غداة مبادرة الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، إلى زف "بشرى" عودة الحياة إلى المفاوضات السورية والإسرائيلية المباشرة على مستوى غير مسبوق، صارح رئيس الحكومة الإسرائيلي، ورئيس الوفد المفاوض، إحدى الصحف العبرية بتعليله عودة الحياة هذه. فزعم باراك، في "يديعوت أحرونوت"، أن "العامل الرئيسي" في إقناع الرئيس السوري، حافظ الأسد، باستئناف المفاوضات هو "خشيته" انسحاباً إسرائيلياً من لبنان يُضطر القوات السورية، المرابطة في نحو سبعين في المئة من الأراضي اللبنانية، إلى "الرحيل" بدورها. وهذا ما لا تستطيع السياسة السورية لا القبول به، ولا تحمل نتائجه السورية الداخلية ولا الإقليمية. ونبه باراك إلى أن "السوريين لا يرغبون في تضمين اتفاقهم مع إسرائيل مسألةَ لبنان". وهو يعني ب"مسألة لبنان" الوجه السوري من وضع لبنان وحاله، وما يسميه بعض اللبنانيين "المصالح السورية في لبنان". وهذا ما لم تتأخر المصادر الأميركية عن التنويه به، غمزاً. فطمأنت مصادر مغْفلة السوريين واللبنانيين، القلقين، إلى أن "انسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية"، أو "إعادة انتشارها"، في لغة اتفاق الطائف خريف 1989، ليس في جدول أعمال المفاوضات السورية والإسرائيلية. وقد يعني الكلام المعلن هذا، وهو متواتر المصادر ومتفق المعاني، أن المواقف الكثيرة التي تناولت الجولان، وحدوده وترسيمها المتنازع، إنما كانت أقرب إلى ذر الرماد في العيون. فالكلام على الجولان أما العين واليد فعلى لبنان، على ما كان الرئيس اللبناني، إميل لحود، يقول غير هيَّاب عتباً أو حنثاً. وليس معنى هذا القول أن حدود الجولان أمر غير ذي بال، أو أن في وسع السياسة السورية الرجوع في مطلبها الوطني. فمثل هذا القول إما ثرثرة جاهلة أو افتئات مغرض. ولكن الجولان المحتل، على خلاف لبنان المحتل، خط دفاع ديبلوماسي وسياسي ضعيف العائد، وقليل الريع، سورياً وعربياً ودولياً، ومن المستحيل تثميره في سياسة أشد ما تحتاج إليه هو الوقت المديد، من وجه، ومسرح المناورة، من وجه آخر. والأمران يوفرهما لبنان، والمفاوضة عليه، إذا ما أحسن استعمال لبنان، على النحو الذي يستعمل عليه منذ ثلاثة عقود. وربط الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان بالإنسحاب من الجولان، واشتراط المفاوض السوري، على ما تنقل بعض مصادره، "تزامن الإنسحابين"، قرينة على ارتفاع الريع اللبناني في ميزان السياسة السورية، العربية والإقليمية والدولية. وجاء بعض الصدى، القوي والواضح، من مصدر أميركي مأذون هو ديفيد ساترفيلد، سفير الولاياتالمتحدة الأميركية في لبنان. فالسفير المحموم النشاط، والسريع إلى إبداء الرأي الأميركي في الشارد والوارد اللبنانيين، كرر، غداة الإعلان عن استئناف المفاوضة، المقدمة الجوهرية التي بنت عليها السياسة الأميركية اتفاق الطائف، وشرعت في صوغها منذ انقلاب 1984 الأهلي، ومفاوضات لوزان وجنيف. ومفاد المقدمة الإستراتيجية هذه هي ان "المسألة الأهم ]في السيادة اللبنانية واستعادتها[ هي لبنان نفسه، إذ ينبغي على اللبنانيين أنفسهم أن يتوصلوا إلى إجماع على الصيغة التي يريدون أن يكون بلدهم عليها، دولة وحكومة ومجتمعاً". وهذا، أي الإجماع على "أي لبنان يريد اللبنانيون" بحسب جملة كان بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية يرددها، ما "لم يستطع اللبنانيون التوصل إليه ... منذ تأسست الدولة اللبنانية ...، وإذا لم يستطع اللبنانيون التوصل إلى ]إجماع على ما يريدون[ سيظل لبنان يعاني عدم الإستقرار والنزاعات والإضطراب، على الصعيدين الخارجي والداخلي .... إنها مسألة وطنية قبل أن تكون مسألة إقليمية". وعلى هذه المقدمة ارتضت السياسة الأميركية توكيل السياسة الإقليمية بالوصاية على لبنان، بعد اتخاذه "مخزناً" فلسطينياً ومسرحاً احتياطياً. وبناءً عليها، كذلك، رأت أن "حل" المسألة اللبنانية المزمنة إنما هو بيد الجماعة اللبنانية التي تستطيع في كل آن الخروج على الإجماع الأساسي، وهو الإقرار بلبنان وطناً، وبالدولة اللبنانية "سيداً" غير منازع السيادة. فيقتضي "الحل النهائي" للمسألة اللبنانية العودة عن "الخرافة الفرنسية"، ومزاعمها في كيان وطني أي "قومي"، في المصطلح الإقليمي، إلى التسليم للكثرة العددية والطائفية بحقها في النزول عن السيادة والاستقلال اللبنانيين إلى وصاية عروبية و"إسلامية"، من غير صياغة التنازل هذا صياغة فاضحة. فعلى هذه الشاكلة يخرج لبنان "المسيحي"، على ما ترجم المترجم اللبناني الشيوعي عن مائير زامير، من "اضطرابه" المزمن. وينطوي هذا المذهب على رأي، قاسٍ في الإدارة اللبنانية، المسيحية والمسلمة، لنصف القرن الأول من عمر الدولة اللبنانية. فإذا عجزت الدولة، طوال نصف قرن، عن استمالة معظم المسلمين اللبنانيين إلى لبنان، وموالاة دولته على الميول الناصرية ثم الفلسطينية ثم السورية والإيرانية، فينبغي أن يخلص من هذا، على نحو ما يخلص موشيه أرنز، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق "هآرتس"، في 14 الجاري، عن "النهار" اللبنانية في 15 منه، في صدد العرب الإسرائيليين، إلى إخفاق لبنان اللبناني، ذي "الوجه العربي"، في استوائه وطناً وأمة وشعباً. وليس من حقه، تالياً، مطالبة الدول الغربية برعاية دوامه، على رغم رغبات كثرة مفترضة من أهله وسكانه. فالإجماع الذي يشترطه السفير الأميركي يعلم علم اليقين - في ضوء الطاقم السياسي والإداري الذي نصبه الطائف حاكماً، وفي ضوء "أمل" و"حزب الله" والسيد رفيق الحريري و"الجماعات" الإسلامية والجمعيات "المشاريعية" والسيد ميشال المر والهيئات والمجالس الملية المختلفة - استحالته. وهذا يخوله اشتراط الشرط المستحيل، والبناء على استحالته، أي التسليم بنصف دولة، ونصف سيادة. ولكن الحساب الأميركي، ولو كانت هذه الوجهة هي وجهته العريضة وأفقه، أكثر تعقيداً وتفاؤلاً. فالحال النصفية هذه يترتب عليها تنصيب الشطر اللبناني، التام اللبنانية، حَكَماً، وصاحب حق في النقض، على ما كانت عليه حال الشرط العروبي المنتصر، قبل انتصاره. ولم يخسر هذا الشطر، إلى اليوم، كل مقومات النقض، المعنوية والمادية، على رغم ما ألمَّ به من خسائر. وإذا هو غلَّب مقومات النقض المعنوية، مع بكركي المتأرجحة والتيار الوطني الحر "العوني" والكتلة الوطنية، لا يؤمن انقلابه إلى وسائل نقض مادية تهدد الريع السوري تهديداً قد يكون فادح العواقب. وعلى مثال العودة إلى المفاوضات المباشرة، في إثر التلويح بالإنسحاب، قد يضطر مفاوض اليوم، العائد، إلى المفاوضة على اتفاق الطائف مفاوضة ثانية، من غير إرغام ولا قسر. ولكن مثل هذا التوقع يدخل في باب تفاؤل قد لا يشاطره من لا يستطيع الزعم أن "الله يحمي" بلده ويرعاه حماية ورعاية مخصوصتين، دون سائر البشر. * كاتب لبناني.