الكتاب: كتاب صنعاء شعر الكاتب: عبدالعزيز المقالح الناشر: رياض الريس للكتب والنشر - بيروت عمل عبدالعزيز المقالح الشعري الجديد يضع نفسه - منذ العنوان - في أسر المكان، حين يختار صاحبه مدينته الأثيرة صنعاء، عاصمة اليمن ورمزه في الوقت ذاته كي تكون الحبيبة، المناداة طوال الوقت، وطوال القصائد في ما يشبه التحاماً صوفياً، فيه الكثير من غبطة الاحتفال بالمكان مثل ما فيه اكثر من رغبة في فتح العينين على اتساعهما، وإطلاق المخيلة نحو فضائها الممكن بابعاده كي تتوفر للنشيد الشعري وشائجه المتينة مع المدينة - الحبيبة، وفي الوقت نفسه كي لا تظل هذه الصورة للمدينة - الحبيبة، مغسولة بعطر الحب ورياحين الغزل، اذ ان "كتاب صنعاء"، هو في حقيقته انشاد يمتزج فيه الحب الصافي، بملامح السواد، وبقعه الداكنة… والشاعر خلال ذلك كله لا ينتقي الرؤية، ولا يتقصد ملامح الصورة. انه يمتح من مخيلة جامحة شغوفة برؤية المشهدالبعيد، ومن حدقتين لا تغفلان عن المشهد القريب… المشهد الواقعي، في سطوته واحتدامه، في حقيقته، وفي ملامسته المباشرة للروح وللحواس معاً: "هي عاصمةُ الروح أبوابها سبعةٌ - والفراديسُ أبوابها سبعةٌ - كل باب يحقق أمنية للغريب". عبدالعزيز المقالح في "كتاب صنعاء" يؤثر ان يذهب في اتجاهات اخرى، تبتعد عن ملامح تجربته الشعرية المعروفة، فيتوغل في الانشاد لاكتشاف قدرة المكان العادي، بل المألوف، على الإدهاش. شاعر يكتشف مدينته، لا في رؤية سياحية تتبدى من خلال ملامحها المعمارية - البيئية، ولكن من خلال ما تمثّله من حالة وجدانية، تختلط خلالها ملامح الصورة وجزئياتها، بهاجس الشاعر وجموح مخيلته التي تحب ان ترى المدينة في بعدها الرمزي، المنسوج من وقائع وتواريخ، من آلام وبهجة. هنا تعتمد قصيدة المقالح على غبطة الانتباه الى ما في العلاقة بين المكان والزمن من وشائج، فنراه يقرأ كتاب صنعاء في لحظة محددة بالذات، لحظة تشبه الاحتدام وتقارب معناه، وهو في ذلك يصغي الى ايقاع آخر، تطلقه تلك اللحظة وتحدّد ملامحه: "على درج الضوء أدركت أنّي بصنعاء ان النجوم اذا ما أتى الليل ترقص في غرف النومِ والقمر المتوهج يضحك من شرفات البيوت" اعتقد ان هذا المقطع الذي اخترناه من سياق شعري طويل، يجد صورته الأشد وضوحاً - بل وجمالية - في حواره مع ما يليه من شعرية يتقصد المقالح ان تتنازل عن التفعيلة وتنطلق في برية الشعر، طليقة حرّة. انه يفعل ذلك في كل واحدة من قصائد الكتاب الست والخمسين، حين نرى مقطعين أولهما يلتزم بالتفعيلة، فيما الآخر يتحرر منها. وفي المقطع التفعيلي الذي اخترناه سابقاً ما يشبه حوار النقيضين المتكاملين، خصوصاً حين ترتفع الشعرية في المقطع الثاني "النثري"، الى ذروة أعلى، فيها الكثير من التألق: "يستطيع الفقر ان يكون جميلاً وناصعاً إذا داوم النظر الى وجهه بمرآة النظافة واستحوذ عليه ما أبقت القرون من ترف الذوق وأرصدة الجمال". تقوم بنية "كتاب صنعاء" الشعرية على مقامين يقبلان القراءة مفردين ومتحدين في الوقت ذاته، فمن جهة اولى يقدم الشاعر قصائد مستقلة، يمكن قراءة كل واحدة منها على حدة، ويمكن من ثمّ الوقوف على جمالياتها الخاصة، المنحدرة - ربما - من تلك الاستقلالية الشعرية، التي تجعل من القصيدة نصاً نهائياً يستقل بذاته، عن اكتمالات محتملة، بما يحمل من غنائية خاصة تقع على ايقاع النفسي الموحد التأثير في ذهن القارئ. كما يمكن - بل كما تحتم القراءة الشاملة للكتاب - قراءة القصائد كلها في سياق علاقتها الواحدة، تشابكها في المناخ، وتشابكها في اللغة الشعرية، وايضاً - وهذا هو الأهم - من خلال وحدة موضوعية ذات سياق درامي، له ما له من تنامي التوتر وتصاعده، نحو رسم صورة البطل - المدينة، والبطل فارس القصيدة في الوقت ذاته، يتبادل الدورين في مخيلة الشاعر وفي علاقات القصائد. ان ابرز ما في "كتاب صنعاء" هو استغراقه الواعي في لعبة تحويل الرؤية، بما هي هنا انتماء شبه كلي الى المخيلة، الى "خطاب" شعري يوجهه عبدالعزيز المقالح الى آخر مفترض، قد لا يكون احداً على الاطلاق، وقد يكون المدينة ذاتها التي يروي عنها، وقد يكون هو نفسه الشاعر الذي يحب المدينة ويدفع من روحه وأعصابه ثمن هذا الحب: "أنظروا الى عينيها البديعتين جيداً ولا يشغلكم النظر الى تجاعيد وجهها ولا يحزنكم الغبار العالق في الأجفان" قراءة "كتاب صنعاء" تعيدنا من جديد الى سؤال الأشكال الشعرية وعلاقتها بالحداثة، وهو سؤال ذهبت تجارب الشعراء العرب للإجابة عليه الى تخوم ابتعدت في كثير من الأحيان عن الشعر ذاته. وها نحن من جديد امام تجربة شعرية لا تغتني من ملامسة الشكلانية في احتفالياتها الصاخبة، بل تجد نفسها وتحقق شاعريتها في انتماء اللغة الشعرية، بصياغاتها وصورها، كما بأجوائها ومناخاتها، وحتى شكلها الخارجي الى الرؤية، التي نعتقد ان المقالح ركّز عليها كثيراً، فأحسن كتابة قصيدة سلسة العبارة تزدحم بالصور الشعرية في غير تبذير او ثرثرة صورية، حيث الصورة اشبه بلوحة في معمار شعري يتكامل ويتوحد، سواء في المقاطع التي اخذت صيغة التفعيلة او في تلك التي تحرّرت منها، ففي هذه وتلك يرتفع مقام الشعر ويبدو مغسولاً من الزوائد، ومن تقصدات معنى دأب شعراء "الواقعية" على الانزلاق الى مغرياتها، فالمقالح اذ يكتب عن واقع "شديد الواقعية"، ينأى بنفسه عن الوقوع في فخ الايديولوجيا، او وهم القضايا الشعرية الكبرى، فيحقق قضيته الكبرى من خلال ملامسة الأوجاع الصغيرة، الهموم الفردية، وحتى الخيبات في تجلياتها الشخصية - الفردية والعامة على حد سواء. شاعر يعود بالقصيدة الى حقيقتها الأجمل، بوصفها تعبيراً فنياً جميلاً عن القلق الانساني، وعن اغترابات الروح، في عصر يذهب بجموح نحو الفوضى الشاملة. المقالح في "كتاب صنعاء"، اضاف تجربة حقيقية، غنية وجميلة الى تجربته السابقة، التي عرفناها وأحببناها في مجموعاته "لا بد من صنعاء"، "مأرب تتكلم"، "رسائل الى سيف بن ذي يزن"، "هوامش على تغريبة إبن زريق البغدادي"، "الخروج من الساعة السليمانية"، و"أبجدية الروح"، وهي تجربة نعتقد انها لم تقرأ جيداً في الاقطار العربية الاخرى، ولم تنل حظها الذي تستحق من القراءات النقدية، لأسباب كثيرة. وهذه المجموعة تحمل في الوقت ذاته خصوصية واضحة، كونها تتأسس على ما يشبه مناخاً واحداً، يقوم الشاعر بالعزف على وتره الوحيد، فيجد نفسه مضطراً الى تقديم تنويع على هذا الوتر، تنويع تغنيه الموضوعات والصور ومخيلة الشاعر بدرجة أساس.