إلى هدباء قباني بغياب نزار قباني، يغيب جزء جميل من عالمنا الذي يهاجمه القبح من جميع أنحائه. أفقد بهذا الغياب شاعراً كبيراً تعلمت منه وأتعلم دائماً. أفقد كذلك صديقاً كبيراً وإنساناً كبيراً. استيقظت على الشعر حين كان نزار قباني آخذاً في صيرورته انفجاراً شعرياً يغيّر فهم الشعر، والحسّ به، وتذوّقه، والاستجابة له. كان انفجاراً ساطع الحضور - في المدينة التي لم أعرفها إلا متأخراً، وفي الريف الذي نشأت ونموت بين حقوله وأشجاره. وكان انفجاراً شاملاً، سواء في الوسط الثقافي السياسي - الاجتماعي الذي لم يكن يحتفي بالشعر إلا عرضاً، أم في الوسط الشعري، بحصر المعنى. كان نزار قباني، منذ بداياته، الأكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب، في الإمساك باللحظة التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة، من أكثرها بساطةً، وبخاصةٍ تلك المكبوتة المهمّشة، الى أكثرها إيغالاً في الحلم وفي الحق بحياةٍ أجمل وأفضل. وفي هذا تأسست نواة الإعجاب به، ذلك الإعجاب التلقائي الحيّ الذي تجمع عليه الأطراف كلّها، كما تُجمع تلقائياً على الخبز والماء، وعلى الهواء والنور. هكذا وُلدت قصيدة نزار قباني بوصفها تنفسّاً جماعياً، وبوصف شعره فضاءً مفتوحاً. وهكذا أخذ الناس يتنسّمون قصيدته: يدخلون فيها كأنها الهواء الطلق، ويتماهون بها كأنها مناجاة أو كأنهم هم الذين يكتبونها. ولم يكن هذا الإعجاب ينبجس من استجابتهم لشعريته وحدها، وإنما كان ينبجس أيضاً من طبيعة رؤيته للحدث الذي ينشأ أو للمشكلة التي تعانى. وفي هذا، كانوا ينظرون الى قصيدته بوصفها أجرأ دعوى يقيمها شاعرٌ معاصرٌ على الواقع الذي يعيشونه، شاكين ساخطين. كأنه في شعره، هو الذاتي المتفرّد، غير فردي - أو هو الناس كلّهم. وكأن الناس جميعاً، في مختلف طبقاتهم، يكتبون معه القصيدة. وفي هذا كلّه، ابتكر نزار قباني تقنيةً لغويةً وكتابيةً خاصة، تحتضن مفردات الحياة اليومية بتنوّعها ونضارتها، وتُشيع فيها النسَمَ الشعري، صانعاً منها قاموساً يتصالح فيه الفصيح والدارج، القديم والمحدث، الشفوي والكتابي. لقد أخرج نزار قباني العربَ من الانكماشِ في دَواخلهم، وقذف بهم إلى الخارج، إلى الشارع، إلى الساحات، إلى المحيط المشترك الذي تَصْطِرع فيه أمواجُ أحلامهم وآمالهم، وإلى الصحراء التي تتدحرج فوق رمالها حياتُهم وأيامهم. هكذا لا تبدو القضايا التي يتحدث عنها في شعره ذاتية البعد، أو رومنطيقية، وإنّما هي، على العكس، قضايا عامة، ومشتركة بين الأفراد جميعاً، إلى أية فئةٍ أو جماعةٍ انتموا، وإلى أي جيل. فقد أدركَ بحسّه النافذ، ويقظته الساهرة، أن حياة الإنسان الداخلية في المجتمع العربي قلّما تكوِّنُ الدافعَ الأساسَ إلى العمل. فالإنسانُ، من حيث العملُ والممارسة، هو أولاً "خارج". أعني أنّه مجموعةٌ من القيود والحواجز والعقبات فضلاً عن كونه مجموعةً من المطامح والحاجاتِ والتطلّعات. وغاية الشعر في هذا الإطار، لا تكون في دعوة الإنسان، وفقاً لرؤيته الشعرية، إلى التأمّل الداخلي، والعكوفِ على الذات، بقدرِ ما تكون في استنفارهِ، وفي دعوته إلى الحركة والعمل والممارسة. إن شعره هجومٌ على هذا "الخارج" - الواقع الجامد، العائق، المهيمن، المكبِّل، الطاغية. هجومٌ كمثل إعصارٍ جارف. غير أنّه يبدو، لكونه مسكوناً بهذه الدعوة الحارة، كأنّه إعصارٌ نديٌّ أخضر. هكذا يتوهّجُ شعره بإشراقٍ يطيبُ لي أن أسمّيه بالإشراق المُنتهك. وهو انتهاك ذو طابَعٍ إيجابيّ، ولا يمسّ الأصول. إنه انتهاكٌ مُحبٌّ يَكْرزُ بتجاوُزِ المعطى الراهن الذي يتناقض مع الأصول في نماذجها العُليا. وهو إذن تجاوزٌ سياسي اجتماعي. ومن هنا، يبدو لي أنّ لعلاقة الشعر عند نزار قباني بالسياسة، خاصيات يتفرّد بها. إنها دعوةٌ إلى ابتكار فضاءٍ جديد لكتابة الشعر، وتذوّقه، وللممارسة السياسية - الاجتماعية، ولأخلاقية هذه الممارسة: فضاءٍ لإنسان حرٍّ، وقيم جديدة. وهي دعوة تنهض على تقنيةٍ فنيةٍ ولغوية خاصة جديرةٍ بالاستقصاء والدراسة. فقد أيقظ بها الحساسيةَ الشعرية الراقدة في أعماق الناس، وحرّك الشاعر النائمَ في دخيلةِ كلّ فرد، فيما أعطى للغة الشعرية العربية الحديثة بُعداً لا سابقَ له. هكذا غيّر نزار قباني في علاقة الناس بالشعر: لم تعد هذه العلاقة تدور حولَ فردية ما يُقال وكيفية الكشف عنه، بل حول جماعية ما يُقال وكيفية إيصاله. كأنه أحيا في ذاكرتهم جمرةً كادت أن تخبو. ولم تعد ذاتُ الشاعر إلا بمثابة اليدِ الكريمة التي تشعل القناديلَ في ظلمات الناس، لكي يُحسنوا الرؤية. كمثل ما كان الأمر في ذاكرة الفِطْرة. وهكذا ازدادوا تذكّراً لنار الفطرة، والتصاقاً بها. لا تهمّهم "دواخل" الشاعر، بقدرِ ما تهمّهم "خوارجه". كيف يشرّح جسد العالم الذي يُرهقهم، وكيف يُهدّمه، وينزع عنه هالاته المفروضة عليه، وكيف يفتح لهم الطرق الأكثر بساطةً وفعالية لرؤية ما يُرهقهم ويُعيقهم، ولفهم الواقع الذي يطوّقهم بأغلاله. فهو المشرّح الذي يُعرّي ويُوضح، بعيداً عن كلّ تمويه. كان للقصيدة قارئ يحاول أن يغوصَ فيها. مع نزار قباني، صار للقصيدة قراء - جمهور، تغوص هي فيهم، فينتفضون ويلتهمونها فيما تحتِضنهم. فلقد أحلّ نزار قباني الجمهور، وهو الظاهرة الاجتماعية - الفنية، الأكثر حداثةً، محلّ القارئ. وفي هذا ألغى المسافة بين المُرسِل والمُرسَل إليه، وبين الشعر والتلقّي، ويؤسس لمرحلةٍ جماليةٍ في الأداء تقوم على القُربِ والتخاطب والتَّماس، قيامها على الحدث الناشئ، والمشكلة المشتركة المَعيشة، مقابل تجربة البُعد، والتأمل. وفيما يسير شعراء هذه التجربة على مسافةٍ من الهواجس المباشرة التي يلهج بها الجمهور، فإن نزار قباني، على العكس، يشقّ طريقه وسَطَ الجموع المتزاحمة. لقد حوّل الشعر إلى عرسٍ وإلى عيد. فشعره يجمع بين المتعة، والطرب، والبهجة، ويقف، في الوقت نفسه، في طليعة الإحداث الشعري الذي يثير القضايا الأكثر التصاقاً بحياة الناس، والأكثر تعبيراً عنها. وهي المؤالَفة التي لم ينجح في تحقيقها شاعر معاصر كمثل ما فعل نزار قباني. هكذا استطاع نزار قباني أن يخلق من اللقاء بين شعره وتاريخ حاضرنا العربي أسطورةً لم يقدر أيّ من مجايليه الشعراء العرب، أن يضاهيها. فقد عرف أكثر من غيره كيف يقبض على الوجه الآخر من التاريخ: الوجه الحدَثي اللاهب. فالحالية أو الراهنية مفتاح أول لحدوسه. كأنه في مسيرتنا القاتمة السباق الكاشف: كأنه أول العصف، وأول الضوء.