تفترض كتابة رواية ما شبكة مرهفة من العلاقات فيما بين مكوناتها، كل الروافد يجب أن تصب هناك، الأحداث الشخصيات، التداعيات، والذكريات، الصدف، والأقدار ترى أي شبكة من العلاقات يمكن أن نجدها في رواية تعنى بأزمة الوجود ؟ دعوني أبدأ بالعنوان الذي اخترته لهذه التأملات في رواية "الطين". العنوان هو "غابة سردية تشبه الوجود" الغابة استعارة للسرد في الرواية.. الاستعارة أبدعها بورخيس للنصوص السردية التي تتفرع وتتشعب كالغابة، حتى الغابة التي ليس فيها طرق مسلوكة فهي تتيح لكل منا أن يجد فيها ممراته الخاصة، يحدث ذلك عندما تعترض أحدنا شجرة فنختار الممر الأيمن أو الممر الأيسر المحاذي له . أما أنها تشبه الوجود فلأنها تصور الإنسان في متاهة يتحسس فيها طرقها المتشعبة "الإنسان الذي بني متاهته الخاصة ، متاهته الفكرية عله يستطيع أن يجد تفسيراً للمتاهة الكبرى، المتاهة الأم، الكون الذي نضل فيه جميعاً، الواقع الذي صنعه الإنسان بيده ثم جلس محاولاً أن يجد له تفسيراً ". فيما بعد سيكون لحديثي بقية، الآن دعونا نتلمس طريقنا في رواية الطين، الرواية الغابة التي تشبه الوجود. يروي الفصل الثاني أحداث يوم من أيام الدكتور حسين مشرف، لم يكن يوما عاديا فقد زاره مريض عائد من الموت، كان المريض يردد "أذكر أنني من، الآن أذكر هذا جيداً لست واهما البتة" لم يكن رد فعل الدكتور في مستوى ما يقال ، كان رداً عادياً "من أي مقبرة خرجت ؟ " ولأنه كان كذلك فقد غادره المريض قائلاً "إذا شعرت بتفاعلك معي سأروي لك كل شيء" . يمتاز هذا اليوم بمغزى خاص عند الدكتور حسين، فمنذ ذلك اليوم فقد طريقه في قلب الوجود مثل راو ضيع خيط حكايته ، اصبح معذباً بأحاديث هذا المريض، سخر جل وقته لإثبات مقولات مريضه أو نفيها حتى غدا هو نفسه المريض. منذ ذلك اليوم وجد فيه تشابها يجمعهما لبسا بين حالتيهما، تأكيداً صارخاً لهما معاً يتحدث عنه كما لو كان يتحدث عن نفسه، كما لو أنه حاول مرة أن يكونه، إن ما حدث في ذلك اليوم يتخذ عند الدكتور حسين أهمية حاسمة حيث فقدت أفكاره ومفاهيمه ونظرياته صلابتها وتقاعدت فوق حافة عقله، كما أنه يوم يتخذ أهمية حاسمة عندنا نحن القراء حيث اعتقدنا أننا امتلكنا الإجابة فجاء هذا المريض ليغير الأسئلة كلها. كل ما حدث بعد ذلك اليوم أهل لأن يكون موضع تأمل وتحليل، لكن يوجد حدث يستحق الانتباه أكثر من غيره ليس بسبب جماله حيث يرقص شخصان تحت الشمس، أحدهما الدكتور حسين والآخر المريض الذي ادعى أنه عائد من الموت، كان المريض يرقص كراقص متين بملاحقة نغمة هاربة من عود أضناه الوجد فاستهام وانتشى مرفرفا ومحلقاً في رقصه. أقول ليس بسبب جمال هذه اللحظة المعلقة التي انتزعت من سياق الزمن، لحظة بدلا من أن تؤول إلى العدم بقية اللحظات بعثت حية كي يرف فيها جسدان، أقول بل بسبب شيء آخر هو تحت الشمس كان هناك فراغ، لم تكن هناك استجابة لضوئها فقد كان المريض بلا ظل . منذ هذا المشهد لم يشاهد الدكتور حسين مشهداً آخر، لقد بقي في ذاكرته مثل أثر من برق، مشهد أخيراً من عالم لم يعد يحبه، منذ هذا المشهد اختلطت جميع مفاهيمه ونظرياته وتطايرت مثل عصافير وجدت باب قفصها مفتوحاً . كيف حدث هذا ؟ كنت أفكر أنا قارىء الرواية : يستطيع أي منا أن يضع حدا لأي شيء يلازمه لكنه لا يستطيع أبداً ان يضع حداً لظله ظلنا معنا راهن وموجود ، إنه يتبعنا أو نحن نتبعه يلازمنا أو نحن نلازمه، دائم الحضور معنا أو نحن دائمو الحضور معه، أبدي لا يمكن أن نتخلص منه، ظلنا هو أفضل وجودنا لا شيء بيدنا نفعله حياله. نحن مخلوقات ضعيفة أمام ظل يطأ الأرض بخفة بالغة، ظلنا دعم لوجودنا ، أنا موجود، إذن ظلي موجود ، أو ظلي موجود، إذن أنا موجود ، هذا ما كنت أفكر فيه، الآن أتراجع عن هذا كله أتراجع عما فكرت فيه، أنا الذي تعامل مع ظله كأنه هو . عند هذا الحد سأتعاون مع الدكتور حسين، لن أسأله إن كان حدث هذا حقاً، سأقول : كان يروي، ربما حدث أو لم يحدث، لكن مزيته أنه يحدث في كل مرة تقرأ فيها الراوية ، إذن الرواية تقدم مشهداً راقصاً تحت الشمس بلا ظل بحيث تجعله يحدث، كيف حدث هذا ؟ لنتابع مع الرواية . أمام المشهد ارتبك الدكتور حسين، خطف بصره لمعة اللغز "جسم بلا ظل" لم يكن قادرا على استجماع أنفاسه اللاهثة، لكنه تجاوز تعقيد اللحظة بمفهوم تقليدي "أنت لست إنساناً " فيما بعد اعتراه شعور مفاجىء بكشف هائل للحجب يثير الذهول، فكر في أن لهذا اللغز منطقه الخاص، وأن هذا المنطق موجود في جوهر تكون فيه الأشياء والكائنات في شيء واحد، بعد لأي اقتراح في مفكرته الخاصة أن مريضة يسير بسرعة الضوء لذلك حتماً لن يكون له ظل. عند الدكتور حسين ليست السرعة مجرد عكس للبطء والتمهل بل هي طريقة للعيش والسكن في هذا الكون إنها تحدد وجودنا وعدمه، وجود الأشياء وعدمها تفسر التقاءنا بالموتى أثناء الحلم، الميت تتباطأ سرعته فيعود إلينا، أو أن سرعتنا نحن الأحياء تتسارع فنخترق الوجود المعاش إلى الموت، السرعة تفسر اتصالنا بعالم الجن والملائكة تفسر حبنا بعض الافراد وكرهنا آخرين، تفسر الانتقال من زمن إلى زمن ، تفسر التداعي الحر وتداعي الخواطر ، تفسر أننا لا نعيش وحدنا في هذا الكون فهناك أشكال تمتلك سرعة مهولة فتختفي في وجودنا المكاني الذي نعيش فيه. السرعة عند الدكتور حسين هي التي تفسر الزمن، وهي التي تفسر لحظة النشوة حينما نذوب ونتلاشى كي يصبح زمننا صفراً، هي التي تجعلنا نتصور أن هناك حيوات متعددة بسرعات وترددات مختلفة، بسبب السرعة نحن نعيش في دوائر زمنية، في أمكنة ذات ترددات مختلفة وفي دائرة واحدة هي الحياة. إن الدكتور حسين راو لا يحب السهولة واليسر لا في الكتابة ولا في الحياة، أما حالة مريضه لم يعد يفكر فيما قاله الأطباء النفسيون وهو أستاذ علم النفس، لم يعد يفكر في النظريات والقوانين، يكتب في مسودة تقريره الأول الرائع " إن جوهر الوجود يستوجب الدوران حول الذات البشرية ، ثمة طريق آخر إلى الحقيقة ، نحن في حاجة إلى بحارة يعشقون الهجرة والبحث فأولئك المكتشفون لمخابىء الأرض بحثوا عن أقصر الطرق وأيسرها للوصول من نقطة إلى أخرى، نحن في حاجة إلى من يوصلنا إلى تلك النقطة القصيرة التي ربما تقلب مفاهيمنا العتيقة عن هذا الوجود" لقد وجد تلك النقطة القصيرة في السرعة. في مقابل هذا البحار الذي يعشق الهجرة والبحث وجد في الرواية من يبحث عن أقصر الطرق وأيسرها من أجل الوصول إلى الحقيقة، عالم النفس يقول حالة مريضه هي عصاب الوسواس القهري، علم الاجتماع يقول حالة مريضه نتيجة تعدد الواقع بشكل فظيع، عالم الدين يقول إنه حالة عجيبة من آيات الله فأغرب الحالات هي التي وهبها الله. علم السحر يقول انه سأل مردته فلم يعرفه أحد، أما أحد الشيوخ فيقول (ما رأيتك إلا منحرفاً أو ضالا، إنها زندقة) لقد كانت معرفة هؤلاء كلهم أمام هذا المريض كالساعة التي لا تمل من الدوران لكنها لا تضبط الوقت. السرعة من حيث هي مفهوم مجرد هي ما تسعى الرواية إلى عرضه، وما تسرده الرواية ليس إلا تنويعات على هذا المفهوم، فيما بعد سأجد وقتا كي اتوقف عند هذا التنويع، ما يهمني هنا هو أن السرعة مفهوم يسكن الرواية التي قلبت هذا المفهوم على كافة وجوهه، غامرت به بعيداً حتى وصلت به إلى حافة الهاوية، إلى الطرف الآخر من الفكر، على ضفاف غامضة مبللة حيث ما زال كل شيء طريا، لقد فتحت الرواية ثغرة واسعة في معرفتنا فاصبحت معرفتنا كتذكار يحيى ذكرى لا شيء. في لحظات البلبة هذه، لحظات قلب المفاهيم وخلخلتها من الطبيعي أن تتخلى الرواية عن "وحدة الفعل" أن تتخلى عن "التوتر الدرامي" الذي يحول كل عنصر من عناصر الرواية إلى مجرد مرحلة عابرة تقود إلى نهاية الرواية. لقد فعل عبده خال هذا مرات، فعله في روايات "الموت يمر من هنا" و "مدن تأكل العشب" و "الأيام لا تخبىء أحداً" في هذه الروايات اختزل عبده خال كتابتها إلى ما يعتبر الشيء الجوهري أعني بداية ونهاية وما بينهما سلسلة من الحيل السردية والوظائف مبررها هو أن تكون أمينة لإجاباتها، اعني المنطق المألوف في بناء الرواية من حيث هو الاشيع، ومن حيث هو القوة الأكثر فعالية وتماسكاً من الحلم والواقع. في هذه الرواية تغيرت الأسئلة شيء ما تحدى الإدارك وتجلى على نحو تعسفي مستقلا عن أي رغبة، ومخالفا لأي وصف، شخص بلا ظل ويقول كما لو يقرأ في كتاب الخيال لذلك من الطبيعي أن يكون بناء الرواية قائما على تضاعف الاستطرادات، والشذرات، والوقفات الفلسفية. إنها رواية كالغابة حيث يجد المرتاد وقتا يضيعه ولا يحسب خطواته ، مرتاد لا يعشق شيئا أكثر من عشقه التوقف في كل لحظة من أجل أن يتحدث وينظر ويستمع، هنا سنجد في رواية (الطين) سمات شكلية لم تكن موجودة في الروايات التي اصدرها عبده خال.