات أعمق، كلمات تفتح أمام الباحث آفاقاً واسعة في البحث... منفتحة على ماذا؟ مفتوحة أمام كل من يدخلها؟ مرحبة بالجميع، لا تغلق أبوابها في وجه أحد؟ مفتوحة على العالم حضارياً... اقتصادياً؟. ترى هل نجد هذا المعنى عند الولوج الى عالم الرواية؟ أم نجد شيئاً آخر؟ أم أن ثمة معاني أخرى يكتشفها القارئ كلما تمعن في قراءة الرواية؟ تبدأ الرواية في القرية لا في صنعاء، و"نعمان" - أحد أبطال الرواية - يكتب أول رسالة لصديقه، ذلك الصديق الذي تعلم منه معنى الصداقة، تعلم من كتبه التي تركها له أشياء كثيرة كان يجهلها. فالقرية بالنسبة الى نعمان غير صالحة للحياة، فهي "مقبرة الأحياء" ومكان تعشش فيه الخرافة "حكاية نزول المطر". ولكنها - أي القرية - رمز الحب الصادق النقي "فتاة الجبل السمراء". والقرية مكان جميل للتأمل والهدوء والبعد عن كل الناس، هي تلك العلاقات المتشابكة والتي لا يستطيع أي شخص أياً كان، الهروب منها. يظهر ذلك في عملية إنقاذ الناس من تحت الأنقاض بعد كارثة المطر التي أصابت القرية. القرية هي الأصل، ففيها أبوه وأمه، وفيها زينب حبه الأول، وكان أصر على الزواج منها على رغم معارضة الجميع. لكن "نعمان" يتوق الى العودة الى عدن، على رغم شعوره بالغربة داخل قريته لاختلافه عن أهلها، لكنه على رغم كل هذا يشعر بحبه وارتباطه العميق بهذه الأرض / القرية: "وداعاً يا قريتي... وداعاً يا زوجتي... وداعاً يا كل أحبائي. لن أنساكم مهما كان بيننا... لأن المأساة الكبيرة تجمع بيننا". غادر نعمان القرية الى عدن، الى مقهى "الحاج علي". فهل كانت عدن أحسن حالاً من قريته؟ كلا: "الحياة في عدن فقدت جمالها وفقدت سحرها. لقد أصبحت ميتة". أصبحت عدن في نظر نعمان ميتة مثلها مثل قريته التي سبق أن وصفها بهذا الوصف. عاد نعمان الى عمله متحمساً أكثر من قبل، لأنه أصبح على عكس ما سبق يعي مسؤوليته أمام عائلته وكذلك أمام قريته التي تركها تغوص في الأوحال خالية من الزرع شبه خالية من الحياة بعد أن جرفت زرعها ومدرجاتها وبعض مواشيها السيول وهي كانت مصدر شقاء للقرية لا مصدر خير. كان مقهى "الحاج علي" يضم الكثير من الناس، كل له مأساته وأسراره. والى جانب نعمان كان الصنعاني الغامض الحاقد بحسب وصف الرواية له. وكان البحار ذو البشرة السمراء، وكان هناك آخرون، كان الصنعاني لغزاً محيراً لنعمان لكنه في احدى الليالي وأمام الحاح نعمان ينفتح ويعرف نعمان حكايته، حكاية "صنعاء... مدينة مفتوحة". كان الصنعاني يحلم - شأنه شأن كل يمني - يحلم في امتلاك دكان ومنزل وأن تصبح ابنته الوحيدة دكتورة، أو أي شيء آخر، لكن المحنة تلف صنعاء فجأة ويبيحها الإمام للقبائل بعد فشل ثورة 1942. أباح كل شيء وأصبحت صنعاء ملكاً للآخرين الذين أتوا لنصرة الإمام، فأحرقوها ونهبوا كل ما تقع عليه أيديهم وقتلوا ما استطاعوا. كانت دكان الصنعاني من ضمن الدكاكين المنهوبة وكذلك كان بيته، والأبشع كان قتل زوجته وابنته الوحيدة، الأمل الوحيد للصنعاني بعد أن فعلوا بزوجته ما فعلوه..... هنا يتبدد الحلم، ويفقد الصنعاني صوابه ويخرج. يأخذ بندقية أحدهم، ويقتل كل من تقع عليه عيناه، غير مبال، يقتل لمجرد القتل، ثم يترك المدينة ويرحل، لا يعرف الى أين؟ أو ماذا يريد؟ حلم الصنعاني لا يختلف عن حلم عبده سعيد في رواية "يموتون غرباء" لكن الفارق أن الأول يحلم ولا يحقق شيئاً، بل يقضي الإمام على كل أحلامه البسيطة، والثاني يحقق على صعيد الواقع للآخرين كل ما أراده لنفسه، لكنه لم يعش هذا الحلم ولم يتمتع به بل زوجته وابنه هما مَن تمتعا به، والكاتب ربما يريد القول انهما اللذان يحلمان وهما اللذان يجنيان ثمرة أو ثمار هذا الحلم. والكاتب وفي كل أعماله يدين الهجرة على أنواعها ويعتبرها خيانة للأرض وللوطن وهي - أي الهجرة - عدم فهم للواقع، هروب يعمق المأساة... وهذا ما شعر به الصنعاني أخيراً. فبطل الرواية "نعمان" وعلى رغم ما يظهر عليه أحياناً من شطحات فردية، يقيم علاقات حميمة بينه وبين القرية وبين زوجته وفتاة الجبل السمراء. وهو يربط بين جمال هذه الفتاة وجمال قريته "سمراء بلون الأرض". إنها علاقة حميمة بالمكان، بالناس. فهو شديد الارتباط بأصله وشديد الاعتزاز به: "... إن هذه الأرض لن تنفصل عنكم مهما هربتم منها. إنها جزء منكم تطاردكم ولا تستطيعون منها فكاكاً، أنتم يمنيون في كل أرض وتحت كل سماء". يشفق على المرأة ويرثي حالها التي لا تختلف بؤساً وشقاء عن حال اليمن، وكأن واقع اليمن يجسده واقع المرأة، فهي تكبر فجأة وتشيخ قبل أوانها كزينب زوجته التي أحبها "أصبحت الآن عوداً يابساً... على رغم انها لم تتجاوز الخامسة والعشرين... عجوزاً كأنها على أبواب قبرها، إنها منهكة مريضة". وغالباً ما يربط الكاتب بين الأرض والمرأة: "كانت الأرض تبدو كعجوز... تحطم كل شيء فيها وبانت الأخاديد على وجهها... كانت مثل أرضنا شابة وخطها الشيب سريعاً... حتى الأشجار التي كانت تزين مدخل القرية قد تحطمت بفعل الرياح". هذه هي حال القرية بعد أن حولتها السيول والرياح الى قرية محطمة مهددة بالمجاعة وبعد أن جرف السيل الزرع والثمار وبعض الماشية. وعلى رغم هذا فحكام الإمام لا يرحمون ولا يبالون بمأساة القرية وما آلت اليه الحال، فهم يرسلون عساكرهم لجمع الضرائب وفرض الزكاة. وعندما ينتقل الكاتب ببطل روايته الى عدن فهي ليست أحسن حالاً من صنعاء المدمرة التي استباحها الإمام، لقد أصبحت شبه ميتة، ومعظم العمال أصبحوا من دون عمل والبؤس يظهر على وجوههم وملابسهم، بعد أن فصلوا من أعمالهم نتيجة تظاهرهم ضد المستعمر الذي كان يتحكم في كل شيء. واذا كانت صنعاء وكل قرى الشمال تعاني ظلم حكم الإمام، فإن عدن كانت تعاني من المستعمر الانكليزي، فكلاهما يعيش مأساة ويعيش واقعاً مراً. لا يقف الكاتب عند واقع صنعاءوعدن والقرية، بل ينتقل الى مدينة أخرى، الى مدينة كانت احدى القلاع العلمية في اليمن، تلك هي مدينة "زبيد". لكن زبيد لم تعد زبيد وأهلها أصبحوا خارج العصر لما أصابهم من جمود وتخلف بعد أن كانت "زبيد منارة للعلم منذ عرف اليمنيون العلم وظلت قروناً شعلتها... مآذنها القديمة وبيوتها ذات البناء التاريخي.... هناك خارج أسوار المدينة... تلك الأسوار التي صدت عن زبيد غارات المتوحشين وحفظت لها شعلة العلم هي الأسوار التي صدت عن المدينة تدفق شعاع العلم الحديث". فالأسوار هنا رمز للجمود والإحاطة التي أصابت اليمن أثناء حكم الإمامة. ويمضي الكاتب في وصف حال الناس، وكيف اصبحوا يعيشون على ما تجود به المقابر، يصلّون ويأكلون مما ينفقه الأغنياء على موتاهم وخصوصاً في الأعياد والمناسبات. والمحنة التي أصابت مدن العلم في اليمن، أصابت أيضاً المتعلمين والمثقفين، وأصبح التعليم نقمة على صاحبه، وقادهم "علمهم ذلك الى غياهب السجون". اصابت المحنة زبيد وطلاب العلم وجعلتهم يعيشون في فقر مدقع بعد أن كانت زبيد تستقبل طالبي العلم من كل أنحاء البلاد: "أين الأرض يا بني... أين الأوقاف... التي أخذتها الحكومة... بدعوى أنها ستتكفل بكل شيء فذهبت الأرض. وذهب العلم.". هنا تكمن المأساة: استولى آل حميد الدين على البلاد واستأثروا بكل شيء لأنفسهم وقضوا على أماكن العلم وحولوا طالبي العلم وسكان المدينة الى شحاذين. والكاتب وهو يمضي في وصفه محنة زبيد وما آلت اليه، لا ينسى المرأة، فهي "تشارك الرجل في كل شيء. حتى تشرده". وهنا عرف البحار حال المدينة والعلم، وأدرك من كلام الفقيه الذي أحبه، أنه اذا أراد البقاء في المدينة وأراد أن يتعلم فما عليه إلا أن "يعمي بصره... حتى لا يكشف حقيقتهم لكي يستطيع أن يعيش". لكنه رفض هذه الحياة وهذه العبودية بعدما أصبح له مكان في بيت الحاكم ومكان آخر في بيت عامل الإمام. رفض حياة العبودية بعد أن رأى نفسه يحقق للآخرين ما يريدون في مقابل أن يعيش ويتعلم بعد أن رفض "من قبل عبودية العمل في دكان ليقع الآن في عبودية... المرأة". وحال مدينة "الحديدة" أكثر بؤساً من زبيد، ما إن يطل عليها البحار وتقع عليها عيناه حتى يراها تحترق والناس يصيحون ويهرولون، ولا يستطيعون فعل شيء: "لا أمل. ولكن أتحترق المدينة كلها؟... فتعود الرؤوس تهتز مرة أخرى... من قال ذلك؟". هذه هي حال مدن اليمن كما وصفها الكاتب وهذا هو التقسيم الاجتماعي السائد: أغنياء وفقراء، والفقراء لا حياة لهم فهم شبه أموات، لا يحس بهم ولا يهتم لوجودهم أو مأساتهم أحد. يعود بنا الكاتب وعلى لسان "نعمان" الى عدن وقد زادت الأوضاع سوءاً وزادت أحوال الناس تعقيداً، خصوصاً بعد إغلاق الكثير من الشركات بحجة إفلاسها، وطرد العمال، وتحول الناس الى أكوام تتكدس في الحانات والمقاهي والشوارع، لا عمل لهم سوى الفراغ والتأمل في المجهول، ومن هؤلاء العمال الذين طردوا من أعمالهم الصنعاني ونعمان: "عدنا الى الضياع من جديد". تغير نعمان بعد أن عاد من قريته وأدرك للمرة الأولى مدى ارتباطه بالقرية، فالقرية له هي الحلم الذي سيولد، والأمل - الحقيقة الذي ينتظره كل اليمنيين. أما عدن "فلا شيء سوى جسد ميت بلا قلب، مجرد آلة كبيرة تلتهم الناس والجبال والمعادن". هكذا أصبحت عدن بعد أن استباحها المستعمر، واستباح كل خيراتها وثرواتها، واستباح معها التحكم بأرزاق الناس وأعمالهم. طالت يده كل شيء، ووضع يده على كل شيء، أمام هذا الفقر والضياع وهذه الحال التي وصل اليها جميع من في المقهى من عمال. فكر نعمان بالعودة الى قريته التي تركها، وترك فيها زوجته وهي تضع أول مولود لها وماتت فيها. هي تلد طفلها الأول، أول مولود لها، وفيها أيضاً ماتت محبوبته فتاة الجبل السمراء، تلك الفتاة الجميلة التي سحرته بجمالها. ويعود الصنعاني مع نعمان الى الشمال وكان نعمان وهو فوق السيارة يتذكر تلك الأغنية الصنعانية الحزينة. يقول الصنعاني: "ماه يا نعمان شانعود الى صنعاء...؟" نعم يا عزيزي سنعود الى صنعاء... - "ماه شايقولوا علينا مزفرين؟". فالعودة من عدن الى صنعاء تعني أنك مزفر، وكلمة مزفر باللهجة الصنعانية تعني "مطرود". وعندما يصلون الراهدة يعكر صفوهم وفرحهم بالعودة ذلك العسكري الذي يلتقيهم عند باب الجمرك "ماه أنتم مزفرين؟... نحن عمال كنا ضد الاستعمار... وقهقه البغي... عتعملوا إضراب ضد مولانا الإمام عيوديكم حجة". هذا هو استقبال صنعاء لهم: عسكري يسخر منهم ويهددهم بالسجن إذا حاولوا أن يثوروا ضد الإمام مولاه. يسمعون هذا الكلام وهم عند أول جمرك بين الشمال والجنوب في ذلك الوقت. كان الصنعاني وهو في الطريق يفكر بعودة البحار ومحمد مقبل، لكن نعمان كان على العكس: "ليس هناك فرق". عند نعمان لا فرق بين بقاء البحار ومحمد مقبل في عدن أو عودتهما الى صنعاء. كلها أرض اليمن. وإذا استطاع أي شخص أن يفعل شيئاً ضد الاستعمار في الجنوب أو الإمامة في الشمال فذلك هو المطلوب من كل يمني. محمد عبدالولي لم يكن يرى اليمن مجزأً أو منفصلاً. فصنعاء هي عدن وعدن هي صنعاء. إذاً فصنعاء محمد عبدالولي هي كل اليمن، هي ذلك الهم الكبير الذي كان يشغل نعمان والصنعاني والبحار... فصنعاء هي مدينة المدن، مدن العلم كزبيد، والمدن الساحلية عدن، الحديدة وهي كل قرية يمنية تعيش جهلها وصمتها وفقرها وكابوس عساكر الإمام. وهي صنعاءالمدينة الحزينة، مدينة الحلم والجمال وكلها مستباحة من عساكر الإمام وحكامه. ومحمد عبدالولي يعتبر من أكثر المثقفين اليمنيين إيماناً بوحدة اليمن، فهو لا يعترف بشمال وجنوب، واليمني هو اليمني في كل أرض وتحت كل سماء. وهو لذلك يجسد الوحدة في تنقل الناس بين مدن اليمن وتعايشهم مع بعض من دون أي مشكلات، بل يقيم بين الجميع على مختلف مشاربهم ومناطقهم علاقات حميمة وودودة. لم تظهر في صنعاء... مدينة مفتوحة أي نعرة أو خلاف تنفي ما أراده الكاتب في تعميق أو ترسيخ مفهوم وحدة اليمن. ولا جدال في أن محمد عبدالولي استفاد بدقة من المرجعية التاريخية والاجتماعية لتصوير مرحلة هي من أشد المراحل ظلماً وتخلفاً في حياة اليمنيين، وانعكاساتها على مختلف مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. هذه هي صنعاء محمد عبدالولي وهذه هي اليمن كما رسمها وصوّرها الكاتب في تلك الفترة. ترى لو عاش كاتبنا المبدع الى الآن، ماذا كان سيكتب عن صنعاء؟ وماذا كان سيقول؟ وكيف كان سيراها؟...