عالم لوركا المسرحي لا يزال شبه مجهول ولم يُعط حقه المفترض نقدياً ولم تفرد له معظم الموسوعات المسرحية في العالم ما افردت لسواه من صفحات. وقد طغت صورة لوركا الشاعر على شخصيته ككاتب مسرحي كبير. الناقد المصري صلاح فضل يلقي ضوءاً على عالم لوركا المسرحي، على معالمه وشخصياته. احتفل العالم ويحتفل باكتمال مئة سنة على مولد الشاعر الاسباني لوركا 1898 - 1936 الذى اغتالته الفاشية في زهرة العمر إبان الحرب الاهلية الاسبانية. وقد غاظني مؤرخه الشهير ايان غيبسون في مقدمته التي صدّر بها الطبعة الرابعة لكتابه الضخم "حياة فيديريكو غارثيا لوركا ومأساته وموته" حيث ارجع كل الألق والتوهج والنجاح في حياة لوركا، وكل الالم والعذاب في مصرعه الدامي، بل سر ابداعه وجوهر مشروعه الشعري الخلاق الى سبب وحيد هو انه كان من الشواذ المهمشين جنسياً، فاخترق قلب الثقافة كالرصاص، وتغنى بكل ما هو غير مألوف، وبنى مملكة الغجر، وصارع طواحين الاخلاق البرجوازية. ومع اني لست شغوفا بالجدل في القضايا الشخصية او الخصوصيات التي تمس حرية الانسان، كي انفي او استبعد اي ملمح محرك في شخصية لوركا لانه لا يتسق مع المنظومة السائدة، لكنني بعد اعادة قراءته نقدياً اجدني اشد ميلاً الى اهمال هذا العامل لاعتماده على تصور محدود لطبيعة الابداع واستغراقه في الايديولوجيا الاوروبية الرائجة الآن. فطاقة لوركا الخارقة ومشروعه الابداعي المتوهج لا يمكن ارجاعهما فحسب لهذا السبب الاحادي المنظور. اذ لم يكن شعر لوركا الغنائي، ولا مسرحه الدرامي، ولا حضوره الفني المكثف الذي غزا القارتين الاوروبية والاميركية في حياته، وشمل بقية انحاء المعمورة في ما سلف من هذا القرن، بحيث اصبح نموذجاً للمبدع العالمي الذي يتثاقف انتاجه بشكل خصب مع الكتاب والقراء في مختلف اللغات، لم يكن يقع علىها هامش الشذوذ والحرمان، ويعبر عن مجرد التمرد الفردي عليهما. انه يهز شعرياً منظومة الاعراف المتكلسة للمجتمع، لينفذ الى خبايا الروح الانسانية ويتغلغل في اركان الاسرة والقرية والمدينة معاً، بحثاً عن الخصوبة الحيوية والحب المبدع والحرية الكاملة، لكنه ليس بحث الموتور المعني بذاته ومطالب جسده، الباحث عن تبرير لسلوكه، بل بحث الانسان الناضج الذي تتفجر طاقته الشعرية من ينابيع عدة دافقة. كان شعر لوركا - ومسرحه بصفة خاصة - يؤسسان وعياً جديداً بالحياة، ومقاومة عنيدة للقدر، ورؤية متجاوزة لروح الفن وهو يعني وقسمات المستقبل. لكننا عندما نقرأ لوركا الآن في نهاية القرن فان ذلك يتم بالضرورة في سياق شواغلنا الثقافية العربية، مما يفرض علينا تأمل الجوانب التي تسعف مسيرتنا الابداعية، وقد كان مسرح لوركا الشعري احد المتكآت القوية التي استحضرناها - في الستنيات خاصة - كي نؤصل على ارض الواقع الثقافي الوعي الكوني بالتاريخ، والرسالة الانسانية للفن، والروح الشعري للابداع. كان مسرح لوركا احد النماذج الفائقة الفعالة في تنشيط الدوامة التي يلتحم فيها المسرح بحركة الحياة واستراتيجية الثقافة وفورة الحلم الاجتماعي الطموح للمشروع القومي، وعندما انطفأت هذه الجذوة برياح التحولات السياسية غابت صورة لوركا، كما غابت بقية الصور الوضيئة، من صفحة الاهتمامات الثقافية العربية. وعندما نعود لتأمله اليوم فإني اوثر ان اتوقف عند شعرية المسرح لديه، ابتغاء توظيفها لعدة اهداف: منها دفع حركة الابداع لدينا لاستناف مسيرتها في الشعر المسرحي التي لم تنقطع في الظاهر منذ رحيل صلاح عبد الصبور، لكنها بالتأكيد فقدت قوة دفعها وزخمها الاول، واصبحت في حاجة لاعادة شد الطاقات الشعرية الشابة للمشروعات الطموحة. منها مقاومة تيارات التسيب المسرحي، التي تجعل الممثل مؤلفاً مرتجلاً يسعى لاستجلاب التفاعل المباشر السطحي مع الجمهور بالابتذال والخفة النزقة في كثير من الاحيان، لأن النص المسرحي عندما يكون شعرياً بأنه يسيّج اطار المسرح ويمنعه من الفيضان العشوائي في الصالة. أما السبب الثالث لبعث الاهتمام بشعرية المسرح لدينا فهو يمكن في ملاحظة الواقع الثقافي، اذ يبدو ان الحس الغنائي غالب على ذوق المشاهدين، مما يجعل تجار الفرجة يشبعونه بالرقص والطرب. لعل تنمية المسرح الشعري كتابة وعرضاً ان تستثمر هذا الميل الفطري للمشاهد العربي كي تقدم له اعمالا درامية فائقة تخللها بعض الاغنيات الشعبية والمشاهد الغنائية المرحة، مما يستأنف عمل رواد المسرح العربي ويدفع ذوق الجمهور لمزيد من الرقي الفني بدلا من ان يتلاعب بغرائزه الدنيا ويضاعف فساد ذوقه. ولعل الخاصية الاولى في شعرية لوركا انها جامعة، حاورت الفنون كلها، وتغذت من اعراقها، وتنفست قليلاً فيها، قبل ان تتكثف في الكلمة الشاعرة الدرامية قصيداً ومسرحاً. مارس لوركا الرسم ولعب بالالوان، وكانت له صداقة حميمة مع "دالي" علاقة عاشقة لأخته، ولم يلبث ان اقام معرضاً لرسومه في مدينة برشلونة التي كانت - ولا تزال - تحتضن الفن التشكيلي الطليعي، واعمال لوركا الكاملة والكتب التي صدرت عنه مزينة بلوحاته التي كانت لاتقل اهمية في حينها عن رسوم بيكاسو ودالي. ويلاحظ ان جماليات التشكيل لديه ورثت رحيق ظلال غرناطة ونضرة طبيعية الاندلس، وطفولة العبث اللوني والخطي عندما يصب في اشكال ابداعية بسيطة، لكنها غير سائدة، بل جديدة في روحها واشاراتها ودلالاتها. وكانت الموسيقى عشقه الاساسي، عرف كيف يعزف على البيانو وينصت في الآن ذاته لصوت الحياة والطبيعة وكلام القمر، صاحب موسيقار الاندلس الكبير مانويل دي فايا وربطت بينهما صداقة حقيقية. كانت ليالي السمر بين اصدقائه لا تمر دون ان يداعب البيانو عزفاً وارتجالاً كل يوم. يقول صديقه الشاعر جيين انه لو اراد ان يكون مؤلفا موسيقيا لبرع في ذلك لاستكماله جميع الادوات اللازمة. بيد ان هوايته التي احترفها، وعمل لسنوات طوال في تنميتها بالممارسة كانت العروض المسرحية، اذ كوّن فريقاً من الهواة اطلق عليه اسم "لابارّاكا" واخذ يجوب به القرى والمدن الاسبانية العديدة، مشاركاً في التمثيل والاخراج والادارة، ومحولاً روائع المسرح الكلاسيكي الاسباني في اشعار لوبي دي بيجا وكالدرون دي لاباركا الى عروض مفعمة بروح الشباب وافراح الحياة. كان لوركا شديد الولع بالمسرح الشعري، تربى فيه، وعمل بكل ادواره، وتنفس شعريته الجامعة لفنون التشكيل والموسيقى والرقص والادب الرفيع قبل ان تتفجر موهبته بالكتابة الفائقة. على ان هذه الشعرية الجامعة كانت مشبعة بالروح الاندلسي وقيمه الجمالية، ورثت رحيق التراث، وتمرست بفرحة الوجود وفواجعه في آن واحد. كان لوركا موهوباً في اختزانه للاغنيات الشعبية وتوظيفه لايقاعاتها العديدة، بالدرجة ذاتها التي كان ينفذ بها الى ما لهذا الشعب الاندلسي من اوجاع موغلة في قلب التاريخ. انه شعب تتألف طيات ضميره الباطن من طبقات متراكبة متناقضة، يتغلب عليها جميعاً بصيحة بهجة منزوعة من براثن القدر في لحظة نشوة فنية عارمة. الحس الدرامي بالوجود، على نحو ابداعي، وليس مجرد ازمة ضمير ديني على مستوى فكري، كما كانت عند معلم الوجودية الاسبانية ميجيل دي اونامونو، هذا الحس المتقد بدراما الحياة هو منبع الشعرية في غنائيات لوركا ومشاهده المسرحية. خان لوركا شديد الانصات لتحولات المجتمع التقليدي، فأخذ يرهن سمعه لتمزقات اغشيته الداخلية وصنع منها مادة درامياته، سواء في اسطورة العاقر الرمزية "يرما" اوفي مجمع العوانس المتأجج بالرغبة في "بيت برناردا البا" او في عرس الغيرة والتنافس الدموي. كلها تروي قصة التحول المأساوي في منظومة القيم وما يتقطر منها من دم وعذاب. كان لوركا يدرك ان دورة الحياة تفرز الفواجع بمقدار ما تسعى للتجاوز، وان صريرها المحتدم هو الذي يشكل ايقاع الفن البعيد- فكان خلاصة للشخصية الاندلسية التي تجمع بين تناقضات "دون كيخوتي" و "سانشو بانثا" في مزاج انساني واحد، مفعم بالجمال وفورته، بالشعر وثورته، بالواقع والمثال في كيان متناغم يضح بشهوة الحياة. ومن الملاحظ ان علاقة مسرحيات لوركا بالشعر لم تمض على مستوى واحد، بل اتخذت منحنى طريفاً وتطورياً له دلالته الجمالية والاجتماعية. فمحاولاته الاولى في الكتابة المسرحية تلتزم بالنظم الشعري مثل "رُقية الفراشة المؤذية" و"ماريانا بينيدا"، كما ان آخر مسرحية كتبها قبيل رحلته النهائية الى غرناطة "بيت برناردا ألبا" عام 1936 كانت نثرا خالصا. وفيما بينهما تراوح الشعر مع النثر في الاعمال التالية: - "الاسكافيه العجيبة" عام 1930 - "عرس الدم" عام 1933 - "يرما" عام 1934 - "دينار وسيتا العانس" عام 1935 الى جانب بعض المسرحيات الصغيرة الاخرى مثل "الجمهور" وغيرها. والدلالة الاولى لهذا المنحنى هي ان "لوركا" قد انطلق من مسرح الحداثة الذي كان مزدهرا في بداية القرن من ناحية، ومن تقاليد العصر الذهبي للمسرح الاسباني من ناحية اخرى، وهما يعتمدان على ما يلي: - توظيف العناصر الغنائية في الدراما اعتماداً على تطعيمها بأغان شعبية شهيرة، كما كان يفعل "لوبي دي بيجا" في بناء مسرحياته على اغنية شعبية، بموازاة بناء الموشحة العربية على اغنية اعجمية او "رومانثية" قديمة. ومع ان لوركا كان يضع اغانيه ويعطيها قوة التراث الشعبي وجمالياته، الا انه بذلك كان يفضل الصبغة الغنائية ويتكئ عليها في مراحله الاولى. كان لوركا تبعها لذلك شديد الاعتماد على الموروث الموسيقي في المسرح الغنائي وعظيم العناية بتوظيف مساحات الصوت فيه لخق المناخ الدرامي الذي يهيئ المشاهد لتلقي روح الأحداث، كما نرى في اغاني "عرس الدم" و"يرما" التي تسمح للممثلين باستقطاب اهتمام المشاهدين وتفجير طاقتهم العاطفية. يحكي انه عند قراءته لمسرحيته الاخيرة "بيت برناردا ألبا" كان يضع الورق جانباً ليصيح في حُميا شديدة: "هذا هو الواقع المصفى، دون قطرة واحدة من الشعر" لعله بذلك كان يعبر عن احساسه بأنه قد بلغ ذروة النضج الدرامي حيث استحالت شعرية المسرح لديه الى نبض عميق بايقاع الحياة، ورؤية متوهجة لمأساتها المباشرة، إنها شعرية المسرح المتجدد. كان الكاتب المسرحي الروائي الطليعي بارتي إنكلان استاذ لوركا الحقيقي يقول: إن هناك ثلاثة أوضاع يتخذها المؤلف بالنسبة الى شخوصه: أ - أن ينظر اليهم من أعلى، وحينئذ تنبثق الكوميديا. ب - أو ينظر اليهم وهو على مستواهم، ما يؤدي الى الدراما. ج - أو يجثوا أمامهم، ويعتبر شخوصه ومشكلاتهم متجاوزين له. ليس بوسعي سوى أن يتبعهم كأبطال، وحينئذ تنبع المأساة. لوركا كان يحتفظ دائماً بنظرته الشعرية الطفولية البريئة، إنه لا يلقي عليهم أحكامه، لا يسخر منهم، بل يرمق مأساتهم بإعجاب وإشفاق وحب. كان لوركا يرى أن المسرح من أعظم الأدوات فعالية في بناء الانسان. يقول: "إن المسرح الحساس، ذا الاتجاه الصحيح، بكل فروعه، من المأساة الى الفودفيل يمكن أن يغير حساسية الشعب في سنوات قليلة، فهو مدرسة للبكاء والضحك، ومنصة حرة يمكن أن يصنع عليها الناس موضع الاختبار قيمهم الاخلاقية وأخطاءهم التاريخية. ليشرحوا بالنماذج الحية أوضاع القلب والمشاعر الانسانية الخالدة. والشعب الذي لا تسعفه طاقاته على تشكيل مسرحه إن لم يكن ميتاً فهو يحتضر. كما أن المسرح الذي لا تتعرف فيه على نبض المجتمع وخفق التاريخ ومأساة البشر، واللون الطازج للطبيعة وشكل الروح، بالضحك أو الدموع ليس من حقه أن يسمى مسرحاً، بل هو لعب رديء لقتل الوقت". جوهر المسرح عند لوركا نظراً وممارسة انما هو دراما التعبير الشعري عن مأساة الانسان في المجتمع وأشواقه للحرية وتطلعه لأفق المستقبل. وقد عقد بعض النقاد الانكليز مقارنات عميقة بين مسرح لوركا الشعري ونظرائه في المسرح الانكليزي خاصة "بيتس" و"ت. س. إليوت" ولاحظوا أن الشاعرين الاخيرين لم يستطيعا التخلص من العرق الغنائي الحاسم في مسرحهما، ولم يعثرا على الصيغة الدرامية الشعرية الناجحة. وقد تعلل إليوت بأنه لم يجد الوزن الشعري الملائم للدراما في اللغة الانكليزية الحديثة. أما لوركا فإن أبرز إنجازاته الجمالية أنه استثمر شكلا شعريا عريقا في الثقافة الاسبانية هو شكل "الرومانث" ولا ننسى في هذا الاطار ديوانه المتميز "الرومانث الغجري" وهو شكل يقدم قصة شعرية تتضمن مواقف وشخصيات متضادة وحوارات ذكية حول أحداث دالة. يستمد هذا الشكل أهميته من التعبير الجماعي عن روح الشعب، لأنه مجهول المؤلف، دائم التجدد، الامر الذي جعل لوركا يتجاوز موقفه لشاعر غنائي رمزي يعبر عن حالة وجدانية فردية في الدرجة الاولى، حيث عثر في "الرومانث" على الوعاء الشعري الملائم لرسالته المسرحية ودورها الاجتماعي. وبوسعنا أن نرى في "الرومانث" بما يعتمد عليه من شذرات تاريخية، توظف الاساطير الجماعية، وتعبر عن التوترات العميقة في الضمير، خاصة "رومانث الحدود" الذي مثل أًصداء الصراع الطويل بين أبناء الاندلس المتعددين في اللغة والدين والميراث الحضاري. إن هذا المخزون الجمعي الشفوي الفعال في تفجير روح الصراع والتعبير عن تمزقات القلب الانساني هو الذي أسهم في توليد شعرية مسرح لوركا وجعلها تتفوق على شعرية المسرح الانكليزي العاتية بشهادة ممثليه انفسهم. واذا كان "جان كوكتو" يحدد معالم شعرية مسرحه قائلا: "إن الحدث في عملي المسرحي يكمن في الصور، لا في النص المسرود". فأنا احاول ان اضع بدلا من "شعر المسرح" "الشعر في المسرح". فالشعر في المسرح قطعة من الدانتيل يستحيل ان نراها بعيدة عنه، إنها نسيجه ذاته، أما شعر المسرح فهو بالاحرى دانتيل عادي، مجرد تطريز للخيوط، مركب في البحر.. حيث تتآلف المشاهد مثل الكلمات في القصيدة.." فاننا يمكن ان نرى الطبيعة الشعرية لمسرح لوركا لا تتكئ على النظم والصياغة الايقاعية، بقدر ما تعتمد على الطابع التصويري الذي يوظف الالوان والاوضاع التشكيلية والمعمارية، كما يوظف الموسيقى والرقص والغناء. بهذا يرتقي المشهد الى إحداث التأثير القوي للشعر بايحاءاته وفنونه، قد لا تكون العرامة الفكرية لأيديولوجيا التحرر ماثلة بقوة في مسرح لوركا مثلما هي في تيارات المسرح الاوروبي المعاصر له في فرنسا والمانيا - لنتذكر بريخت مثلا - من الوجهة النظرية، لكن قدرة العمل الشعري على اختراق الوعي وإدراجه في منظومة جمالية اجتماعية وتاريخية تتجاوز الواقع الإسباني المباشر لتمس الانسان في صميم كينونته هي التي تضمن لهذه الشعرية التصويرية المتجذرة في الضمير الشعبي، والقريبة من الروح العربي، فعالية فنية رفيعة، وديمومة إنسانية موصولة.