لم يأبه بو علي ياسين بلعبة الخطاب كما كان يسميها ميشال فوكو، اللعبة التي تفرض على الخطاب أن يبقى ضمن حدوده، والتي تكبح جماحه في كل مرة يريد الاسترسال، فهناك الموضوع الجنس أو الدين أو السياسة وهناك الطقس الذي يلزمنا بموضوع معين، وهناك حق الامتياز الذي يخول المسؤولين ما لا يخوله سواهم. أقول لم يأبه بو علي ياسين باللعبة، لا بل يمكن القول إنه سعى وطول عمره الذي قصّره "هادم اللذات ومفرق الجماعات" وهدّه المرض العضال، إلى مزج أوشاج هذه اللعبة، تحدوه في هذا المجال "إرادة معرفة" وعلى حد تعبير ميشال فوكو أيضاً. وكان صدر له حديثاً كتاب "شمسات شباطية" دار الكنوز الادبية. في وقت مبكر يعود الى مطلع السبعينات، كتب بو علي ياسين كتابه الموسوم ل"الثالوث المحرم 1973 عن دار الطليعة في بيروت والمقصود ثالوث الجنس والسياسة والدين، الثالوث المحاط بالأسلاك الشائكة وبالسياجات الدوغمائية المغلقة، وعلى رغم طبعاته المتلاحقة عن دار الطليعة ودار التنوير وأخيراً دار الكنوز الأدبية 1980 إلا أنه كان يصطدم باستمرار بجدار "المراقبة والمعاقبة"، إذ منع في معظم الأقطار العربية. ما يهم في الأمر، هو قدرة هذا البري الشهم، أي بو علي ياسين على القفز من فوق السياجات الشائكة والتحدث علناً عن الثالوث والمحرمات في حياتنا الثقافية والسياسية والتي فرضت على كل منا أن يكون في أكثر من وجه ولسان. وما يهم أن كتابه عن "الثالوث المحرم" الذي يأخذ صيغة بيان يرمي الى هتك حجب هذا الثالوث، وإلى تجاوز حالة الشيزوفرانيا أنه جاء من الأطراف، فقد رفض بو علي ياسين أن يعيش في الظلال الوقائية، في ظلال الرعب لمدينة كيف ولماذا كما يسميها المرحوم هاني الراهب في روايته "رسمت خطاً في الرمال" التي يصفها بأنها "مدينة أعين متربصة متفحصة، تبحث عن شيء خفي غامض كي تظفر به وتقتنصه، عيون قلقة خائفة، أجفانها أمشاط رصاص، تلتقط صوراً وترسلها الى ذاكرة اليكترونية، وهناك في ذلك المعلم الضخم ذي الفروع التسعة داخل المدينة، كان تحميض الصور يقرر حجم ولائي للسلطة". لقد حافظ بو علي ياسين على بريقه، فلم يقذف بنفسه الى لجة المدنية، ومن هناك، وفي ريفه الأخضر، عمل بو علي ياسين بدأب ونشاط، على تزويد المكتبة العربية بأهم الكتب، واختار الترجمة مفتاحاً الى القارئ، فعمل على ترجمة عملين مهمين جداً: الأول هو عمل أورزولا شوي عن "أصل الفروق بين الجنسين" وصدر الكتاب عن دار التنوير في بيروت في العام 1982 والكتاب واحد من أهم الكتب وينتمي الى القاعدة الذهبية التي ترى أن مفتاح تحرر المجتمع، أي مجتمع، هو المرأة. لكن الألمانية أورزولا شوي، تذهب الى أبعد من ذلك، وهذا ما كان يريده بو علي ياسين، تذهب الى القول الذي لم نصغ إليه كثيراً، وهو أن الفارق بين الأنثى والذكر، ليس فارقاً بيولوجياً، بل فارق ثقافي، وأن الخصائص الأنثوية والتي كانت تعتبر أصيلة، مثل عاطفة الأمومة والنزعة العاطفية عموماً، والاهتمام الاجتماعي والسلبية، ليست أنثوية بالطبيعة ولا فطرية، بل مكتسبة ثقافياً وهنا يكمن التحدي للحركة النسوية وللنخبة المثقفة التي تزعم أنها تسعى الى تحرير المرأة. لم يمر عام واحد على كتاب شوي، حتى فاجأنا بو علي ياسين بترجمته لكتاب الكتاب، وأقصد "الطوطم والتابو" للمحلل النفسي الشهير سيغموند فرويد وصدرت عن دار الحوار في اللاذقية في العام 1983. وقدم له بو علي ياسين بالقول: "إن ترجمة كتاب لفرويد لا تعني أن المترجم فرويدي، كما لا تعني أنه معاد لفرويد، إن فرويد عالم كبير ندين له باكتشاف الكثير من الحقائق العلمية العظيمة" كان تقديم بو علي ياسين، مضمراً بالاعتذار من تيار راديكالي ماركسي معاد للفرويدية، لكن إيمان بو علي ياسين بقدرة فرويد على اكتشاف الكثير من الحقائق العظيمة، هو الذي دفعه الى ترجمته، وأستطيع القول إنه كان لترجمة كتاب فرويد، صدى كبير في الوسط الثقافي السوري، وذلك على رغم أن ترجمة جورج طرابيشي للكتاب قد سبقته ولكن عن الفرنسية، في حين كانت ترجمة بو علي عن اللغة الأم الألمانية. كانت الغاية من ترجمة الكتاب أيضاً، هي إحداث خرق علمي ومعرفي على جبهة الثالوث المحرم، وذلك من خلال آراء فرويد الجريئة جداً، والتي تخدش في جرأتها حتى المثقف النقدي. في هذا السياق، يمكن القول إن عقد الثمانينات من قرننا المنصرم، شهد زخماً فكرياً للراحل، من خلال الترجمة والتأليف. ففي أواسط عقد الثمانينات ألف بو علي ياسين كتابه "خير الزاد من حكايات شهرزاد" دار الحوار في اللاذقية، 1986، والكتاب أيضاً يقاتل على جبهة "الثالوث المحرم" بلا كلل ولا ملل، فقد وضع بو علي ياسين نصب عينيه تمزيق شبكة المحرم وذلك من خلال تملك "إرادة معرفة" وليس من خلال ما سماه محمد أركون ب"العقل التعليلي" الذي وسم معظم الأعمال التي ناضلت على جبهة الدين والجنس، ولكنها لم تقدنا إلى شيء. من هنا احتلت "العلاقة بين الجنسين" متن الكتاب، ثم الدين والعصبية وأخيراً السياسة والاقتصاد. إنها الجبهة نفسها التي يناضل عليها وعلى مدى عقود. يفاجئ بو علي ياسين في قراءته ل"مجتمع شهرزاد" في تصوراته عن الجنس والسياسة وسرعان ما يكتشف أننا لا نزال في "مجتمع شهرزاد" ولم نبرح حدوده، وأننا لم نزل أسرى لعبة الخطاب ولم نستطع هتك حجبها والتحرر منها. يقول بو علي: "فوجئت بأن مجتمع شهرزاد، يتطابق إلى حد بعيد مع مجتمعنا العربي في الماضي ويشبه الى حد بعيد أيضاً المجتمع الأم لمجتمعنا الشعبي الحالي". وهذا ما يدفعه إلى القول إن حكايات شهرزاد عربية المضمون. ولكن بو علي ياسين يذهب في قراءته حكايات شهرزاد مذهب الألمانية أورزولا شوي، في أن الفارق بين المرأة والرجل هو فارق ثقافي. ولذلك نراه يستعير مفهوم "المجتمع البطركي" الذي روّج له على مدى عقد الثمانينات الدكتور هشام شرابي ليفسر من خلال تخلف المجتمع العربي. يقول بو علي ياسين: "إن المجتمع البطركي يضع أمام المرأة الروادع الدينية والأخلاقية ثم القانونية والعرفية الاجتماعية والقمعية الرجالية والحكومية، لكي تخضع لنظامه وتقوم بالوظائف والأدوارالمخصصة لها". ويضيف في مكان آخر في تعليقه على العقلية البطركية التي تفرض قيمها الذكورية على المرأة وكما تظهره معظم الحكايات "المرأة الصالحة في ألف ليلة وليلة هي المرأة الغريبة عن ذاتها، المرأة الخاضعة الخانعة أمام الرجل بالحسنى، وإلا بالقسر. وبتعبير آخر، لا تمتثل المرأة للأوامر الاجتماعية الذكرية من تلقاء نفسها، إنما تتأثر بالتربية والواقع البطركي المعاش، وآخر الدواء هو القمع المباشر، وفي مقدمته القمع الجسدي. وتزخر الحكايات بحوادث عقاب المرأة على جنوحها". وهذا ما تشهد عليه الحكايات العديدة التي يسوقها بو علي ياسين أمامه. لا يكتفي بو علي ياسين في التوقف عند اشكال الحب والجنسانية في حكايات شهرزاد. حيث كان تاريخ الجنسانية تاريخ قمع متنام "كما يقول ميشال فوكو في الجزء الأول من تاريخ الجنسانية" ولذلك فهو يقرر الهجرة من "مجتمع شهرزاد" إلى ما يسميها ب"المدينة الشهرزادية" ليتعرف على سرها، على حاكمها الذي يقتل ويصادر ويعزّ ويفني من يريد، بسبب أو من دون سبب. وعلى أعدائها في الخارج من الأعراب الذين لم يكفوا عن الغزو والنهب أبداً. ويتوقف عند وحدانية الحاكم، عند هذه البديهية التي تحظى بالإجماع في "المدينة الشهرزادية" وكأننا في مدينة كيف وماذا ولماذا، وبصورة أدق في مدننا العربية المعاصرة التي تشهد إجماعاً بديهياً يتوج الحاكم، ويتوج الرعية، ويأخذ صيغة عقد اجتماعي عربي جديد غير منظور، طرفاه، الحاكم من جهة والرعية من جهة ثانية، إنها صورة "المستبد الشرقي" الذي هو الزمان "نحن الزمان - كما يقول معاوية بن أبي سفيان - من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع". يعلق ميشال فوكو على دور شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" بقوله: إن شهرزاد تتغلب على الموت من خلال "الفن القصصي" وفي الحقيقة فهي تؤجل الموت لتبقي سيف السياف مسروراً في غمده، وكنت أظن أن بو علي ياسين سيقع في شراك شهرزاد، ومن منا لا يقع في شراكها، فيقص لنا من جديد حكاياته وحكاياتها، فبذلك يستطيع أن يؤجل من قدوم "هادم اللذات ومفرق الجماعات"، وها هو الموت يدركه في قريته النائية تاركاً أصدقاءه القلّة. هذا هو قدرنا يا صاحبي، أن نغدو تراباً، ولكن عزاءنا كبير ، فها هي أعمالك تشهد لك وتؤكد لنا أن من كتب ما مات.