في العام 1986 كان عبد القوي (51 سنة) من بين الذين نزحوا إلى شمال اليمن جراء الاقتتال العنيف الذي شهدته مدينة عدن بين مجموعات متصارعة داخل الحزب الاشتراكي الذي كان يحكم مناطق الجنوب. وعندما نشبت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب صيف 1994 متخذة صنعاء وعدن هدفاً لقذائف و»غزوات» المتحاربين، بدت الآفاق أمام عبد القوي شبه مسدودة. فلا وجهة يمكن أن يلوذ بها من الحرب، إلا أنه ما لبث أن تذكر منزل جده في منطقة شرجب في محافظة تعز، مسقط رأس والده الذي غادر المنطقة قبل ما يزيد عن 70 سنة. فما كان من عبد القوي إلاّ نقل عائلته إلى القرية حتى تنتهي الحرب. والأرجح أن هذه الذكريات الأليمة لم تكن لتعاود الموظف الحكومي عبد القوي، لولا القتال الذي شهدته العاصمة صنعاء الأسبوع الماضي بين القوات الحكومية الموالية للرئيس علي عبد الله صالح وجماعات قبلية مسلحة تابعة للشيخ صادق الأحمر المؤيد للاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيل الرئيس اليمني من الحكم. ويقول عبد القوي: «لم يخطر لي أن ثالثة الأثافي ستقع، وإنني سأضطر مجدداً إلى ترحيل عائلتي إلى عدن» ضمن عائلات كثيرة غادرت صنعاء هرباً من الحرب. تعكس حكاية عبد القوي جانباً من معاناة سكان المدن اليمنية خلال النزاعات المسلحة، وهي معاناة لا تقف عند البشر بل تمتد إلى المكان. وسجل عدن حافل بقضايا العقارات والأراضي المغتصبة أثناء الحروب. وكان الحراك الجنوبي الداعي إلى الانفصال نهض أصلاً على قضايا مثل السلب المفرط للأراضي من قبل نافذين شماليين، والمفارقة أن تندلع المواجهة المسلحة الجديدة بين من كانوا في الأمس عصبة واحدة في الحرب على الجنوب ونهبه. وهناك من يطالب أولاد الشيخ الأحمر وقائد الفرقة الأولى المدرعة الذين اعلنوا انضمامهم لثورة الشباب بأن يبرهنوا على صدق «ثوريتهم» من خلال إعادة ما «استولوا عليه أثناء تحالفهم مع الرئيس صالح ومنها منزل الزعيم الجنوبي نائب الرئيس السابق علي سالم البيض». وعلى رغم التغيير الذي طرأ على النظام السياسي والاجتماعي، إلا أن المدينة اليمنية لا تزال تعد فضاء لممارسة الحرب وقرباناً لها، ونادراً ما راعت الأطراف المتنازعة سلامة المدنيين، ولم يحدث أن قدم أي فصيل اعتذاراً عمّا سببه لسكان المدن من آلام ومآس. وإضافة إلى اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية واستهدافهم، غالباً ما يهدد الحاكم سكان المدينة بالسماح للقبائل بنهبها ما لم يدفعوا له «الإتاوات». وتشكل استباحة المدن ذاكرة تحيل إلى الحرب، وقد سجّل الأدب اليمني مثل رواية «صنعاء مدينة مفتوحة»، مآسي الحرب على المدينة و سكانها. وتفيد بعض المصادر التاريخية بأن الأخدام وهم الفئة الأكثر فقراً وتهميشاً في اليمن، هم من بقايا دولة بني نجاح في زبيد والذين تمّ أسرهم واستعبادهم بعد سقوط دولتهم سنة 552 ميلادية. وتعدّ عدن نموذجاً للعبث الذي أصاب معنى ومقومات المدينة. وتتذكر أم غسان «أيام زمان عندما كانت سلطات الاحتلال البريطاني تطبق قوانين صارمة يخضع لها الجميع لدرجة أن حمل العصا قد يعرض صاحبها للمساءلة». وتتحسر قائلة : «السلاح اليوم بمتناول الجميع حتى الأطفال». وكان مجلس النواب رفض إقرار قانون قدمته الحكومة يُنظّم حمل السلاح، على رغم امتلاك الحزب الحاكم أغلبية برلمانية تسمح له بتمرير القوانين. ووفق أستاذ علم الاجتماع في جامعة عدن الدكتور مبارك سالمين فإن اتخاذ «المدينة ساحة حرب ومرتعاً للسلب والغنيمة يعود إلى النمط الريفي للمدينة اليمنية وطبيعة الثقافة السياسية المحركة للقوى المتصارعة». ويُشير إلى افتقار المدينة اليمنية للتراكم الحضاري الذي من شأنه وقايتها من الحروب. ويقول سالمين إن النظام السياسي لم يعزّز روح المدنية بل على العكس عمل على ترييف المدن، مرتكزاً إلى انتشار ما يُعرف بعقّال الحارات كمرجعية يحتكم إليها. محل المؤسسات. ويرى سالمين أن اعتبار المدينة مركزاً للثروة ورغد العيش جعل منها ساحة حرب وفضاء للغنيمة. وفي الحرب تستهدف الخدمات مثل الماء والكهرباء، وأحياناً تعمد القوى المتصارعة إلى منعها عن السكان أو بعضهم لأغراض سياسية مثل الخضوع أو للتجييش ضد الطرف الآخر. وأفيد عن حوادث نهب تعرضت لها منازل قريبة من حي الحصبة الذي شهد الأسبوع الماضي مواجهات استخدمت فيها أسلحة ثقيلة وخفيفة. وكانت الحرب الأهلية صيف 1994 انطوت على حوادث نهب بعضها لا يخلو من الغرابة والطرافة، ومنها استيلاء بعض القبائل على دبابة مصفحة ما اضطر وزارة الدفاع لاحقاً أن تشتريها منها. ولئن دأب اليمنيون على وصف بلدهم ببلد الحضارة والحكمة والإيمان إلا أن لا شيء من هذا في الواقع... وما انفك اليمني يؤرخ حياته تبعاً للأشياء التي يستولي عليها في حروبه، حتى أصبحت «تذكاراته... منهوباته».