الكتاب: بيان الحد بين الهزل والجد الكاتب: بوعلي ياسين الناشر: دار المدى - دمشق في مقدمة كتابه يتساءل بوعلي ياسين: "يروون - أي عامة الناس - لك النكات المحرّمة والبذيئة، ثم يغضبون ويحتجون إذا نشرتها. لماذا هذه الأزدواجية؟ أو لماذا هذا الإصرار على شفهية الثقافة الشعبية؟!". قد يكون هذا التساؤل هو الأكثر أهمية، ليس على مستوى الثقافة الشعبية فحسب، بل على مستوى الكتابة كلها. اذا صح افتراضنا ان الكتابة هي الفعل الأكثر مجابهة وتغييراً للواقع، كل واقع... وهي على هذا نقيض الشفهي الذي، وان قصد الى مجابهة الواقع وتغييره، فإن ذلك لن يكون مجدياً دائماً، لأنه عرضة للتقولات والإضافات التي يمارسها الشخص القائل/ الراوي، بما يلائم ثقافته وتوجهه وانتماءاته ونظامه السياسي والاجتماعي. نقل لنا التاريخ - بما فيه الكفاية - ان الرواية الواحدة تتغير تبعاً للراوي في كل مرة ينقلها فيها بما يلائمه، وكذلك تبعاً للمؤسسة كنظام سياسي يأمر ويمنع ويوجه. وأشار ابن خلدون الى ذلك في مقدمته حين قال: "الناس على دين ملوكها" وفي ما بعد قال كارل ماركس: "الثقافة السائدة تسود حتى على البروليتاريا". وبإمكاننا الانفلات قليلاً من اللغة الماركسية لنقول انها تسود حتى على عامة الناس. لذلك كان لا بد من الكتابة بظهوراتها الرمزية لتكون قادرة على المجابهة والتغيير بمعزل عن تأثير المؤسسة ورقابتها، ولا يضيرها ان تكون ملائمة لثقافة وتوجه الكاتب، فهو بذلك يمنحك اختلافاً. وهذا مؤشر صحة في الكتابة وفي التفكير، وهو بهذا - أي الكاتب - يكون قد منع الحدث التاريخي والراهن من ان يكون عرضة للتقولات التي قد تقوده الى ان يماثل الخرافة في مجتمع يؤمن بذلك كالمجتمع العربي مثلاً. فيوثقه ويعزله عن دائرة الحذف والإهمال التي ترسمها له المؤسسة، بما يرضي ويكرس وجودها. فكثر من الاحداث التاريخية الراهنة أهملتها المؤسسة، أو طرحتها في التداول محرّفة باتجاه مصالحها. لذلك فالمؤسسة، على مر التاريخ كانت تنظر الى الكتابة نظرة متوجسة، قلقة خشية ان تكون تلك الكتابة متعارضة مع توجهها، لذلك انشأت اجهزتها الرقابية على كل ما يكتب، فتمنع أو تسمح حسب اقتراب أو ابتعاد الكتابة عن مصالحها كمؤسسة تسعى الى تأييد وجودها، ومن هنا كانت التعبيرات الرمزية التي يلجأ اليه الكتاب، إن لم يكن لغرض فني، فلغرض يتعلق بتوجه المؤسسة، فالكاتب، عبر الرمز - يقول ما لا يستطيع المباشرة فيه. وخوف المؤسسة من الكتابة - اذا كان لي أن أجيب بوعلي ياسين جزئياً عن تساؤله - نقلته الى عامة الناس، فهم "على دين ملوكهم"، فنجد الشخص غير الكاتب يتحدث ساعات طويلة معك حول كل شيء، لكنه لن يسمح لك بكتابة كلمة واحدة عما قال. وهو على هذا تحول الى جهاز رقابي، قد يكون أقسى من جهاز رقابة المؤسسة، وأكد بو علي ياسين ذلك: "... كنا - نحن الكتّاب - في السابق نشكو من رقابة اجهزة دولنا، فصرنا الآن نحسب حساباً لأمزجة الناس..."، لكنه لا يريد ان يستكين لهذا الأمر، فهو يرى ان "... لا معنى للكتابة اذا أراد المرء ان يتجنب اي اشكال أو مساءلة على حساب أصول العمل الفكري واخلاقيته...". قد يكون الكاتب أراد التعامل مع تساؤله بطريقة أكثر فاعلية، فاختار ان يرد على شفهية الثقافة الشعبية رداً عملياً فاعلاً، فلم تسجل النكتة كما تسجل عادة في المجلات والجرائد. فهذه ليست كتابة، أنما نقل. فالكاتب وضع النكة بما هي عليه: ثقافة شعبية، ضمن اصول قواعد الكتابة، فسمى دراسته بحثه بعنوان فرعي: "دراسة في أدب النكتة". وعاد الى أصل الكلمة في القواميس العربية: لسان العرب - القاموس المحيط - المعجم الوسيط، فوجد لها ثمانية معان مختلفة ومتمايزة، وعبر ذلك توصل الى نتيجة مهمة وهي: "ان اللغة بذاتها لا تعطينا مفاهيم، بل نحن الذين نخترع المفاهيم ونحاول ان نجد لها اسماً في لغتنا بمساعدة القواميس والمعاجم، وتافدياً لتعدد الأسماء للمفهوم الواحد في اللغة الواحدة... لا بد من الاتفاق، بل لا بد منه ولو على خطأ. لهذا السبب أراني مع الخطأ الشائع، لأنه شائع، بمعنى انه متفق عليه ضمنياً" ص 37. من هنا بالإمكان الوصول الى فكرة جديرة بالتأمل، وهي ان الكتابة، لتكون كذلك، أي لتكون ليست نقلاً، لنستطيع مواجهة الشفاهية، يجب ان يندرج الموضوع المراد كتابته ضمن أصول وقواعد ومنهج الكاتب، وضمن أخلاقية الكتابة، أي بمعنى حديث: ان يصير للموضوع بنية. وعليه، فإن بو علي ياسين، لأنه اراد ان يكتب الثقافة الشعبية الشفهية، لا ان ينقلها، جعل لموضوع النكتة بنية… فبعد ان عاد الى البدء، الى تعريفها وتفريق المصطلحات التي قد تختلط معها، او تُعتبر من مشتقاتها كالفكاهة - الطرفة - الدعاية والمزاح …الخ. وبعد ان انتقل الى البحث في تطور هذا المفهوم عبر تاريخ الآداب العربية والاوروبية، دخل مباشرة بعد ذلك الى الموضوع الذي يهمه، وهو "النكتة كجنس ادبي". ميّز الكاتب الناس في صنفين رئيسيين: ناس الفرح وناس الكآبة، معتبراً ان من "ناس الفرح: المهرجون والثوريون والمومسات والمبدعون" ومن "ناس الكآبة: الرهبان والشحاذون والطغاة والمربّون. ثم انتقل الى التمييز بين الضحك الحياتي والضحك الثقافي، مقرراً له ان "الضحك الحياتي هو الضحك المباشر اي ضحك المرء من حياته اليومية… اما الضحك الثقافي فهو الضحك من الحياة المعاد تمثيلها ليس من الحياة الاصل" ولأنه يعتبر ان "الاضحاك الادبي هو افتعال للفرح والسعادة، او بتعبير ادق هو: تعويض عن تلبية حاجة اولية وعن تحقيق هدف مادي" لذلك يرى ان "جميع المضاحك الثقافية هي مباكٍ حياتية في الاصل". وتوصل الكاتب الى نتيجة مفادها ان الكاتب العربي يلجأ عادة الى المصطلحات الاوروبية لدى حديثه عن الادب الهزلي ذلك ان مفاهيم مثل "فكاهة - هزل مزاح - دعابة - هجاء وسخرية …الخ" غير مُتّفَق عليها في المنشورات العربية، فغالباً ما يتم الخلط بين هذه المفاهيم وذلك يعود الى: "قلّة الانشغال الثقافي بهذه المفاهيم من جهة والى ان رجال اللغة العرب "الرسميين" لم يعوا بعد اهمية المصطلح في العلوم العصرية وفي الحياة الثقافية، او لم يستوعبوا معناه الحديث، وهو ان المهم في تسمية الأشياء هو الاصطلاح بالدرجة الأولى. ثم بعد ذلك، وإمعاناً في ضبط المنهج قام بدراسة "بنية النكتة وتفانينها". باحثاً في تقنيات النكتة، أي "الوسائل التي يستخدمها الراوي بغاية إضحاك المستمع..."، متوصلاً بعد تفكيك بنية النكتة الى أن هذه البنية العامة تحتوي على تنويعات كثيرة وتتضمن أنماط التنكيت، فثمة سبعة عشر نمطاً للتنكيت، داعماً رأيه بمجموعة من النكات التي تؤكد كل نمط، وكي لا يُفهم ان يعطي "مساطر يقيس المبدع عليها نكاته..." ليخلق "هياكل نكات" فهو ينوه على ذلك، وينفي امكان وضع هذه المساطر، انما وضعها ليستفيد منها المبدع، وليجني القارئ الفائدة الأهم، وهي المعرفة. وكعادة بوعلي ياسين في دخوله المحرّمات، فهو - كما هو معروف - صاحب كتاب "الثالوث المحرم" الذي صدر عام 1973، دخل - بعد أن استعرض مفصلاً الهدف التربوي للنكت، وعصبوية النكتة من حيث انها تعبير عن تعصب جماعة ضد أخرى، وبعد أن انتقل لدراسة التعبيرات والمدلولات الاقتصادية والسياسية للنكتة معتبراً ان "النكات المتناقلة عربياً واكبت الى حد بعيد التطورات والتحليلات السياسية والاقتصادية، فكانت بمثابة الاخباريات الشعبية عما يجري، انما هي اخباريات غير حيادية، اذ تتضمن الرأي الشعبي بهذه التطورات والتحولات..." - بعد هذا البحث والتحليل وعملية فرز النكات بما ينسجم مع غرض الكاتب في وضع كل نكتة في سياقها وفي تصنيفها، دخل في المحرمات الجنسية والدينية، ونستطيع اعتبار ان الفصل المعنون: المدلولات الاقتصادية والسياسية للنكتة، محرماً سياسياً، وذلك بالاستفادة من ثالوث بوعلي ياسين المحرم وهو: السياسة - الجنس - الدين، وذلك في الفصلين الأخيرين من الكتاب: "المرأة والجنس في النكتة" و"النكتة الدينية". فالنكتة الجنسية كما يعبّر الكاتب "كثيراً ما تخرق محرّماً، وهو الجنس، وفي بعض المجتمعات تكون المرأة بحد ذاتها أو بكليتها محرمة أو هي المحرم" ولأن ثمة تحريماً على المستوى الاجتماعي الديني "تأتي النكتة كمنفذ من ورطة التحريم التي وضعت البشرية فيها نفسها كصمام أمان ينفث ما تضيق بضغطه الأنفس. يطفح الكيل بالرجال أو بالنساء أو بكليهما، فتخرج النكتة...". وكي تبقى المسألة ضمن منهج الكاتب، ميّز بين النكتة الجنسية والنكتة الجنسانية، فقال ان الأولى: "تعويضية الوظيفة من حيث الأساس، مبعثها الكبت أو الحرمان الجنسي..."، والثانية: "تتأتى عن اشكالية العلاقة بين الجنسين دون أية ضرورة لوجود كبت أو حرمان"، وان النكات الجنسية "تعزف على وتر عدم مجاراة الرجل للمرأة في مضمار الجماع، - وما هو إلا وهم - المسألة مرتبطة بذكورية المجتمع التي نصبت الرجل قائداً للمرأة، حتى في ممارسة الجنس، وجعلت من الفحولة الجنسية فضيلة يتباهى بها الرجال، وبذلك ظلم جنس الرجال نفسه...". أما النكتة الدينية فيرى ان تناقلها لا يدل على عدم إيمان، بل على كثرته ربما، فهي وليدة "المجتمعات المؤمنة"، وهذه المجتمعات تضع قيوداً على الفرد مما يُثقله ويُضجره، لذلك تخرج النكتة "كصمام الأمان الذي يخفف بالتنفيس من هذا الضغط المعتقدي...". ولكن النقطة المثيرة التي عرضها الكتاب، ان ثمة نكتاً دينية تخرج حين ينشأ تعارض بين المصلحة الفردية والأمر الديني، فغالباً - حين يتم الاختيار بين ذلك، يختار الفرد مصلحته، ويتولد لديه شعور بالذنب "خاصة عند اقتراف المحرمات" فتكون النكتة مخففة لحدة هذا الشعور و"تهوِّن من خطر التعارض بين المعتقد والمصلحة". واعتبر ان الانسان يهرب من الأسئلة الوجودية الكبرى التي قد تقوده الى التشكيك بإيمانه، الى النكتة، فيفرّغ قلقه وتساؤلاته عبر النكتة