منذ سنوات مديدة ننتظر الانتخابات الاميركية وبعدها الانتخابات الاسرائيلية لكي نقرر في ضوء نتائجها استراتيجيتنا وماذا سينتظرنا من مفاجآت سياسية وامنية وفي كل مرة ينتابنا اما الاحباط واما التفاؤل والامل: حسبما يكون قد انتصر حزب الليكود او حزب العمل في اسرائيل او حزب العمل الجمهوريين او الديموقراطيين في اميركا. لماذا هذا الاهتمام بالنتائج ومتابعتها كما لو كنا مشاركين بها؟ الاستنتاج الاساسي من موقف رجال السياسة العرب، هو انهم يعيرون اهتماماً بالغاً بمبدأ الديموقراطية السائد في هذين البلدين، يحترمون نتائجها لدرجة ان سياستهم المستقبلية تقوم في ضوء التطورات والتغيرات الناجمة عنها، في المقابل لم نرَ مرة واحدة سواء في اسرائيل او في اميركا ان زعماءهم السياسيين ينتظرون نتائج انتخابات معينة في بلد عربي، لأن غياب اللعبة الديموقراطية، تجعل النتائج حتمية ومسبقة، ولا تغيّر شيئاً في مجريات الواقع السياسي فالامور قبل وبعد ستستمر كما هي. ماذا يعني تقديم هذا الواقع؟ يعني التناقض والانفصام في شخصية الفكر السياسي العربي. يؤمن من ناحية بمبدأ الديموقراطية عند الغير، ويعطيها اهمية لدرجة انه ينتظر نتائجها بفارغ الصبر لكي يبني في ضوئها استراتيجيته، ومن ناحية اخرى يتنكر للديموقراطية في بلده، بدليل ان الآخر لا يعير اي اهتمام لنتائج الانتخابات عنده، ما هي اذاً اهمية هذه الظاهرة السياسية وتأثيرها على الصراع العربي - الاسرائيلي؟ بغضّ النظر عن تصنيف الدول الغربية لبلدان العالم الثالث حسب جدول احترام حقوق الانسان وتطبيق الديموقراطية وعلى اساسها تبني احترامها ودرجة المساعدات الاقتصادية، ينعكس هذا الوضع بصورة مباشرة على توازن القوى وحدّة الصراع العربي والاسرائيلي في أية محادثات يدخل بها الطرفان، تدخل الديموقراطية كطرف ثالث، فإن حصل وعد بالتنازلات، تبقى المرجعية الديموقراطية هي الاساس لكي تضفي الشرعية النهائية لهذا المبدأ او لهذا التنازل، فما على المحاور العربي الا الاذعان لمثل هذا الواقع واعطاء الفرصة للمفاوض الآخر اسرائيلي - اميركي كي يحقق اقناع شعبه قبل الاستفتاء بصلاحية ما اتفق عليه. اما الآخر في المقابل فهو لا ينتطر اي شيء من هذا القبيل، لأن المفاوض العربي يمثل كل شعبه فلا حاجة للعودة الى هذا الشعب. من هنا تبدو المعادلة بين الطرفين غير متكافئة، فمن جهة هناك محاوران: الممثلون السياسيون واللعبة الديموقراطية وراءهم، ومن جهة اخرى يوجد فقط المحاورون العرب اصحاب القرار. برز في الاحداث الاخيرة حدثان مهمان: الاول: ظهرت المقاومة اللبنانية امام الرأي العربي، بأنها المدافعة الاولى عن شرف العرب وكرامتهم، واظهرت على الارض بأنها قادرة ان تواجه عدواً شرساً قادراً على الجيوش العربية مجتمعة وان تخذله وتظهر جنوده في حال الهلع والخوف والانهيار، وهي قوة لا تتعدى بعددها وامكانياتها فرقة اسرائيلية صغيرة، يعني انها اظهرت للملأ بأنها قادرة ان صممت بإيمان وعزم، ان تجبر العدو بأخذها بعين الاعتبار وتجعله يعيد النظر في السياسية الاحتلالية. الحدث الثاني: ان العدو الاسرائيلي بعد ان اختل توازنه امام هذه المقاومة المتواصلة، باشر الاعتداء على الاهالي الآمنين وضرب البنى التحتية، ما يبيّن عجزه وحتى جبنه، فأمام الرأي العربي: ليس فقط لبنان الضحية، انما البلد المقاوم الذي استطاع - على رغم صغره - ان يظهر للملأ انه قادر على مقاومة الاحتلال وزعزعة كيانه. هذه الصورة التي استخرجت من الأحداث الأخيرة انطبقت في نفس كل عربي من الخليج حتى المحيط، ووجد فيها منفساً جديداً وتعبيراً عما يخالجه من ألم وقهر نتيجة الاستعلاء الصهيوني - الأميركي. لماذا طال الصمت العربي، وهل كان يعبر عن لامبالاة لما يحدث في نفسية المواطن العربي؟ لا داعي للاجابة عن هذا السؤال. فلنتصور الأمور بطريقة معاكسة، على غرار ما حصل عندما دعت الدول الأوروبية إلى مقاطعة النمسا بسبب دخول الحزب اليميني المتطرف إلى الحكم، فقد عمت التظاهرات في كل عواصم أوروبا، ولنتصور ان الدول العربية، قد سمحت لمثل هذه التظاهرات لكي تعبر عن نقمتها تجاه التحدي الحاصل، لرأينا بسرعة كيف يتجاوب الشعب العربي بأكمله. عندئذ اقول إن إسرائيل ستشعر بخطر سياستها وينتابها الخوف، لأنها تعرف في مثل هذه الحال ان سلاحها النووي أصبح من دون جدوى. فهذا الأخير فعّال أمام الجيوش العربية، لكنه ضعيف أمام مبدأ الديموقراطية. والديل إلى ذلك، ان إسرائيل ما كانت لتصمد لولا وجود النظام الديموقراطي الذي يعطي لكل فرد دوراً أساسياً في اللعبة السياسية، بالإضافة إلى احترام النظام حقوق الإنسان الإسرائيلي، وقيمة حياته بالنسبة للمجتمع ككل. ويتبين ان رجال الفكر والعلم في النظام الديموقراطي يأخذون دورهم ويتمتعون باحترام وتقدير المجتمع لهم، أما في الأنظمة غير الديموقراطية فنراهم مهمشين يتسكعون على أبواب رجال السياسة، بعد أن يكونوا قد استغنوا عن حرية فكرهم وعن قدرتهم الابداعية. وللمقارنة في السنوات العشرين التي خلت، شهدنا هجرة أصحاب الأدمغة العربية، ومنهم مئات الآلاف من عامة الشعب في كل بلد، وبالخط الموازي هجرة العديد من الأدمغة اليهودية من بلاد الأصل إلى إسرائيل، مع مئات الآلاف من المهاجرين الذين أتوا إلى إسرائيل لكي يستوطنوا، على رغم علمهم بعدم الاستقرار الأمني والمصير المجهول للصراع العربي - الإسرائيلي. فكيف نفسر هذا التباين وكيف نفسر التناقض المحير في قلب المجتمع العربي. الإنسان بصورة عامة يفضل غربة في المهجر على غربة في وطنه. فالأولى يتحملها على رغم المذلة والاجحاف والدونية، لأنها فقط تأتي من الغير، وعزاؤه الوحيد ان هذا الآخر الغريب لا يعرف قيمه ومثله التي يحملها في طيات نفسه. أما في الوطن فعندما يمارس عليه القمع والتضييق، والظلم، والطغيان، والابتزاز، ويفقد قيمته الإنسانية، عندئذ يشعر بعزلة من دون مخرج، وتنطفئ في نفسه شعلة الأمل، وينتابه اليأس من أي تغيير يحصل، ولا يبقى له سوى الاذعان على مضض والاستقالة من دوره السياسي ومسؤولياته كمواطن حر، وهذا المطلوب. لكي نجيب عن المسألة المطروحة لا بد من التعرض لمفهوم الديموقراطية بصورة عامة. مصدرها الأساسي غربي ديموس Demus معناها الحكم. كراسي Kratsi معناها الشعب، أي مبدأها الأساسي حكم الشعب من الشعب. هذا هو المبدأ الذي انطلقت منه جمهورية اثينا في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد والتي ميزت بين المواطن الاغريقي الاصيل والغريب Barbare البربر. المنظر الأساسي لها كان بيركليس سنة 429 قبل الميلاد الذي حدد مفهوم المواطن، وان الشعب مكون من مجموعة هؤلاء المواطنين. ومفهوم الديموقراطية بدأ على أساس أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، عبر اللقاءات التي كانت تحصل في ساحة أثينا حيث تؤخذ بالاجماع القرارات المصيرية. وعلى أساس هذا المبدأ تكونت الجمهورية الديموقراطية الأولى في تاريخ أوروبا، وهي جمهورية اثينا التي دامت 40 سنة. في المرحلة اللاحقة، حسب تسلسل الأحداث، دخل القانون الروماني في عهد الامبراطورية الرومانية، وحدد مفهوم المواطن بحقوقه وواجباته لكي يميز ما بين الصالح والطالح في خدمة المجتمع. وبقيت الأمور في حال النسيان والقمع طيلة القرون الوسطى تحت وطأة الجهل والتعتيم بفضل الطغيان الاقطاعي وبمساعدة رجال الدين، إلى ان حصلت الثورة الفرنسية سنة 1792 فأخرجت القيم الديموقراطية من غيبوبة الزمن وجعلتها شعاراً لثورتها حيث كتبت أول وثيقة لحقوق الإنسان، معتمدة حتى الآن في قانون الأمم. ولكن كما نعرف أتى نابليون سنة 1799 تحت شعار حماية الثورة، واستولى على مبادئها وألغاها وكرس نفسه امبراطوراً بصلاحية أوسع من الملكية، بعدما كان مطلب الثورة إطاحة الملك وامتيازاته. ولم تظهر نتائج هذه الثورة بتطبيق الديموقراطية إلا سنة 1872، أي بعد تسعين سنة من انطلاقها، وأصبح النظام الديموقراطي هو التصور المعتمد للحكم في غالبية الدول الأوروبية على رغم بقاء بعضها تحت نظام الملكية الشكلية. والفرق الكبير ما بين الديموقراطية الاغريقية والديموقراطية المستحدثة، هو ان الأخيرة استبدلت حكم الشعب بالشعب، بحكم الشعب بممثلين عن الشعب. المبدأ الذي انطلقت منه المؤسسات المختلفة والأنظمة المتعددة: مجلس النواب، مجلس الشيوخ، انتخاب الرئاسة... الخ، حسب النسب والأقاليم. واعتبرت الدول الأوروبية المعتمدة للنظام الديموقراطي ان الولاياتالمتحدة، حسب نظريات توكفيل، هي الأمثل في تطبيق الديموقراطية. وقد تنبأ هذا المحلل الديبلوماسي في كتابه المشهور "الديموقراطية في أميركا" سنة 1833 بأن أميركا ستصبح أكبر واقوى دولة في العالم بسبب نظامها الديموقراطي المبني على المؤسسات المتكاملة والتي يسود كل واحدة منها نظام ديموقراطي، انطلاقاً من المستعمرة الاولى في وسط هيجان الهنود الحمر، وبأن النظام يقوم على قاعدة المساواة لانه لا توجد طبقة ارستقراطية مميزة بحقوقها منذ الولادة. وعلى هذا بدأت تتكون المستوطنات والمؤسسات وتتكامل في اتحاد متساو الى ان كوّنت ما هو معروف الآن بالولاياتالمتحدة. توليفيل لم يكن ضارباً بالرمل انما اعتمد قاعدة بيّن التاريخ صحتها، بأن تقدم الشعوب وتطورها وازدهارها مرتبط بسلامة نظامها الديموقراطي. فبقدر ما اقتربت من هذا المثال بقدر ما تطورت وازدادت قوة سياسياً وثقافياً واقتصادياً، وبقدر ما ابتعدت بقدر ما تخلّفت وانحدر الانتاج عندها في المستويات الثلاثة. وعلى رغم ما يتبين في نظر المفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع من عيون لا تزال الديموقراطية مستمرة الا انه لا يوجد في المستقبل المنظور كما في الحاضر تصور بديل. فمفهوم الديموقراطية اصبح في نسخته الاخيرة اي في بداية هذ القرن، مبنياً على حقوق الانسان، بما في ذلك حرية المواطن، وعلى الموازنة الاقتصادية، فرخاء المواطن اصبح مرهوناً بقدرته على الاستهلاك. لذلك فالشعارات المتبادلة في الصراعات الانتخابية اصبحت محكومة ببرنامج الحكومة التي تشجع الانتاج، وتزيد الدخل وتخفف الضرائب، وتزيل البطالة على سبيل المثال يعتبر بيل كلينتون نفسه بطل هذا الرهان، ولو كان ذلك على حساب حقوق الانسان في البلدان الاخرى. والديموقراطية اصبحت بمفهومها الحديث مرتبطة برفاهية وانانية المواطن الغربي لانه اصبح ضحية الفلسفة المادية المعتمدة على الخطاب العلمي ومنتجاته. ما موقف المجتمعات العربية وانظمتها من هذه المنهجية؟ بعد خروج العالم العربي من السيطرة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى، وجد نفسه تحت الحماية الغربية الاستعمارية. ولم يكن امامه سوى الانتفاضة للتحرر. ولكن مع الاستقلال وجد نفسه امام مشكلة تصدر لنظام حكم يدير به شؤون بلاده بديلاً من مبدأ الخلافة. وهنا اتت الديموقراطية كخيار لا غنى عنه. لانه لا يوجد في تاريخ العرب تصور مسبق يعتمد عليه انطلاقاً من ذاته ومن خبراته المميزة، خلافاً لما حصل في الثورة الفرنسية التي وجدت في جمهورية اثينا نموذجاً تاريخياً لبناء نظامها. ونجد في هذا الاطار ان اكثر مفكري العرب في عصر النهضة التجأوا الى الغرب لاقتباس الاسس التي يبنون عليها تصورهم للانظمة العربية: سواء الاشتراكية المعتدلة او الشيوعية، او النظام الديموقراطي الليبرالي. وسريعاً ما تبين ان تجربة هذ الاقتباس باءت بالفشل، فأكثر الانظمة العربية غير الملكية، يعتمد النظام الديموقراطي الاوروبي في تركيبته، سواء في انتخاب ممثلين عن الشعب، او بانتخاب رئيس النظام من خلال الاستفتاء الشعبي، ولكنها مفرغة من محتواها الاساسي. فكل ما لا يصب في مصلحة النظام محكوم عليه سلفاً بالتحريم ان لم يكن بالقمع والاضطهاد والاتهام بالمؤامرة. والاحزاب في تكوينها الديموقراطي التي تفرز عادة رؤساءها، اصبحت معكوسة، فالحزب كناية عن قطعة قماش، يقصّها الحاكم على قياسه، وبدلاً من ان يكون مديناً لها، اصبح الاعضاء مدينين له في وجودهم في السلطة. والتضعضع في الصف العربي امام التحدي الاسرائيلي، نتيجة حتمية لاستلاب الانظمة للسلطة واقصاء المجتمعات العربية في شرائحها الشعبية عن المشاركة في القرار. النظام اصبح رهينة نفسه، يشعر بالخطر الدائم، وحدت به الصراعات المتأججة الى تفضيل مصلحة النظام على المصلحة القومية، وحتى الى تجيير الدين ورجال الدين الى ما هو مناسب لحاجاته. الهدف من هذا العرض ليس تحميل الأنظمة مسؤولية تردي الأوضاع العربية، انما اظهار الخلل في البنية النفسية التي تظهر في استئثار الحاكم بالحكم، واعتبار نفسه صاحب الحق ومالك الحقيقة، واستقالة المواطن العربي من مسؤولياته الوطنية باعتبار ان العلاقة اختزلت ما بين حاكم ومحكوم. نعرف ان الشعوب تتحكم بها أفكار اساسية - معتقدات - فلسفة - دين، كانت ارتسمت في المخيلة الجماعية وأصبحت تترأس المبادئ السياسية وتقرر مسبقاً المواقف تجاه الاحداث ونمط الحياة واتجاه التطور. فإذا ألقينا نظرة الى تكوين مثل هذه الافكار المترئسة باتجاه الخطاب السياسي فإننا لا نجد أية تجربة للديموقراطية عبر تاريخنا سوى في الحقبة الأولى من فجر الاسلام: اي حكم الخلفاء الراشدين الأربعة. وكانت الوظيفة الملقاة على عاتق الحكم مزدوجة: دينية ودنيوية، مع ارتباط بين الطرفين عبر شخصية الحاكم، أي الخليفة، وهو خليفة من؟ خليفة النبي يقتفي أثره ونموذجه المثالي في الحكم، وهنا تكمن المشكلة فأي خليفة مهما بلغت قدرته وعدالته في تطبيق الشريعة، يبقى مقصراً ودون النموذج المثالي المتمثل بالنبي، وهي مهمة في أقصاها تبقى مستحيلة. اما انتقال السلطة من خليفة الى آخر فكانت معتمدة على محورين اساسيين: الشورى والمبايعة. الشورى كمشروع - بغض النظر عن اللفط التاريخي في تطبيقها - تقوم على مبدأ الانتقاء من مجموعة الأولياء الأوفياء. والمبايعة اشبه بالاستفتاء العام لطلب موافقة الجميع او الأكثرية. المهم في الموضوع: ان عملية الانتقال تخضع لأصول علائقية بين القائمين على الأمر وبين مجموعة أفراد الناس من قبائل وحضر على اسس الخصائص الشخصية وأهمية الشخص في الموقع السياسي. فقد تم حصر انتقال الخلافة في الحقل الرمزي الذي يخضع لمبدأ الشورى - التفويض - كما المبايعة - الموافقة الجماعية. ولو استمر هذا الوضع لربما كانت تمكنت الاجيال اللاحقة من أخذ جوهر هذين المبدأين ثم سكبهما في أطر اجتماعية مدروسة، تؤدى كما هو معروف في اميركا بالانتخابات الأولية الفرعية - ثم التفويض أي الانتقاء - ثم بعدها الانتخابات العامة - المبايعة. لكن التاريخ قدر لا يمكن ان نغير حرفاً مما كتبه. فمع الدولة الأموية حصل الافتراق التاريخي للخطاب السياسي، وانتقل من حقل الرمزية الى حقل الجينية. فأصبح انتقال السلطة مرهوناً بالبيولوجيا الجينية. ولم تعد للشورى قيمة، والمبايعة نتيجة للتكريس، وليست سبباً في تسلم السلطة. ابتداء من هذا التحول التاريخي تأسست الدول على أساس الهرم العائلي ومحوره التسلسلي. انطلاقاً من هذا "الانقلاب" أصبح المواطن العربي عبر التاريخ مغلوباً على أمره، لأنه أدرك ان الأمور خرجت عن نطاق المشاركة والمسؤولية، لكي تصبح رهينة النسل البيولوجي. وهذا افضى إلى استقالته من المسرح السياسي، لأن القرار في مكان آخر بعيد عن تأثيره. فما عليه إلا أن يستسلم إلى قدرية أصبح أسيراً لها، فإن اتاه حاكم صالح وعادل، فهذه هبة الله، وإن كان ظالماً ومستبداً، فهذا يعني غضب الله، ولربما يكون لإثم ارتكبه فيجب عليه التكفير. وعندما حصل اقتباس الأنظمة العربية للديموقراطية، كان من واجب اللعبة أن يستعيد المواطن العربي دوره السياسي ويساهم في انتخابات السلطة الحاكمة والسهر على حسن أدائها. لكن الذي حصل هو أمران: ان المواطن بمجرد ان انتخب ممثله أو حاكمه نراه قد استقال من دوره، ليعود إلى قدريته السابقة التي ارتسمت في المخيلة الاجتماعية. الأمر الثاني، أي شخص يأتي إلى السلطة، وأمام غياب الآخر، كطرف محاور، لا يجد سبيلاً سوى الاستمرار إلى ان يقضي الله أمره. وهكذا نجد ان التجديد الذاتي أصبح بدعة عند أهل الحكم، لا ترضخ لأي توقيت. ويتبين من هذا التصور للحكم، بأن الديموقراطية المقتبسة من الخارج، عندما افرغت من محتواها كان المقصود هو عودة المتخيّل الاجتماعي، أي التصور السلفي للحكم، الذي كان مبنياً كانت مبنية على أساس الحكم كامتلاك، أي ان الاستمرار في الحكم حق يستمد شرعيته من المتخيل العام. نتيجة لهذا التضعضع في الممارسة السياسية، نرى المواطن العربي في أزمة مع مجتمعه مع محيطه وفي حال عجز تجاه من يهدد سلامته. فهنالك هوة تفصله عن الحاكم، يعبر عنها غياب الحوار. ما أدى، كما نشاهد الآن، إلى تبلد في الحس الوطني وفقدان المسؤولية السياسية والاستسلام إلى غيبوبة حولت العالم العربي إلى أسوأ ما عرفه في تاريخه من التردي والتحلل. * عالم نفس لبناني.