} في الذكرى الثانية لغياب نزار قباني، تناول شعراء ونقاد عرب، السبت الماضي، تجربته الشعرية وبعض خصائصه في قراءة نقدية جديدة. هنا شهادات أخرى تذكي نار السجال حول شاعر الحب و"الجماهير"، منطلقة من قضايا ثلاث: أولاً: غزارة نرار قباني وصمودها أمام حكم الزمن، ثانياً: جماهيريته، ثالثاً: الصورة التي تمثَّلها كشاعر يملك سلطة القصيدة. قاسم حداد: هل "الجماهيرية" إدانة للشعر؟ القضية الأولى، تفترض عدم صمود شعر نزار أمام حكم الزمن. هذا الزمن الذي استطاع أن يحفظ ما لا يحصى ولا يقاس من الشعر العربي من ألوانه وأصنافه ومستوياته الكثيرة. هل يمكن أن يكون شعر نزار قباني من الرداءة بحيث سيتذكر التاريخ شعر أحمد شوقي مثلاً وينسى شعر نزار؟ أقول هذا المثال ليس استهانة بشعر الأول، ولكن لكي أقول إن مسألة إعجابك أو عدم إعجابك بهذا الشعر ليست حكم قيمة على بقائه في ذاكرة التاريخ والناس. على العكس ينبغي أن نتميز بالرحابة الشعرية التي تتوقع وتقبل حضور جميع التجارب متجاورة تماماً مثل تجاور البشر، ولا يليق وليكن هذا المزاج الأخلاقي محتملاً أن نتبرع بتعميم موقف قدحي ضد نزار قباني لأن بعضنا لم يحب شعره بهذا القدر أو ذاك، وخصوصاً أن جيلاً وربما أكثر حتى لحظة نشر هذا الكلام بات يعتمد على الصحيفة كمصدر ثقة وأمين ومختص ويقارب التقديس كعبادة يومية للثقافة، وهو جيل ربما لا يكون قد عرف نزار قباني إلا من خلال وسائل الإعلام التي تروج لبعض نصوص الشاعر المغناة، وفي هذا ظلم صراح سيقع على تجربة الشاعر إذا اعتمد القارئ على بعض الارتجالات المتسرعة المكتوبة بمزاج قبل قهوة الصباح وبعدها والتي سيخرج بها هذا التحقيق. القضية الثانية، سوف تعتبر حكماً بأن جماهيرة نزار قباني التي يحلم بها ثلاثة أرباع الشعراء العرب من كل الأجيال هي إدانة مسبقة للشاعر، ولا أفهم لماذا يجب أن نعتبر الجمهور الواسع الذي استطاع نزار أن يصل إليه بمثابة المثلبة التي لا تليق بالشعر. فالجمهور الذي لا يضير الشاعر ندرته في معظم الحالات، لا يجوز أن تكون كثرته وتنوعه واتساع رقعته نقيصة في حالة شاعر مثل نزار قباني. فمثل هذه النظرة لن تكون فقط ظلماً بالنسبة للشاعر، بل انها موقف يصدر عن نظرة دونية للآخرين بغض النظر عن طبيعة أو مستوى الجمهور. وإذا كان للنقد أن يدرس ظاهرة نزار قباني الشعرية، لا بد له أن يفعل ذلك بمعزل عن المفاهيم السائدة للانتشار والجماهيرية وغير ذلك مما يعتبر ظواهر في خارج الشعر ونقده، وإلا سوف نقع جميعاً ضحية ما تكرسه وتعممه ثقافة الجريدة العابرة. القضية الثالثة، سوف تبالغ في الاستهانة بالشعر والشاعر، ذاهبة الى التعامل مع تجربة نزار قباني بوصفها جريمة بحق الشعر وطبيعته، في حين أن نزار كان واحداً من أهم الشعراء العرب الذين خلقوا طقساً شعرياً شخصياً مميزاً فرض احترامه على أصعدة كبيرة في الواقع العربي المعاصر، مما يفوت الآن على الكثيرين من الشعراء وغيرهم إدراك حقيقته وهم يخضعون لمواصفات التخلف والانحطاط الرسمي المهيمن على السلوك العام بوصفه قانوناً يمعن في التنكيل بالشعر والشاعر العربيين. وظني أن النظرة هذه تشكل استهانة بالتاريخ الأدبي والشعري لتجربة مثل نزار قباني. وإذا كان من حق أي شخص أن يختلف على أو مع نزار قباني، لا أظن أن أحداً سيزعم أن هذا الشاعر فعل أقل مما يوصف بتقديس الشعر وعبادته يومياً باعتباره الهاجس المصيري والكوني بالنسبة للشاعر ووجوده، وهذه طبيعة سنحتاج لقدر كبير من الشجاعة والجهد لكي نصادف شاعراً من الشباب يدرك معنى الشعر في حياته بهذه الدرجة والتقديس والاحترام. أظن أنه من المهم في مثل هذه المواقف أن نتميز بالحذر لئلا نقدم للقارئ أسئلة تنطوي ضمناً أو صراحة على أجوبة تقارب الأحكام المطلقة. وخصوصاً أن القضايا المتعلقة بالتجارب المهمة لا يجوز وضعها في هذه السياقات البعيدة عن التأمل والدرس. عبدالمنعم رمضان: شاعر المباشرة... والوضوح ربما لأن الفن المعماري قادر ببراعة على رفع الستار عن جدل أو هيمنة الأساليب وتعاقبها، بل قادر أكثر من الفنون الحرة ومنها الشعر بحكم كونها فنوناً غير خاضعة للأهداف النفعية ولمواد البناء. هذا ما قاله لي صديقي ليون، ربما لهذا السبب سأحاول ان اتخيل نزار قباني بقامته الفارعة ووسامته غير المشكوك فيها وقد اعتاد الوقوف أمام بيوت بيضاء وعالية، نوافذ حجرات النساء في طابقها الثاني. نعلم أن السادة البنّائين صمموا البيوت كلها في هذا الشكل لتجبر العشاق على الغناء الجهير المسموع فتتسع رئة المدينة ويصبح هذا الغناء المادة الخام لصناعة أحلامها. كانت بيوت الحكام محاطة بحدائق وأسوار تجبر ايضاً الغاضبين على كشف المسكوت عنه ويصبح المسكوت مادة خاماً اخرى لصناعة الأحلام. اتاح لي هذا الخيال فرصة أن أتمه، بافتراض أنه في كل مرة عشق فيها نزار امرأة أو غضب على حاكم كان يحرص ويتفنن من أجل اتقان الصوت في جماله ووضوحه وسلامة ايقاعه، فهذه الشفاهة تخشى النسيان. هذه الشفاهة تعلم ان نظاماً ما سيضمن بقاءها. و لما شاع أمر نزار وأمر اغنياته واحبها الناس وصانوها تخابثت السلطات وأمرت البنّائين: ايها البناؤون شحّت مواد البناء وتوشك ان تنفد، لذا لا بد أن تخفضوا بيوت الناس وتعزلوا بيوت الحكام. رضخ البناؤون. خابت السلطات ثانية وأعانت نزار قباني على الدخول من الأبواب، ك"جنتل مان" حقيقي أو كسياسي طيب وأعانته ايضاً على الهروب من النوافذ كعاشق قديم أو كثائر غاضب. وفي كل الأحوال أوهمته أنه يفعل هذا بإرادته، وليس بإرادتها واصبح اذا اختلى بامرأة وجدها تجلس أمام شمعة واذا اختلى بحاكم وجده يجلس تحت المصباح، وكأن الاثنين: المرأة والحاكم، يحبان القراءة، فشرع نزار، رغبة منه في التستر، أو هكذا أوحي اليه، في كتابة أغانيه على ورق أبيض. الغريب انه لم يدرك كيف اخفق في عمله وكيف افتقر صفاء الطباع التي ميزته واتيحت له من قبل. هذه الافتراضات أزعم بها لنفسي ان التفريق في نتاج نزار لا يكون بالضرورة، أو يجب ألا يكون، على أساس من الموضوع الذي هو الغزل أو السياسة، ولكن على أساس من لوحة العمل. فنزار سيسعى دائماً الى الحرية عندما يكتشف أنه مغمور داخل نظام، وتصبح حريته آنذاك فعلاً إنسانياً وشاعرياً لافتاً، وقصيدته العمودية، وهي عندي القصيدة الامام في عمله الشعري كله، امارة هذا التصور. بينما تصبح حرية نزار هرولة وفرك أقدام وارتباكاً اذا اصبح هو عارياً من النظم. وكان الشكل القديم الوسط الملائم لنمو حريته. فطرة نزار السليمة التي فقدها في ما بعد كانت تعرف أن الحرية ليست نقيض النظام. المحتمل ان الذي لا يحب نزار قباني منذ اللحظة الاولى لن يحبه قط. هذا يسري على شخص من جيل نزار او من جيلي أو من الاجيال التالية. وذلك لأن نزاراً ومنذ قصيدته الاولى كان يحاول أن يجعل قارئه ينظر ويرى ما رآه. وفي سبيل محاولته يستخدم لغة البساطة ويقتصد في استعاراته مما هيأ للبعض فكرة أنه شاعر سهل القراءة، وهي فكرة صحيحة، ومما تسبب في محاصرته بدوامات كثيفة من سوء ظن النخبة المثقفة، وهي نخبة آثمة لأن بعض افرادها مهووسون بنفي الماضي وإزاحته. ونزار عندهم لا بد أن يكون شخصاً زائفاً. وبعض افرادها مهووسون بالسعي وراء الماضي والشمّ بخياشيمه وأنفه، أعني أنف الماضي. وأيضاً نزار عندهم لا بد أن يكون مارقاً. الأكثر أهمية من هذين الفريقين وهما صانعا الصراع الداخلي للنخبة في فترة انحطاطها، هو عادات قراءة أو تثمين أو تقييم الشعر التي تستند كثيراً على ستر المعنى. وكأن هذه العادات تزعم أنها تحتقر المعنى ولا تمنحه قداسة، فيما هي لا تفكر إلا فيه، بل تجعل شرط خفائه ضرورة شعرية. ونزار شاعر المباشرة في الكلام، وهي خصيصة يشترك فيها مع الشاعر العربي في فترات صادقة كثيرة. أذكر كان نزار يفاجىء النخبة بشفافية ما ووضوح للمعنى أكثر مما ينبغي، ذلك الوضوح الذي عند البعض يعادل العمى، فتستعين عليه النخبة بحبها للشعراء الذين يخلو شعرهم من كل ما هو مباشر، وتقول لنفسها: لا يمكن الأشياء أن تظهر على حقيقتها إلا من خلال كثافة الوعي الانساني، وتعتبر هذه الكثافة نقيضاً لوضوح المعنى. نحن نعرف أن النخبة، احياناً، ولحساب ما، تقدّر أنه الشرف الرفيع للمعنى فتقبل الوضوح الكامل. هذا الشرف كان مفقوداً في حالة نزار ولا بد أن التصور الصحي البديل، لو أن النخبة كانت حقيقة غير مشغولة أساساً بالمعنى، هو الإنصراف بعيداً عن سؤال معنى القصيدة، ما دام واضحاً كل هذا الوضوح، والعكوف على سؤال شعريتها. ولهذا السبب أغفلت النخبة حقيقة أن نزار قباني، أيام الشفاهة، كان يتأمل النظام الشعري القائم، ومن دون أن يدبر كان يغيره بأكمله، على رغم انه لم يُسجّل أبداً في كشوف الآباء المؤسسين للحداثة. وكان يعدل علاقات هذا النظام ومراكز الثقل فيه. ولا بد أن الوعي الصحي السليم ليس محتاجاً لأن يستمع الى السيد ليون وهو يلح على أن مراقبة المجتمع، الذي في حال تقدم وليس في حال انحطاط، تكشف عن أن كل جيل من أجياله يضيف وديعته الى ما سبق للثقافة ان راكمته. وكل جيل جديد لكي يتمكن من فعل ذلك لا بد أن يجتاز فترة تدريب. وفي هذه الحالة يكون التدريب هو تملك الثقافة القائمة وتحويلها على طريقته وجعلها مختلفة بقدر آخر عن ثقافة الجيل السابق. ينبه السيد ليون الى أن التملك ليس ابداعاً، إنه مقدمة، وأنه في بنية الفن، كما في بنية الطبيعة، لا شيء يضيع. وليس فقط، بل إن كل شيء مترابط. كان عالم نزار عالماً جديداً من الوعي بالجسد، عالماً تدخله حالات من الفرح والغبطة يمكن أن تكون مادة لشعر عظيم. ويدخله إنشاد يمكن أن يكون أيضاً مادة لشعر عظيم. وكان نزار نفسه يسعى الى أن يجعل من الصعب على أحد غيره انتاج أعمال من نوع أعماله، ولنا أن نتأمل مقلديه، وكأنه أتقن درس اليوت الذي يجزم ان كل شاعر عظيم يستنفد الى الأبد احد إمكانات اللغة، شرط أن تكون اللغة ذاتها قابلة للاستنفاد. لم يخطىء نزار خطيئته الكبرى بالانتقال من الشفاهة الى الكتابة، إلا لأنه تخلى عن عضويته في استنتاج أن الحاضر أيضاً يغير الماضي، واستسلم لعفويته في عدم إدراك أن التفاوت بين الاستمتاع والموافقة لا يهدد الفن. ما يهدده حقيقة هو محو التفاوت. وعندما اصبحت جماهير نزار عائقاً مرئياً لحريته سحبته الى وديان محو التفاوت ثم سحبته الى التوكيد على كل اختلافاته العابرة والسهلة واعتبارها علاماته الفارقة. مثله في ذلك مثل شاعر صغير من اتباعه. كان نزار بفعل جماهيره، مشدوداً الى البحث الدائم عن حداثة مستمرة في مواجهة الحداثات الرائدة، حداثة تسعى بكل ثقلها في سبيل بلوغ درجة الصفر. المؤسف أن نمط شخصية نزار كان وجد راحته في الثورة على النظام من داخله، لأنه كان يواصل تقاليد أسلافه ويحتفظ بخصائص وراثية تجمعه بهم. واختلاف عجينة القصائد الكبرى لنزار تأكيد على استمرار هذه التقاليد من جهة، وتأكيد ايضاً على ذلك الاختلاف من ظروف عصر الى ظروف عصر آخر من جهة ثانية. إننا اذا قبلنا فكرة أن الشعر كالعلم يتطلب تهيئة وإعداداً، واذا استطعنا ان نقنع بها الاجيال التالية، وقد لا تقبلها، أتصور أن هذه الاجيال عندما تتخلص من عقدة النخبة المثقفة تجاه نزار قباني قد تقوم بإدماجه في الموروث ولن تأسف ولن تعتذر، وربما بابتسامة حب ستقول: إنه صنع شعراً جميلاً تخللته فلسفة في الحياة محدودة جداً. ولكن يكفيه أن نقطة إنطلاقه كانت الواقع الحي وليس النظرية، وأنه عندما استقرت شهرته أنشأ نظريته على الشكل القديم لهذا الواقع ولم يتلفت الى تحولاته وأمعن في عمله وانتقل من الوقوف تحت النوافذ العالية البيضاء الى العكوف على المكاتب حتى نفدت مياهه ومات... هذا ما قالته لي السيدة مها. سيف الرحبي: شاعر خارج التصنيف قول ما يشبه البداهة أن نزار قباني واحد ممن غيروا شكل العبارة الشعرية في دنيا العرب، شكل القصيدة، أي أنه واحد من الرواد الحقيقيين في هذا السياق. هذه الاشارة تكتسب مشروعية ورودها في غير ما هو بديهي، أو بديهي جداً. من ذلك النفي الذي يغيّب قباني عن هذا المنحى الريادي في الحداثة الشعرية العربية، ويدرك أهميته لكن في سياق آخر ربما. أو في كلام يشبه اللغو، مثل شاعر المرأة، السياسة، النكبة... الخ. هذه التصنيفات المدرسية التي لا معنى لها. نزار قباني واحد من ذلك الرعيل الذي صنع أو أسس الحداثة الشعرية والأدبية، في مرحلة استقرت فيها المفاهيم والتصورات حول الممارسة الشعرية منذ قرون، وارتفعت في ما يشبه المقدس الذي لا يطاوله الشك والسؤال. والى انجازه الشعري المهم، بداهة، أتذكر أن قباني من أوائل الذين قرأتهم من بين أقرانه من طريق الصدفة إذ كنت في بداية المرحلة الثانوية في حي "العجوزة" في القاهرة، من طريق بسطة كتب أسفل العمارة، كان ذلك بمثابة اكتشاف مبكر بالنسبة لي، أنا المفعم بكل التصورات السلفية الجامدة للشعر.. وأتذكر لاحقاً بعد زمن طويل، حسه الحضاري وترفع لسانه في التعاطي مع الأسماء من أقرانه، والذي يفتقده الكثيرون ممن يجنحون نحو الإلغاء، إن لم أقل السحق، وافتراس اللحم الحي.