من اللافت النظر أن وسائل الإعلام في معظم بلاد الوطن العربي لم تعط الاهتمام الكافي للدورة الاستثنائية التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في الفترة بين 5 و9 حزيران يونيو الماضي عن المرأة تحت شعار "بكين " 5 - المرأة 2000"، وذلك على رغم أن هذه الدورة ناقشت عدداً من المشكلات الحيوية التي تتصل بالمرأة والمجتمع الانساني المعاصر وصدر عنها عدد من القرارات والتوصيات المهمة التي ورد ذكرها في الوثيقة الختامية التي تقع في أكثر من اربعين صفحة، ويعتبر مؤتمر "بكين " 5" الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤتمرات والندوات الدولية التي تعالج مكانة المرأة ودورها في المجتمع الحديث والتي بدأت من الناحية العملية العام 1975 الذي اعتبر العام الدولي للمرأة. وظهر ذلك العام عدداً كبيراً جداً من المؤتمرات والاجتماعات التي عقدت في عدد كبير من الدول، وربما كان من أهم هذه المؤتمرات المؤتمر الدولي العام للمرأة الذي عقد في برلين من 20 إلى 24 تشرين الأول اكتوبر 1975 وقام بالتحضير له الاتحاد النسائي الديموقراطي العالمي وحضره ممثلو 140 دولة وزاد عدد المشتركين فيه على 1700 عضو إضافة إلى ممثلي المنظمات المتخصصة في هيئة الأمم والمنظمات الدولية والنسائية والعمالية وغيرها. وكان آخر تلك المؤتمرات الدولية العامة مؤتمر الصين العام 1995 الذي انتهى بإصدار إعلان ومنهاج عمل بكين والذي يعتبر تتويجاً لما يعرف باسم عقد المرأة 1976 - 1985. ثم جاءت أخيراً هذه الدورة الاستثنائية التي تشير ضمناً في عنوانها إلى مؤتمر الصين 1995 حين تحمل عنوان "بكين " 5 - المرأة 2000". ولكن، على رغم كل هذه المؤتمرات والندوات والمؤازرة الدولية، وعلى رغم كل ما أحرزته المرأة من تقدم في كثير من المجالات، فثمة شعور عام لدى قطاعات كبيرة من الرأي العالمي المستنير - فضلاً عن رأي النساء أنفسهن - بأن المرأة لا تزال متخلفة بدرجة كبيرة وراء الرجل في ميادين كثيرة، كما أن الرجل لا يزال ينظر الى المرأة حتى في المجتمعات المتقدمة أو الراقية على أنها أقل منه منزلة وأقل قدرة على الإسهام في تقدم المجتمع الانساني عموماً. بل إن هناك من الرجال من يرون أن المرأة المعاصرة انتهت وضلت طريقها وضاعت تماماً بعد أن خرجت عن نطاق دورها التقليدي المتوارث منذ آلاف السنين. والمرأة نفسها تشكو من تميز المجتمع عموماً للرجل على حسابها وترد ذلك إلى أن الثقافة السائدة في المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان هي ثقافة ذكورية تعطي أولوية تكاد تكون مطلقة للذكر على الأنثى وتميل إلى تهميش دور المرأة في المجتمع والتهوين من فاعليتها في شؤون الحياة العامة. وهذا الشعور كان وراء كل الحركات النسائية التي تنادي بضرورة الاعتراف بحقوق المرأة المدنية والسياسية وتطالب بمساواتها بالرجل، ومن هنا كان شعار مؤتمر "بكين " 5" هو المساواة - التنمية - السلام فهو يعطي أهمية خاصة لمشكلة المساواة بين الرجل والمرأة في المحل الأول وبين سائر الشعوب والمجتمعات والثقافات ويعتبر تلك المساواة أساساً يمكن أن تقوم عليه فلسفة التنمية ومشاريعها وكذلك سياسة السلام. وذهبت حركات نسائية حديثة في مطالبتها المشروعة بإقرار حقوق المرأة الى شيء من التطرف، كما هو واضح في ما يعرف باسم النزعات النسوية وما بعد النسوية. أو ما يسميه بعض الكتابات العربية بالنزعة "النسوانية" ترجمة لكلمة FEMINISM وهي نزعات واتجاهات تقوم على أساس التحليل والنقد للأساليب المستخدمة في بعض الكتابات الاكاديمية ووسائل الإعلام في معالجتها لشؤون المرأة ووضعها في المجتمع المعاصر. وليست هذه النزعات والاتجاهات النسوية أو النسوانية مجرد نشاط ذهني من النساء لعرض مشكلات المرأة من وجهة نظر المرأة، وإنما هي إضافة الى ذلك استراتيجية سياسية تدعو الى تغيير النظم الاجتماعية والثقافية التي صاغها الرجل أو الذي تخدم مصالحه على حساب مصالح المرأة والأنثى، كما تهدف - وهذا هو الأهم - إلى توكيد مكانة المرأة في المجتمع والقضاء تماماً على الأفكار السائدة عنها. والوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك هي خلق ثقافة نسوية مضادة للثقافة الذكورية تعمل على تفسير الحياة وتشكيلها من وجهة نظر نسوية خالصة، وتعديل الثقافة الذكورية التي تسود العالم تعديلاً جذرياً يتفق مع فكر المرأة المعاصرة ورغباتها ونظرتها الى الأمور بما في ذلك القضاء على الفوارق اللغوية التي تميز بين الذكر والأنثى، كما هو واضح في اللغة العربية مثلاً. فاللغة في نظر أنصار النزعة النسوية هي اختراع ذكوري بحت، ولذا فهي تعطي أولوية للذكر على الأنثى في التراكيب اللغوية وبناء الجملة، كما أنها تعبر عن أيديولوجيا متميزة للذكور ضد الإناث وهو ما ينبغي القضاء عليه حتى يمكن تحقيق المساواة المطلقة بين النوعين أو الجنسين. ولقد ذكرت سيمون دو بوفوار، منذ عقود عدة، أن المرأة نفسها هي من صنع الرجل وأن المجتمع الذكوري هو الذي أضفى عليها تلك الخصائص التي جعلت منها امرأة ولذا تنبغي محاربة هذا الوضع. والمهم هو تحقيق تغييرات راديكالية في العلاقات بين الجنسين والتوصل الى تحليلات نسوية تقوم على تصورات تعترف بالدور الجوهري للمرأة مع إيجاد إطار نظري يعلو على الاختلافات والفوارق الطبيعية ويقضي على النزعات السائدة الآن حول تهميش دور المرأة بل وتهميش وجودها نفسه إزاء الرجل. وربما كان المسؤول الأكبر عن تكريس هذا "التهميش" للمرأة في المجتمع المعاصر هو وسائل الإعلام المختلفة، خصوصاً وسيلة الإعلام المسموع / المرئي أي التلفزيون بما يرسله من برامج وتمثيليات ومسلسلات تبرز كلها سلبية المرأة ودورها الثانوي أو الهامشي في الحياة الاجتماعية بمجالاتها المختلفة. فالمرأة تظهر في معظم هذه الأعمال التلفزيونية في صورة نمطية لا تكاد تخرج عن "الأنثى" التي تهتم بإبراز مفاتنها الجسدية للإغراء الجنسي أو المرأة الزوجة التي تعطي كل اهتمامها للاعمال المنزلية التي يعتبرها بعض النساء الثوريات في الغرب أنشطة ثانوية وهامشية، كما تركز هذه الأعمال التلفزيونية على إبراز الاختلافات الجوهرية بين الأدوار التي يضطلع بها الرجل في الحياة وتلك التي تقوم بها المرأة مما يساعد على تثبيت الصورة السلبية عن المرأة. فالرجل هو الطبيب دائماً والمرأة هي الممرضة، والرجل هو المحامي دائماً والمرأة هي السكرتيرة، والرجل هو المدير الناجح أو رئيس مجلس ادارة الشركات الكبرى العالمية الناجحة دائماً والمرأة هي صاحبة - أو حتى مديرة البوتيك الصغير، والرجل هو العنصر الفعال النشيط في كسب العيش دائماً والمرأة هي "ست البيت" السلبية المستكينة. وبل إنه حتى في الأعمال التلفزيونية التي تقوم أساساً على العنف نجد المرأة هي الضحية المستسلمة أمام قوة الرجل وعنفه الايجابي، وهكذا. والخطورة الحقيقية لهذه الأعمال هي أنها تساعد على تثبيت الفكرة السلبية عن المرأة في عقول الفتيات الصغيرات حيث ينشأن على اعتقاد أن هذا هو الوضع الطبيعي للمرأة، ثم يصبح هذا الوضع كما تصوره وسائل الإعلام بمثابة قيمة راسخة، وهو ما يؤكد في آخر الأمر ذكورية الثقافة ويرقى إلى ما تطلق عليه الدكتورة تتشمان تعبير "الإبادة الرمزية" أو "الاغتيال الرمزي" للنساء عن طريق وسائل الاتصال الجماهيري، وذلك في مقال لها صدر العام 1981، ثم انتشر استخدام التعبير الذي اصبح مصطلحاً متداولاً في الكتابات النسوية وما بعد النسوية. وتسهم وسائل الإعلام المقروءة في ترسيخ هذه المؤامرة ضد المرأة ولا يكاد يستثنى من ذلك المجلات النسائية ذاتها، فعلى رغم ما تبديه هذه المجلات بحكم طبيعتها من تعاطف مع المرأة فإنها لا تخلو من إشارات صريحة وواضحة الى مكانة المرأة الثانوية أو الهامشية، فهي تربط في العادة المرأة بالموضة ووسائل التجميل وأعمال المطبخ وشؤون البيت فحسب وهو ما يعتبر في نظر رائدات النزعات النسوية إسهاماً من هذه المجلات في حملة الإلغاء الرمزي أو الاغتيال الرمزي للمرأة وإنكار دورها الإيجابي في حياة المجتمع خارج ذلك النطاق الضيق المحدود. ومهما يكن من فاعلية القرارات والتوصيات التي تصدرها المؤتمرات الدولية والتي كلها تخرج إلى حيز التنفيذ فإن التغيير السريع والعميق والفاعل في نظرة المجتمع الى المرأة لن يتحقق إلا من خلال وسائل الإعلام التي ينبغي أن توجه سياستها نحو إبراز الجوانب الايجابية في حياة المرأة وإسهامها في تنمية المجتمع وتقدم الانسانية عموماً. وقد تكون المرأة العربية أحوج إلى ذلك خصوصاً وأن ثمة جهوداً مشرّفة تقوم بها النساء العربيات الآن في عدد من الدول العربية لإقرار حقوقهن المدنية والسياسية في وجه المعوقات التي تثيرها بعض الهيئات والتنظيمات المحافظة، كما الحال الآن في الكويت - على سبيل المثال - وهي جهود تستحق أن تبرزها وسائل الإعلام بكل التفاصيل والموضوعية بدلاً من الإغفال أو التعتيم أو الاستهانة. وبذلك وحده ترتفع وسائل الإعلام العربية عن الانزلاق في بؤرة "مؤامرة" الإبادة، أو النفي أو الاغتيال الرمزي للنساء. وهو الشعار الذي تشهده الآن في فرنسا واميركا النساء الثوريات ورائدات الحركات النسوانية وما بعدها في وجه المعارضين لحقوق المرأة وإمكان استقلالها وتمايزها عن الرجل على رغم الثقافة الذكورية التي ينبغي تعديلها هي الأخرى بما يتفق مع نظرة المرأة الى نفسها والى الرجل والى المجتمع بكل مؤسساته وتنظيماته التي وضعها الرجل لكي تحقق مصالحه الذاتية الخاصة. * أنثروبولوجي مصري.