تضطلع النخبة السياسية والمثقفة بدور أساسي في المرحلة الحالية، إذ تقع على عاتقها مهمة اقتراح العقد السياسي الجديد الذي سيوجه عهد ما بعد الثورات العربية، سواء في البلدان التي شهدت مباشرة قيام الثورة أو تلك التي استفادت من الدرس وبادرت بإرساء الإصلاحات الضرورية. وينبغي أن يكون واضحاً أن القضية الآن ليست هرولة نحو المقاعد البرلمانية بقدر ما هي محاولة رسم مستقبل أجيال لا نريد لها أن تضطر مستقبلاً للانتحار أو مواجهة الرصاص كي تحقق طموحها في الحرية والعيش الكريم. فلا بد من أن يكون العقد السياسي الجديد واضح المعالم سليم الصياغة لا يترك المجال لتأويلات في المستقبل تحيد به عن الغايات الأساسية التي رسمتها الثورات العربية وضحّى من أجلها مئات الشهداء. الشعب يريد حكماً ديموقراطياً، هذا هو العامل المشترك في كل الحركات الاحتجاجية التي عصفت بالوضع الإقليمي البائد، وما عدا ذلك مطالبات أخرى كثيرة تختلف وفق البيئات والانتماءات والرؤى والحساسيات. والحكم الديموقراطي هو سقف أعلى من الحكم المدني، فليس من اللائق الالتفاف على المطلب الديموقراطي بشعار مدنية الدولة، فمدنية الدولة مكسب قديم في المجتمعات السنية، ولم يعتبر الخليفة في التاريخ ظل الله على الأرض أو الممثل له، بل هو كما قال محمد عبده في عبارته المشهورة: «حاكم مدني من جميع الوجوه». بيد أن مدنية الدولة لم تمنعها تاريخياً من الاستبداد، وعلى هذا الأساس، فإن الحكم في المجتمعات السنية كان مدنياً وديكتاتورياً في آن واحد، وتواصل الأمر على هذا النحو منذ معاوية بن أبي سفيان إلى العصر الحاضر. وبما أن كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي (القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي) يعتبر عادة المرجع الأهم في الفكر السياسي السنّي، فإننا نجد فيه أصل الداء، فقد ربط صاحبه بين مدنية الحكم واستبداد الحاكم: واصل الماوردي التوجه السنّي العام الذي يعتبر الخلافة عقداً مثل كل العقود المدنية الأخرى، نافياً كل مصدر للشرعية غير الاختيار من مجموعة بشرية لبشر مثلهم يتولى السلطة، لكنه في الوقت نفسه استبطن الاستبداد السائد في عصره بأن جعل هذا العقد تفويضياً، بمعنى أنه يحصل مرة واحدة ويستمر من دون تحديد زمني، فعقد البيعة مصدر الشرعية للحاكم، لكن إذا حصلت هذه البيعة تواصل الحكم مدى الحياة، بل جاز للحاكم أن يورثه أيضاً لمن يختار (ولأبنائه تخصيصاً) مثلما يملك شخص ويورث حقاً من الحقوق التي اكتسبها بمقتضى عقد مدني. وعلى هذا الأساس لا نكاد نجد في كل التاريخ العربي الإسلامي حاكماً تخلى عن السلطة بمحض إرادته، فإما أن تنتهي ولايته بالموت الطبيعي أو بالقتل أو أن يعزل بعد عنف وفتنة. فقضية التمسك بالسلطة مدى الحياة وتوريثها قضية قديمة جداً في تراثنا العربي الإسلامي، كما هي قديمة في الحضارات الأخرى أيضاً، وكان لا بد من انتظار الفكر السياسي الحديث لطرح حلول جديدة، مثل تحديد مدة الحكم القصوى بدورتين، ومنح البرلمان حق عزل الحاكم، ومنح المحكمة الدستورية حق نقض قراراته، واعتماد الانتخاب العام بدل البيعة النخبوية، وإنشاء الأحزاب على أساس برامج سياسية كي لا يكون الحاكم ممثلاً لطائفة أو عشيرة... الخ. حذار من أن نسقط مجدداً في فخ التفويض المطلق، فتتحول مهمة المجالس التأسيسية من صياغة الدستور الديموقراطي الجديد إلى إقامة مرجعية أعلى من المرجعية الديموقراطية ذاتها بذريعة الشرعية الديموقراطية. الدستور المنشود هو ذاك الذي يستأنس بتجارب النظم الديموقراطية العريقة في العالم ليقترح عقداً ملائماً لطبيعة المجتمعات العربية وثقافتها، لا أن يرفع شعار الاستثناء الثقافي ضد الديموقراطية كما كانت تفعل الأنظمة الاستبدادية. والدستور الديموقراطي هو الذي يلتزم بحقوق الإنسان والمبادئ الكونية ويجسد تضحيات الأجيال المختلفة، ومنها شهداء الاستقلال الذين ضحوا أيضاً لبناء الدولة الحديثة والقطع مع عصور الانحطاط التي كانت سبباً في الاستعمار. ولئن كانت كل ثورة قطيعة مع الماضي، فإنها تمثل في المسار التاريخي الطويل لبنة تضاف إلى لبنات سابقة ترسخ المزيد من الحرية والكرامة للإنسان، فهي أيضاً، من زاوية أخرى، إضافة إلى مكاسب الماضي وليست انتكاساً عنها. علينا أن نتعظ بما حصل لإيران بعد ثورتها، لقد صيغ لها آنذاك دستور يتضمن الكثير من الحقوق الديموقراطية، لكنه يتضمن أيضاً ولاية الفقيه التي لا علاقة لها بالديموقراطية، فكانت النتيجة أن أجهضت ولاية الفقيه ديموقراطية الدستور وشعارات الثورة وتحولت إيران من الاستبداد «المدني» للشاه إلى الاستبداد الديني لآيات الله. لا نريد ولاية فقيه سنّي على الدساتير العربية القادمة، بأي شكل من الأشكال وبأية صيغة يمكن أن توظف مستقبلاً للالتفاف على الجوهر الديموقراطي للثورات العربية. فالديموقراطية تناوب على السلطة، ما يقتضي ألا يغلق من يصل الأول إلى السلطة باب التناوب على الآخرين. ولا تكفي ضمانة «مدنية» الدولة لتأكيد التناوب بل الضمان الوحيد هو الديموقراطية بالمقاييس المتعارف عليها في التجارب العالمية. والفرصة سانحة تاريخياً ليس فقط لتأكيد مدنية السلطة، وهو تحصيل حاصل من منطلق الثقافة السنية، ولكن أيضاً لتحقيق سقف أعلى، أي تحقيق الديموقراطية في العالم العربي الذي لم يعرفها في كل تاريخه. وفي ظل ديموقراطية قائمة على التناوب والمساواة بين جميع المواطنين واعتماد الشفافية والمحاسبة وضمان حرية الرأي والتعبير ستتوافر لكل القوى السياسية فرصة التنافس تنافساً نزيهاً على السلطة وبلوغ غاياتها عبر صناديق الاقتراع على أن تكون تارة في الحكومة وطوراً في المعارضة. هذه هي الصورة الواقعية الوحيدة للانتصار المأمول للديموقراطية في العالم العربي.