لا يعلم لبنانيون كثيرون إذا كانوا مقبلين، في منعطفات تاريخهم الجاري، على عيد أو على مأتم، على فرح أو على ترح. فوراء عيد بعض اللبنانيين مأتم بعض آخر. وكأن الإجماع على تعريف الوقت، وعلى نسبته إلى السرور أو إلى الغم، أمر مشكل إشكال الحادثة التي يدعو بعضهم إلى الإحتفال بها، بينما تثير الحادثة نفسها قلق بعضهم الآخر أو بعض آخر. فكان هذا شأن "اتفاق الطائف"، قبل عشرة أعوام تقريباً. ويكاد يكون اليوم شأن انسحاب ما بقي من قوات "جيش لبنانالجنوبي"، وعتاده الآلي والمدفعي الإسرائيلي، في مدينة جزين و"بلادها"، إلى الشرق من مدينة صيدا. وتنسحب القوة المتبقية من "الجيش" هذا - وكان أعلن رائد في الجيش للبناني إنشاءه، قبل نيف وعشرين عاماً، قوة عسكرية وأمنية وسياسية تأتمر بأمر "دولة لبنان الحر" الحاجزة بين الدولة العبرية، المحتلة نحو ألف كلم مربع في ربيع 1978، وبين المنظمات المسلحة الفلسطينية و"حلفائها" اللبنانيين - تنسحب هذه القوة من نحو خمس عشرة بلدة، بعد أن كانت أخلت نحو ثمانية مواقع، بعضها بلدات وقرى، قبل نصف العام. والبلدات التي تنسحب منها القوة المعروفة ب"الفوج العشرين" "الحياة" في 28 أيار/ مايو مختلطة السكن الطائفي، معظم سكانها من المسيحيين روم كاثوليك وموارنة وأرثوذوكس وأقلهم من الشيعة. ولا تدخل الجهة وبلداتها في "دولة" القوة التي يرعاها الجيش الإسرائيلي وأقامها حاجزاً بين حدوده وبين ميدان عمليات فلسطينية ولبنانية حرة. فالجهة وبلداتها لم تدخل في نطاق الأمن الإسرائيلي - بواسطة من اجتمع في الفوج العشرين من بقايا "القوات اللبنانية" المسيحية، ومن أنصار المنظمات الفلسطينية المحليين والشيعة الملتحقين بالجيش الإسرائيلي المحتل والغازي في 1982 - إلا في نيسان أبريل 1985، في أعقاب انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، وانكفائه إلى حدود أراضي "دولة" 1978 اللبنانية. فيومها، في شباط فبراير وآذار مارس 1985، احتفل "حزب الله"، وكان في بداية أمره، و"الجماعة الإسلامية" المحلية والخمينية الهوى، والمقاتلون الفلسطينيون من كل المشارب، بجلاء القوات الإسرائيلية. فأحرقوا كنائس وبيوتاً وأحراجاً، ونهبوا أملاكاً وأرزاقاً، واقتصوا في الحال بالقتل من شبان لم يتركوا بلداتهم. ولم يقبلوا شهادة الأهالي المحليين، من الشيعة، في مواطنيهم. فهرب من قدر على الهرب إلى "بلاد" جزين القريبة. وكانوا نحو عشرين ألفاً. وتحولت البلدات القائمة بين الشوف الدرزي والمختلط المسيحي والشيعي الأطراف وبين ضاحية صيدا الشرقية، والمختلطة، إلى أرض حاجزة وسائبة، يتولى المقاتلون "حمايتها" أو "تحريرها". وتولى المقاتلون أنفسهم، ومعهم حركة "أمل"، الإقتتال في ميدان قريب هو بلدات جنوب شرق صيدا المسيحية. ودام قتالهم خمسة أعوام، ودمر الجهة كلها. ويقدِّر أنطوان لحد، قائد القوة اللبنانية المساندة، خسائر قوته في ختام العقد ونصف العقد، بمئة وخمسة وخمسين قتيلاً، سقط معظمهم في السنوات الثلاث المنصرمة. وسقط إليهم خمسة وستون مدنياً، معظمهم من أقرباء العسكريين ومن أولادهم. وهو لا يتستر على كون الباعث على الإنسحاب "الموت البطيء" الذي يصيب قوته، ويصيب الأهالي المهاجرين والتاركين بلادهم إما إلى داخل لبنان، أو إلى أطراف الجنوباللبناني، أو إلى خارج الإثنين. والحق أن هذه الجهة ليست ساحة قتال، ولو قياساً على ساحات الأراضي اللبنانيةالمحتلة الأخرى. بل هي، بامتياز، ميدان عمليات أمنية تتوسل بزرع العبوات في الأرض المحاذية لطرق الإنتقال. وليس التسلل، الحزب اللهي والفلسطيني، من أطراف صيدا، أو إقليم التفاح، أو حتى من مشغرة البقاعية، إلى أحراج الصنوبر بين بسري وبكاسين شمالاً وقيتولي وحيطورة جنوباً، أمراً مستعصياً. والإنتقال بين بلدات وقرى بعضها قريب من بعض، وتقتسم سكن عائلات واحدة أو تربط بينها علاقات المصاهرة والجوار، لا غنى للأهالي عنه. فمن اليسير صيدهم وترويعهم، على ما لم ينفك "حزب الله" وحلفاؤه يفعلون. ولم يحل اقتصار القوة المرابطة بين شرق صيدا وجزين على دور محلي دفاعي وحاجز، ولو أن بعض أفراد ورتباء هذه القوة هم من أشرس آلات القمع والقهر، لم يحل دون اقتناص من سنحت فرصة اقتناصه. واختلط حبل الحماية بنابل التحرير والاقتصاص، فكثرت العبوات القاتلة والمغفلة المصدر، لا سيما إذا كان ضحاياها من الأولاد والنساء. وزاد الوضع تعقيداً اضطرار بعض الأهالي الباقين، وهم من الفقراء والمنقطعين، إلى تجنيد أبنائهم في صفوف القوة المساندة، سعياً في مصدر عمل وارتزاق نادرين وقليلين في بلاد ذاوية وضاوية. وبقي من هؤلاء نحو مئتين وخمسين شاباً لجأ سبعون منهم إلى بيت أحد وجوه جزين، ثم إلى دير سيدة مشموشة. ولكن اضطرارهم لم يعذرهم، وسوَّغ استهدافهم وقتلهم والإدلال بقتلهم. ولا تقتصر حال جزين، و"بلادها"، على ما تقدم. فهي تتوسط، كذلك، مناطق ومسارح قتال نشط وميداني، في إقليم التفاح المحاذي جنوباً وفي المنقلب البقاعي الغربي شرقاً. وهي، على هذا، تحجز بين القوات الإسرائيلية المرابطة في الحزام وبين معقل المقاتلين الحزب اللهيين الأول. وتنتشر بلدات قضاء جزين على منحدرات جبال عالية تشرف على طريق الساحل، حيث مخيم عين الحلوة الفلسطيني، وعلى إقليم التفاح. فيبلغ ارتفاع عين مجدلين، القريبة من جزين، نحو ألف وسبعمئة متر، ويبلغ ارتفاع كفرحونة، بلدة المعبر الإسرائيلي الذي تنسحب إليه القوة المساندة، نحو 1350 متراً، بينما لا تعلو كفرفالوس غير نيف وخمسمئة متر، وهي الطرف الغربي لبلاد جزين، وضاحية صيدا القريبة" وبينهما جنوباً تلة سجد على ارتفاع نحو ألف ومئة متر. والعلو هذا، إلى الانحدار السريع، يتيح التحكم في حركة الانتقال والمتنقلين، ويتيح المراقبة من بعيد والقنص والقصف. وترتدي هذه الأعمال أهمية بالغة مع تحول الأعمال العسكرية، أو معظمها، إلى أعمال أمنية مثل زرع العبوات، وتفجيرها في الأوقات الملائمة، والقنص على الدوريات، ثم الانسحاب إلى المعاقل الحصينة في إقليم التفاح. وعلى رغم وقوع "بلاد" جزين خارج الشريط المحتل و"الأمني" الرسمي، اقترح المفاوضون الإسرائيليون في محادثات السلام بواشنطن، في 1992 - 1993، إدراج انسحاب القوة اللبنانية المساندة منها في سياق المفاوضات والخطوات على طريق الإتفاقات المزمعة. وعوض أن يؤدي الإقتراح إلى الخطو نحو بناء الثقة، أثقل وضعَ جزين وبلداتها بسياسة إسرائيلية مؤداها حرمان السياسة السورية من جزءٍ من "قوتها التفاوضية" وهي أعمال "حزب الله" العسكرية على القوة الإسرائيلية والقوة المحلية المساندة. وما زال هذا بيت القصيد اليوم، مثلما كان البارحة، أي منذ ضم المسار اللبناني إلى السياسة السورية وإلحاقه بها. وهذا ما يسمى في اللغة، أو الرطانة المحلية السياسية، "رفض إعطاء ضمانات" لقاء الإنسحاب، و"رفض الفخ الإسرائيلي" واستدراجه الجيش اللبناني إلى الحلول محل القوة الجالية. فإذا أمرت الدولة اللبنانية القوات العسكرية الشرعية بالتقدم إلى حدود الأراضي التي تخليها القوة المساندة والمؤتمرة بأمر القوة الإسرائيلية، ترتب على القوات العسكرية الشرعية المرابَطة بمحاذاة القوة المحتلة وحماية الأراضي الوطنية. ويبدو هذا أمراً منطقياً ولا مناقشة فيه. ولكن مرابطة القوات الشرعية على خطوط الجبهة المشتركة مع القوة الإسرائيلية يلزمها تحملَ أعباء الأعمال العسكرية التي تقوم بها منظمة أهلية هي "حزب الله". فإذا شاءت القوة الإسرائيلية الإقتصاص من عملية عسكرية حزب اللهية فما عليها إلا ضرب الجيش اللبناني القريب. وينبغي أن يرد الجيش اللبناني الصاع الإسرائيلي صاعاً مثله. وينبغي أن تتحمل الحكومة اللبنانية، والدولة كلها، التبعة عن تماسك قوتها العسكرية، أو عن ضعفها، على مثال ما جرى في السنوات 1968 - 1975 التي آلت إلى انهيار الدولة والجيش معاً. ولا تنفرد الدولة اللبنانية اليوم بتحمل التبعة عن تماسك القوات المسلحة الشرعية، بل تشاطرها الدولةُ السورية، وهذه "ترعى" عودتها أو بناءها على ما يقال، تحملَ التبعة والمسؤولية. فلا يعقل أن تتورط الدولةُ الراعية، في ميدان غير أراضيها الوطنية، الورطةَ التي لجأت إلى لبنان، وإلى منظماته الأهلية ودولته، لتحمي نفسها منها في أرضها الإقليمية والوطنية، وتتفاداها هناك. وعلى هذا ينبغي ألا تتورط القوات العسكرية اللبنانية في التقدم إلى حدود الأراضي المحررة والعائدة إلى سيادة الدولة، على مثال بلدة أرنون قبل أشهر قليلة، ولو أدى إحجامها إلى عودة الإحتلال ودوامه. ولكن تسليم الأراضي المحررة إلى القوة الأهلية، وإلى أعمالها العسكرية، يتهدد الأهالي بالقمع الإسرائيلي، إلى تهديدهم بطيف 1985، وطيف اقتتال 1985 - 1990، وبأطياف السنوات الفلسطينية، "قبل 1982" على ما درج القول في وقت من الأوقات. فينبغي أن تتعهد الدولة اللبنانية، ومن ورائها الدولة الراعية والوصية، ألا تستولي القوة الأهلية على "بلاد" جزين وأهلها بعد جلاء القوة المساندة عنها. وهذا العهد ليس في مستطاع الدولة اللبنانية قطعه على نفسها أو التزامه، لأن قطعه يعني عملياً التسليم بجواز انسحاب اسرائيل من بعض الأراضي اللبنانيةالمحتلة بمعزل عن مسار المفاوضة مع الدولة السورية. فإذا سلمت السياسة السورية بذلك خسرت، على حسبانها، ما يثقل على عاتق الدولة العبرية ولا يعود بعائد على السياسة السورية. ويعني التعهد، من وجه خر، مراعاة رأي أهالي جزين المسيحيين في أعمال "حزب الله" العسكرية، وفي مساواتهم بأهالي البلدات المسلمة، وهذا "تمييز" لا تقره السياسة السورية. فتلجأ الدولة اللبنانية، أو ما يقوم مقامها، إلى الإجابة عن ذيول الإنسحاب جواباً مشتبهاً وسالباً: فهي لن تنجر إلى الفخ الإسرائيلي، ولن تؤدي دور حرس الحدود، ولن تقمع المقاومة، ولن ترضى فك المسارين، ولن تطمئن العملاء، وليس على الأهالي أن يخافوا، ولن يتجدد "زمن الشرذمة والعبث بالنسيج الداخلي" مصطفى سعد، نائب الجنوب... ويتولى "حزب الله"، وهو المنظمة الأهلية، الإعلان عن سياسة "الدولة" وعن مبادئها ومعاييرها. وهو "يطمئن" الأهالي، ويقرِّع المتخوفين، ويثمن مواقف الحكم، ويتوعد وينصح ويرد. وهذا يبعث ربما معظم اللبنانيين على القلق. ولكن الأمر، من وجه آخر، يندرج في سياق إقليمي بعض وجوهه عودة حزب العمل وحلفائه إلى السلطة في إسرائيل، وعزم السيد إيهود باراك على ربط الإنسحاب من لبنان بالمفاوضة مع الدولة السورية، ومحض الصحافة السورية الولاياتالمتحدة الأميركية دور "الراعي النزيه" من جديد، ونازعٌ إيراني رئاسي بينما يتولى المرشد البت إلى الخروج من الورطة اللبنانية أو تقليل كلفتها وثمنها. وليس وضع الإقتصاد السوري على أحسن ما يرام. أما الوضع الإقتصادي اللبناني فيعاني سكرات أزمة عميقة تلوح ذيول صيف 1996 و"عناقيد الغضب" في كل مسالكها وشعابها. وهذا كله، مجتمعاً، قد يدعو إلى انتظار حكومة باراك العتيدة، وإلى النظر في مبادراته الأولى. فربما نعمت "بلاد" جزين، في الأثناء، بهدنة شهرين ينبغي ألا تسلم من ظل الخوف الثقيل، مثل القمة الخماسية المرفوضة اليوم. وبعدها لكل حادث إقليمي حديث سياسي أو عسكري، أهلي وملبنن. * كاتب لبناني.