تتدفق الشعرية العربية عند ملتقى القرنين بتيارات قوية من أخصب التجارب الإبداعية، ويأتي "كتاب صنعاء" الذي صممه بوعي كوني عميق شاعر اليمن الدكتور عبدالعزيز المقالح ليتوّج مراحل من العطاء الخلاق في الشعر والنقد، وينتقل بخطاب المدينة الى أفق لم يشهده من قبل. كأن يستوعب التمثيلات الرومانسية والرمزية السابقة، ويتجاوزها في طرح شبكة جديدة من علاقات الخطاب الغنية بأشكال الحوار: مع الذات والآخر، مع الفن والعلم، مع التاريخ والأسطورة. لكنه يفعل ذلك عبر مسلك تقني مدهش يعتمد على حوارية منتظمة في إيقاع جميع القصائد: بين التفعيلة المازجة بين المتقارب والمتدارك من ناحية، والجملة المتحررة من الوزن المألوف وإن كانت مفعمة بكسر التفاعيل من ناحية ثانية. إنه يشطر مرآة الخطاب الشعري الى نصفين، يمتص أحدهما إيقاعات القصيدة، ويستطر الآخر شعرية اللغة المنثورة، حتى ينفذ من خلال هذا الانشطار الى تفجير الطاقة الحيوية الكامنة في التكوين المركب. فالكتاب / الديوان يتدرج في معارج التشكيل الى خمس وخمسين قصيدة مرقمة، تقع بين قوسين متعامدين في الإهداء والختام. يقول القوس الأول: "كانت امرأة / هبطت في ثياب / الندى/ ثم صارت/ مدينة". ويقول القوس الأخير: "كانت / أمرأة / هبطت من ثياب الندى / هطلت / ثم صارت / قصيدة". هكذا تتوحد وتتماهى خلال رحلة الرؤية الشعرية عناصرها المثلثة: المرأة والمدينة والقصيدة، في كتاب الشوق الصوفي، والحب الوجودي، والشعر الخالص، لتقدم وعياً إنسانياً بالذات، ومطارحة غنائية لها، لا تقع في قبضة الشقاء النقدي المعذب، ولا تنسال في غفوة السعادة الوجدانية الذاهلة. بل تحاول ضبط حركتها الجدلية في نظام صنعاني بديع، يدرك موقعه في أغوار الروح العربية، ودوره في قلب الحضارة الإنسانية، فيدّل به، ويشدو له، بظاهره العمراني وباطنه الاسطوري في أنشودة مركبة غنية وربما كانت القصيدة الأولى نموذجاً تتجلى فيه وظائف الانشطار في تشكيل البنية، وما يحققه من حوارية متوافقة - لا متخالفة - يقول: "هي عاصمة الروح / أبوابها سبعة - والفراديس أبوابها سبعة. كل باب يحقق أمنية للغريب / ومن أي باب دخلت سلام عليك. سلام على بلدة طيب ماؤها، طيب / في الشتاوات صحو أليف / وفي الصيف قيظ خفيف / على وابل الضوء تصحو / وتخرج من عنق الوقت سيدة / في اكتمال الأنوثة / هل هطلت من كتاب الأساطير؟ أم طلعت من غناء البنفسج؟ / أم حملتها المواويل من نبع حلم قديم؟". ثم يأتي الشطر الثاني من القصيدة ليرتل منظومة متوالية من الاسنادات الخبرية توزع أدوار المدائن في العالم، حتى لتبدو القسمة عادلة وطبيعية، عندما تُختص صنعاء بالروح. ولا يعني القوس الذي يسوّر هذا الشطر سوى اختلاف نوع إيقاعه، فليس هناك تنصيص لكلام آخر يتم إدماجه في القصيدة، وإن كان مصدر دلالته أكثر عمومية، وطبيعة صياغته أشد عفوية ومرونة، كأنه يطرح صوت الراوي إذ يقول: "مكة عاصمة القرآن / باريس عاصمة الفن / لندن عاصمة الاقتصاد / واشنطن عاصمة القوة / القاهرة عاصمة التاريخ / بغداد عاصمة الشعر / دمشق عاصمة الورد / وصنعاء عاصمة الروح..". والطريف أن هذا الشطر الثاني يختم باستشهاد يجلبه الشاعر من كتابته ذاتها، عندما يقول: كتب شاعر يماني: هي صنعاء حانة الضوء فادخل ... بسلام وقبلّ الأرض عشراًَ واعتصر من جمالها الفاتن البكر رحيقاً يضيف للعمر عمراً. فنجد أنفسنا حيال طرف ثالث ضمني في حوار الأشكال الإيقاعية من التفعيلة الى قصيدة النثر اتكاءً على المذخور من تراث القصيدة العمودية، غير أن التيار الدلالي الساري عبر هذه الأشكال المتفاوتة يتدفق بالتوازي لا بالتخالف، فلا يثبت أحدهما ما ينفيه الآخر، بل تبدو كأنها اصوات تعلو وتنخفض، جهراً وهمساً، بالمعنى ذاته، تتبادل الإنشاد والنبرات فلا تشكل في مجملها سوى جوقة متناغمة يعزز اختلاف أنغامها اتساق تركيب النشيد القوي المتآلف فيها. المدينة الأنثى كانت المدينة دائماً في مخيال الشعراء أنثى فاتنة، يلتمسون وصالها، ويشكون هجرها. وربما كانت المدينة الاندلسية أوضح تجسيداً لهذه المطاردة العاشقة بين الفتح والفتح المضاد، فالشاعر الشعبي الإسباني الذي كتب مثلاً "أغاني الرومانث القديم" وضع على لسان الملوك المسيحيين غزلاً مُغوياً للمدينة الاندلسية المسلمة، ورداً مفحماً منها: "هنا تكلم الملك دون خوان / فلنسمع جيداً ما كان يقول: - إن أحببت يا غرناطة / أن تزفي اليّ عروساً معجبة / فسوف أهبك صداقا / إشبيليه وقرطبة./ - متزوجة أنا دون خوان / متزوجة ولست بأرمل /والعربي الذي يملكني / يتفانى في حبي الأمثل". والملاحظ أن التغني بمحاسن الأعداء وحبهم الجميل في هذا "الرومانث" هما اللذان يضفيان عليه مسحة درامية شجية تجعل شعريته ذات نكهة مميزة. ولعلنا نذكر من العصر الحديث "بيروت" نزار قباني، التي أهدى إليها عام 1976 ديوانه المأساوي "إلى بيروت الأنثى .. مع حبي" إثر اغتصاب الحرب الأهلية لها. لكننا على عكس ذلك تماماً، نجد صنعاء في كتاب المقالح ليست أنثى للغواية والامتلاك، ولا للفراش والاغتصاب، إنها أمثولة للطهر والعبادة. فهي أولاًَ حواء المدن وأمها الأولى التي قُدّتْ من ضلع الجبل "غيمان" ذكرها الحارس المفتوح العينين، وهي ثانياً قديسة لا تراود أحداً ولا يناوشها أحد، وهي لا تتجسد بعد ذلك إلا على سجاجيد الصلاة. ولو لم تكن صنعاء كذلك لما كانت مدينة الروح، ولما تركت للمدائن الأخرى جدائل الشعر وغناء الحوريات اللائي يسلبن سراة الليل لبهم ويوقعنهم في أحابيلهن. لهذا فإن أبرز ملمح أنثوي فيها لا يتمثل في جسدها المعماري، بل في عمرها الأسطوري: "المدن الجميلة كالنساء الجميلات / لا يخضعن لحساب الزمن / ولا يفصحن عن أعمارهن". ولأن أنوثة صنعاء في حدقة المقالح مجاز صوفي، فإنه لا يضيفها أبداً الى ضميره المتكلم، لا تمتلكه شهوة امتلاكها فيقدم لها صداقاً مثل الشاعر الإسباني القديم، ولا يرى فيها غيرها من المعاني مثل الحرية، كما فعل الشاعر العربي المعاصر، بل تظل هي ذاتها في كل الاحوال، يرتل لها اناشيده، ويقدم قرابينه، ويتلو قصائده لتجلو كل واحدة منها طرفا من حجب المدينة المقنعة السافرة، الراقدة في عسل التاريخ ولبن السماء، جنة ارضية مثالية لا يعرف الشيطان طريقه الى ربوعها اليانعة بالظل والطهر والماء. ولما كان الخطاب الشعري ممارسة ثقافية للفن، وصيغة لعمل مبدع يدور بين مرسل ومتلقين، داخل سياقات تاريخية ودلالية تشحن الذاكرة وتوجه المعنى، فان النص الشعري يظل مجرد سجل لغوي لهذه الممارسة، لا يكتمل تصوره الا باستحضار بقية اطراف الخطاب، المبدع واختياراته وطريقة مقاربته واشاراته، والمتلقي وذاكرته واستحضاراته وتداعياته. من هنا فان اختلاف شعر المدينة عند المقالح عن نظائره في الشعر العربي لايمثل مجرد تباين في النصوص، بقدر ما يقدم اختلافا في الخطاب، في الموقف والمنظور ومثيرات التفاعل، فصفاؤه ليس مدينة بلا قلب مثل قاهرة حجازي، ليست مكانا جغرافيا، بل هي مكانة كونية، درجة عليا من الوجود تتكثف فيها اقطار الارض وابعاد السماء ويلتقي فيها التاريخ بالواقع في بورة واحدة مجسدة وشفيفة في الآن ذاته. واذا كانت دلالة النصوص تتكيف وتتخذ ابعادها من منظور الخطاب الكلي فان التراث الشعري المتصل بالمدينة- والذي خضع لبحوث جادة عميقة عندنا- يصحب منطلقا لادراك مستوى التجاوز الذي بلغه "كتاب صنعاء" عندما اقام جدلا بين الاحتمالات المتوقعة لتوظيف صورة الانثى اعتمادا على التجارب الشعرية السابقة ثم افضى بهذه الرؤية الجديدة لها، على ما فيها من مثالية مفارقة مضنية. تتحدث قصائد الكتاب بانتظام عنها: صنعاء، لا تغيب عن واحدة منها أبدا، مع انها توميء اليها في النص بضمير الغائب المؤنث. فتضعها القصيدة دائما في بؤرة السياق، ودون ان تتركها خارجه، تفتح باب الذات "الأنا" للشاعر كي يدخل اليها، ربما يتأخر قليلا في ذلك لأنه يريد ان يجعل البطولة للمدينة، غير ان منظوره الشخصي لا يلبث ان يتسلل بنعومة مفرطة الى النص عندما يقارن بين حالاتها عندما كانت رشيقة خالصة، تقتصر على احيائها الاصيلة القديمة، وبعدما اخذت تترهل بالاحياء الجديدة التي تجرح حس التاريخ ولا تبالي بالاعتداء على الطابع المتحفي للمدينة، عندئذ يتذكر الشاعر ما فقدته المدينة في طوايا الماضي وغياهبه، يتذكر اسطورتها المعمارية "قصر غمدان"، ولا يكاد يفعل ذلك حتى تناوشه ذكريات طفولية اخرى، له ولها، فيتحدث عن "مجذوب صنعاء" وكأنه يوميء الى جزء من ذاته، فينتبه فجأة الى انه قد رحل عنها يوما وغاب في مهجره لكنها دائما "كانت معه"، فيبدأ في قص سيرته معها، حيث تتوحد "هي" مع صوت القصيدة، يستحضر قصته مع جامع "اليعفربين" الذي نهل من مخطوطاته اول اكواب المسك، مع الملائكة الذين يخلعون عن الناس احزانهم. يتذكر نفسه طفلا هائما يتسمع ايقاع الاقدام الصغيرة في شارع "خضير" الذي شهد مولده، ثم يتسلل الى غرفته فيمسح عن وجهه تجاعيد الكآبة، ويتذكر نهر صنعاء الذي جف وهو يتساءل بلوعة: هل سيعود؟. ولا نصل للقصيدة العشرين حتى تكون ذكرياته عن مدينته قد احتشدت واحتدمت، وانبثقت في فورة عشق تشبع طرفا من عشق الذات ايضا، بيد ان تكرار الضمير العنقودي "هي" في كل قطعة، وحركة التقدم في سرد تاريخها قبل ان يلتحم مع المتكلم، وانتظام محور التدرج الأمين مع هامش الحرية في توظيف حالات الاستباق والاسترجاع التي لا يخلو منها اي سرد فني، كل ذلك يضمن لنص الكتاب درجة عليا من التماسك، تصنع خطابا شعريا لايبهرنا بنسيجه الفني المكثف فحسب، وانما بمستوى التناغم الرفيع بين شخوصه المتراتبة، من صنعاء الى شاعرها الاول حتى نصل الى المخاطب الذي يتأخر كثيرا في الظهور لأن دوره كشاهد على هذا التماهي يحتاج الى تمهيد وتطويق. في القصيدة العشرين يتفجر عشق الأنا للمدينة الخالدة فتصبح هي المخاطبة التي تتجه اليها الصلاة، في تمتمات بريئة اولا، ثم عبر اختراق نافذ لذاكرة النصوص السابقة ثانيا: "باريس دونك/ في العطر/ والسحر/ والثرثرات البريئة/ والنمنمات على واجهات البيوت، ولندن دونك في الشمس/ واللمس/ والضوء/ والظل". ولكي يعطي صوت القصيدة مصداقية لما يؤكده، يستشهد بهذا البيت لشاعر من مطلع القرن يسمى الجواهري، وهو ابن عم الشاعر العربي الشهير محمد مهدي الجواهري، يقول فيه: "باريس دونك في الجمال ولندن / وعواصم الرومان والامريك". ويستحضر ويوظف كلمات امين الريحاني، الشاعر الرحالة الذي عاش في نصف المدن العالمية الجديد اذ يقول:- "اي صنعاء، مثلك لنا التاريخ فكنت مليكة الزمان / ومثلك لنا العلم فكنت يوما ربة العرفان / ومثلتك لنا الاساطير فكنت سيدة الانس والجان". ولا ينتظر في مثل هذه الحال ان يحول الشاعر الغنائي العاشق مدينته المتماهي معها الى صوت آخر، يهمس لها بأي لوم او عتاب، بل هي مبرأة من كل العيوب والذنوب، وحتى ما لقيته في تاريخها من فواجع ومظالم لم تكن سوى الضحية المنكوبة فيه، عندئذ تتجرد المدينة من هيكلها التاريخي، من الاقوام الذين قطنوها، والممالك التي عمرتها، والاحداث التي شهدتها، والتحولات التي مازالت ماثلة على جسدها، لتصبح مجرد فكرة شعرية رائقة، تلح على وجدان مجذوبها العظيم، فيصنع لها هذا التاريخ الشعري المصفي من النقد والعتاب، المغرق في مثاليته ونورانيته وحسنه السرمدي. يحافظ الشاعر بدقة بالغة على هذه الصورة عبر حركات خطابه الشعري، فهي دائما مدينة فاضلة ان شهدت خيرا فهذا من صنع يديها وثمرة انجازها، وان لقيت شرا فهذا فعل الآخرين الاثم بها، وعليهم ان يعتذروا عنه ويمضي الخطاب دائما متراوحا في استدعاءاته بين هذين القطبين، فهو يتذكر مثلا تعصب الاتراك العثمانيين فيرى ان مدينته كانت دائما:- "مؤمنة/ يتدفق ايمانها كالنوافير/ لكنها لا تطيق الغزاة/ ولو آمنوا، وبكوا في المحاريب/ لو ادمنوا الصلوات/ مدافعهم وهي تبني القباب/ تشد اليها الحداءات.. مآذنهم لم تكن غير فزاعة/ للمصلين". ثم يضيف في شطره النثري: جامع الزمر ومسجد البكرية ومئذنة العرضي ثلاث هدايا نفيسة، تكتب كل يوم اعتذار العثمانيين عما ارتكب جنودهم من آثام. فالكتاب يقوم هكذا بتوظيف التاريخ وتأويله، بقرائة الاحجار والاشعار، بصناعة وجه قدسي لصنعاء، وتمجيد اسطوري لعالمها، يقدم رؤية الشاعر لجماليات مكانه وجوهريات زمانه، رؤيته لسيرته المندغمة في خطوطها الهندسية والمرتقية من نوافذها الى معاريجها العلوية، انه يحيلها من مجرد قطعة في الارض الى رقعة في كبد السماء، يستحضر "بلقيس" مثلا فيقول عنها: "يالها من فاتنة، بعد رحيلها أُصيب الجمال بفقر الدم/ وتحولت سيقان النساء الى عكاكيز للشمس"، لابد لقارئه ان يكون مسكونا بهذا المس المسحور حتى يتبعه في غوايته الجميلة، لا يصح معه اعمال المنظور النقدي، ولا تنشيط الذاكرة بأسرار مدائن الارض وتواريخها المادية والروحية، وهل يجدي مع "قيس" ان تعدد له مظاهر الحسن في نساء العالم وهو يختزلها في ليلاه؟ لكنك لا تملك سوى ان تنتظم معه في صف واحد وهو يرتل صلاته، لأن كيمياء الشعر تعيد لك بهجة الروح وانت تتأمل بلورتها الكونية البديعة الصنع وهي تدور حول صنعاء المقالح. ناقد مصري