شمس بؤونة - كالمعتاد - تفلق الحَجر. أخميم تتلظى بلهبها المحرق، السماء صفحة من رصاص حاد الزرقة إلى حد التوهج الأبيض تقريباً. خلت الشوارع، أغلقت البيوت أبوابها، لاذ الناس بالغرف الظليلة البحرية المكنونة المطلة على الأحواش الداخلية والمناور والمنادر التي تحميها من وقدة النار أشجار النخيل والنبق والجميز، تهب فيها نسمات فيها طراوة منعشة. كان الانبا تاوضروس قد نزل من الدير بعد أربعين يوماً من نياحة الانبا باخوميوس، قضاها صائماًَ على الماء والخبز بقوة عزيمة لا تنضب، معتكفاً وحده في قلايته. اختاره البطريرك رئيساً للدير، حتى قبيل وفاة الانبا باخوميوس، لكنه لم يتقلد عصا الرئاسة إلا بعد رحيل سلفه، رعاية لشيخوخته ووداعته، الآن ينزل إلى أباهور ليعزي الدكتور ميساك في زوجته، ويتقبل العزاء هو ايضاً، فهي اخته، ويقيم قداساً إلهياً على روحها. سوف يقضي الليلة في بيت ابن عمه ابونا متياس، بجانب كنيسة أبو سيفين، على تل نسطور وسط اخميم. كانت بغلة الانبا تاوضروس تدب في حارة القبة، الخالية المشتعلة بالحر في عز الظهر، وإذا بها تقف فجأة وتحرن، تنفث من منخريها، وتحفر في أرض الحارة بحوافرها، لا تتحرك. رأسها يرتطم بحائط عال صعد فجأة إلى عنان السماء، قام سداً في وسط الحارة بالضبط بين حائط البيتين المتقابلين المسدودين من دون نوافذ. رشم الانبا تاوضروس علامة الصليب ودار بالبغلة يريد الرجوع والخروج من أي عطفة جانبية. ما أن خطت البغلة خطوات قلائل، راجعة، حتى وقفت مرة أخرى تنفخ من منخريها في غضب وخوف، تنبش الأرض بقوائمها المتوترة، رأسها يصطدم بالحائط نفسه الذي دار حول الانبا تاوضروس من الجوانب الأربعة. اختفت جدران البيوت. لم يعد هنا إلا هذا الحصار الصاعد إلى سماء لم تعد ترى، مع أن الشمس محرقة تزيغ البصر. ليس حوله إلا هذه الحيطان الأربعة المصمتة بلا أدنى ثغرة، رآها الانبا تاوضروس تتحرك نحوه ببطء، تضيق عليه الحصار وفي نيتها الواضحة أن تُطبق عليه. عرف رئيس الدير أن ملاك الشر يختبره، يوقعه في محنة، ولعله يريد به شراً نهائياً: أن يتسلل الخوف إلى قلبه ويحل محل الإيمان. رشم الانبا تاوضروس علامة الصليب ثلاث مرات، تجمعت فيه كل قوى العزم واليقين، على أتم الأهبة للقتال في سبيل إيمانه. سمع صوتاً أجش عالياً له صدى خبيث يتردد بين الحيطان الاربعة والسقف غير المرئي الذي يحسه يهبط عليه ببطء وتصميم "اين إلهك الآن ليخلصك". المعركة الآن احتدمت بينه وبين الشرير. قال الانبا تاوضروس: - نحن لا نعرف إلا اسمك القدوس اغيوس اغيوس اغيوس رب السماوات والأرض اقوله يا رب فلا يقوى عليّ موت الخطيئة، تضرعي إليك وحدك يارب وصلاتي فلا تطرحها بل مدّ الي يدك القوية يارب الجنود، ياملك الملوك وربّ الأرباب. كانت الجدران الصماء تهتز الآن وتترنح ويصدر عنها صوت غريب كأنه صدى انين مختنق، اخترقت أشعة الشمس ثغرات أخذت تتسع وتزداد في السقف غير المرئي الذي كف عن الهبوط. - احفظ لنا مكاناً تحت عرشك يا قدوس، أما الخائفون والمرجفون والخطاة الرجسون غير التائبين فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار الكبريت، نحن نصون وصاياك بالحق والاستقامة، شريعتك يا رب في وسط أحشائي وبها يكون لنا سلطان على كل قوى الشرير. سمع الانبا تاوضروس اصوات انهيار وسقوط انقاض حجرية وقعقعة مكتومة أخذت تتباعد وتخفت بالتدريج. شد لجام البغلة الفارهة التي صمدت مع سيدها أمام الشرير وأدارت خطمها إلى الإمام. كان هذا الاختبار موضوع العظة في القداس الذي اقامه في العشية على روح أخته الست سالومة أم وليم في كنيسة أبو سيفين، وتمثل الانبا تاوضروس بعد ذلك برسالة بولس الثانية إلى أهل سالونيكي: "لم نسلك بلا ترتيب بينكم ولا أكلنا خبزاً مجاناً من أحد، بل كنا نشتغل بتعب وكد ليلاً ونهاراً لكي لا نثقل على أحدٍ منكم، ليس أنْ لا سلطان لنا، بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتى تتمثلوا بنا، فإننا أيضاً حين كنا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً، لأننا نسمع أن قوماً يسلكون بينكم بلا ترتيب لا يشتغلون شيئاً بل هم فضوليون". "إذا كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً". كانت هذه رسالة رئيس الدير الجديد إلى رعيته وأهل كنيسته، كما كانت هي رسالته أيضاً إلى رهبانه الذين لعلهم على عهد الانبا باخوميوس المتنيح قد استكانوا الى نوع من الدعة والقعود عن العمل. اسرتني هذه الرسالة منذ تلك الفترة المبكرة "من لا يشتغل لا يأكل أيضاً" ومنها تيقنت عقيدة لازمتني طويلاً، وقاتلت في سبيلها، ولعلني مازلت أومن بها: "أربعة لا أعرفها: طريق نسر في السماوات، وطريق حية على صخر، وطريق سفينة في بحر، وطريق رَجُل الى فتاة". لأنه مكتوب أن للعناق وقت وللفراق وقت. لماذا الفراق دائم لا يريم؟ كان دير الملاك ميخائيل مهجوراً، لا يفتح أبوابه إلا مرتين في السنة في 12 بؤونة و12 برمهات، أعياد رئيس الملائكة الذي تجلى ليشوع في الزمن القديم قبل مجيء الفادي، وقال له: أنا رئيس جند الله وعضده ومحطم العمالقة. هو الذي اسقط مدينة أريحا في يد ابنائها الحقيقيين بعد أن أجلى عن معظم بقاعها جند القوى الشريرة الضاربة بالعسف والاعتساف، بل هم نالوها بالشغل والكد والتضحيات الغالية. فإذا كان هو قائد الطغمات الملائكية التسعة، الملائكة، رؤساء الملائكة. القوات، الكاروبيم، والسارافيم، العروش، الأرباب، الرئاسات، السلاطين، فهو رئيس السمائيين اصحاب الأجساد النورانية في كل مجد اساطيرهم الأخاذة بالألباب، وإذا كان صاحب القضيب الذهبي الذي في يده، وقد طرد ابليس وملائكته بسيفه الملتهب ناراً وهزم التنين الحية العظيمة، فلماذا سقطت الزهرة بنت الصباح؟ ولماذا اتخذ اللباس الحربي الذي يشي بسطوة الرعب والقمع؟ أنت أيها العظيم في الملكوت، في كل بهاء مجدك، قد نقلت أخنوخ من الأرض لئلا يعاين الموت، أمسكت بيد ابراهيم وأوقفتها بعد أن كان مزمعاً أن يذبح ابنه الاثير، سلمت موسى لوحي الشريعة عندنا هنا في جبل سيناء، هديت فلك نوح فوق مياه الطوفان، ظهرت للفتيات الثلاث في وسط النار المتقدة، جعلتها عليهن برداً وسلاماً، نقلت إيليا النبي حياً في مركبة نارية إلى السماء، عزيت يسوع المسيح في نزعه، دحرجت الحجر عن قبره، بشرت المريمات بقيامته، أنقذت بطرس من السجن، وتجليت للمؤمنين في أخميم أيام اضطهاد دقلديانوس. أنت تتقطر من عينيك الدموع حناناً لأهل مصر عندما تشتد محنة التحاريق وتجف الأرض الشراقى وتتشقق تربة الروح، في ليلة 12 بؤونة تسقط قطرة من دموعك على النيل فتفيض مياهه وتعم مصر بالخير. مازلنا نقيم احتفال ليلة النقطة. متى، أين تسقط قطرة الدمع الآن بعد أن روض النيل الجبار وأرغم على أن يروي الأرض طول العام؟ مازال أهل مصر بحاجة إلى الحنان والعزم. جاء في التداوين القديمة ما نقلته عنها إيرين السيد من أنه "في 12 بؤونة كانت أوفيهرييه تحتفل بتذكار الملاك ميخائيل، وكانت زوجة لرجل تقي ويعمل الصدقات الكثيرة، وكان يهتم بثلاثة أعياد في شهر وهي تذكار الملاك ميخائيل في الثاني عشر وتذكار في الحادي والعشرين وتذكار الميلاد المجيد في التاسع والعشرين. ولما دَنَت وفاته أوصى زوجته بأن تحفظ هذه العادة ولا تقطع عمل الصدقات خصوصاً في الأعياد الثلاثة. فأحضرت صورة الملاك ميخائيل وبعد وفاة زوجها ثابرت على تنفيذ وصيته، فحسدها الشيطان وأتاها في صورة رجل راهب وجعل يحدثها ويؤكد لها أنه مشفق عليها ثم أشار عليها أن تتزوج لكي تُرزق أولاداً وأن تكفّ عن عمل الصدقات لئلا ينفد مالها. وقال لها إن زوجك قد نال الملكوت فلا يحتاج إلى صدقة. فأجابته قائلة إنني قطعت على نفسي عهداً بأن لا أتزوج بعد زوجي. ولما أتى يوم عيد الملاك وجهزت كل ما يلزم كعادتها ظهر لها الشيطان في زي ملاك وأعطاها السلام، وأمرها أن تتزوج برجل مؤمن وأعطاها أمثلة من الكتاب المقدس مثل آبائنا ابراهيم وإسحاق فهم تزوجوا وأرضوا الله. فقالت له: إن كنت من جند الله فأين علامة جنديتك؟ فلما سمع هذا الكلام عاد إلى شكله الأول فوثب عليها يريد أن يخنقها، فاستعانت بالملاك ميخائيل صاحب العيد فخلصها في الحال. وقال لها: في مثل هذا اليوم سوف تنتقلين من هذا العالم وقد أعد لك الرب ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولم يخطر على قلب بشر. وأعطاها السلام وصعد إلى السماء أما القديسة فبعد انتهاء العيد استدعت الأب والأسقف والكهنة وسلمتهم أموالها لتوزيعها على المحتاجين. ثم تنيحت بسلام. صلاتها تكون معنا. وفي أيام الملك قسطنطين وفي عهد البابا الكسندروس أخذ في وعظ الجميع مُظهراً لهم خطأ عبادة الأوثان التي لا تعقل ولا تتحرك وخطّأ تقديم الذبائح لها، ثم حوّل هذا الصنم إلى كنيسة باسم الملاك ميخائيل بعد أن حطم التمثال وطلب منهم أن يذبحوا الذبائح لله الحيّ يوزعها على الفقراء، الذين دعاهم أخوه حتى يكسبوا بذلك شفاعة الملاك ميخائيل.. عند المصريين القدامى ها هي ذي أنقاض الوجه الرخامي النبيل بشعره المسترسل وابتسامته الخفية الغامضة تناثرت على أرض القيسارية ذبائح العجول المسمنة والثيران المخصية ليست أقل في عينيه من ذبائح القلب المرفوعة إليه صاحب الوجوه اللامتناهية الذي لا وجه له صاحب العرش الذي لا يحتمله موقع في الأرض والسماء أياً كانت الأرض والسماء. في 12 بؤونة كان أبونا طانيوس راعي دير الملاك ميخائيل على جبل السلاموني في أخميم مريضاً محموماً يرقد في بيت أبونا متياس كاهن كنيسة أبو سيفين، تنفضه الحمى ورعدة المرض، كان في طريقه من الدير الكبير إلى دير الملاك ميخائيل ليفتحه ويستقبل زواره في العيد لكنه سقط مريضاً، وأخذت الست مارتا أم هارون تتولى تمريضه بما في يديها من وسائل فقيرة لا فعالية لها إلا بالإيمان والصلاة، تضع على رأسه وجبهته كمّادات الخل والماء البارد تأخذها من تحت الزير بعد أن تذوب فيه قطع الثلج من اللوح الكبير الذي يشبه الزجاج وجاء به روماني من القهوة التي جنب المركز، وتعطيه من اجزاخانة الدكتور ميساك، كل أربع ساعات حبة الاسبرو الذي كان في تلك السنة قد ظهر حديثاً واغرق الاسواق ونشرت عنه في "الأهرام" و"المصور" إعلانات تنسب إليه أعاجيب الشفاء. في ذلك الوقت كان يصعد الجبل ماشيا على قدميه يتوكأ على عصا من فرع جميز عتيق منحوت جيداً ولامع من كثرة الاستعمال، رجل أشعث مغبر، عليه زعبوط حائل قديم اسمه المقدس سدره عبدالمسيح، جاء من نواحي طهطا عبر النيل من سوهاج على المعدية وبات ليلة في قرية السلاموني عند ناس طيبين استضافوه ولم يرض إلا بنصف رغيف وكوز ماء وهبوة ملح على سبيل العشاء، وقال إنه غداً في العيد سيأكل من فطير الملاك ميخائيل في الدير، ومن الفجر راح الى الجبل حتى وصل الى الدير أول الليل، وفاءً لنذر قديم. كان الدير صامتاً مظلماً ومهجوراً على غير العادة في ليلة العيد، راعيه أبونا طانيوس يعاني سكرات الحمى عند أبونا متياس في أخميم. دق المقدس سدره عبدالمسيح على الباب الخشبي الضخم المصفح بأطواق من الحديد مثبتة بمسامير كبار الرؤوس، دق طويلاً دون أن يستجيب له أحد، من بعيد فجأة انفتح الباب الصغير المعد للدخول، في وسط البوابة الهائلة وفي عشوة الليل الهابط لم ير المقدس سدره من فتح له الباب الصغير، وأقفله وراءه، ولمح أنوار المسارج والشموع مشتعلة في مبنى الكنيسة وفي الهيكل الوسطاني، وجاءته اصداء الأواشي في القداس والترانيم يشدو بها شمامسة متشحون بزنانيرهم الأرجوانية وثيابهم البيضاء الناصعة المشغولة بدانتيلا رفيعة وجاءه أبونا طانيوس ملقياً عليه السلام بالقبطية "إيريني باسي" ورد عليه المقدس سدره شاكراً "تيشى بيهوت" فرحب به يدعوه أن يتفضل بالدخول "آري ايهموت" وقاده بنفسه إلى هيكل الكنيسة وشهد المقدس سدره الأواشي الثلاثة الطويلة ورفع البخور، تناول القربان المقدس وشرب من نبيذ الأباركة دم يسوع من يد أبونا طانيوس الذي خرج معه بعد انتهاء القداس وانصراف المصلين الذين كانوا يملأون الكنيسة، حتى باب الدير، وقطع لقمة كبيرة من سيالة فراجيته، عزم عليه أن يبات ليلته في الدير فقال المقدس سدره إنه نذر أن يحضر قداس ليلة العيد ويعود ينزل الجبل ماشياً وأن يفعل ذلك كل سنة وأن ربنا يحفظه من الضياع والسباع والشياطين وانحنى على يد ابونا طانيوس يقبلها فكأنه مس بفمه صفحة من نور، كما قال. نزل المقدس سدره بسلام ووصل إلى أخميم متعباً وسعيداً بوفاء نذره السنوي وحوَّد على بيت أبونا متياس يسلم ويتبارك، وبعد غداء العيد كشك صعيدي ودَكَر وزّ معتبر قال له مضيفه: - أبونا طانيوس جُوه بقى له يومين عاد، محموم ومدهول عم بيخربط وسخن تقلش قايد وقيد. ربنا وحده يشفيه ويقوّمه بالسلامة يشفع لنا فيه الملاك ميخائيل. بُهت المقدس سدره، لم يصدق ما سمعه، سأل باستغراب: أبونا طانيوس؟ قال له أبونا متياس: ربنا معاه بَقَى. قال المقدس سدره: يابَتَاىْ.. أبونا طانيوس؟ راهب دير الملاك؟ - إيوه عاد.. أمال بقولك إيه. - بلا جَهْرَمة يابونا... أنا مهمل أبونا طانيوس فوق، في الدير، حاضر معاه القداس، ومعاه الشمامسة كلاتهم كليلة والشعب مالي الكنيسة، وخدت منه القربانة، وإتدليت على طول. - الله يباركك يا مقدس ويديم بركته عليك صل يا مقدس من أجلي واجل بيتي، ملاك الرب بذات نفسه فتح له ديره، خد صورة أبونا طانيوس، ولافاك قربانته، المجد للرب، يعلو الرب على جميع الخلائق مسكنه نور لا يُدنى منه". "هكذا تمضي حكايات فولكلور بلدنا، لماذا أنظر إليها من عل؟ بل أنا خاشع أمامها حتى إن كنت لا أعيرها لحظة واحدة صدقية بالمعنى المألوف، لها عندي صدقية على مستوى آخر، غير مطروق وغير عادي، لا استهين بها ولا أنكر أن لها حقيقة أخرى تتجاوز حقائق كل يوم". في طريق عودة المقدس سدره إلى سوهاج، كانت الدنيا أمست عليه، غسق أخميم فرش على الطريق المترب الخاوي، وهو يدب عليه مهرولاً يريد أن يلحق آخر معدية قبل أن يحط عليه الليل، سمع إلى يمينه في غيطان الذرة الكثيفة متلبدة العيدان ما يشبه الأنين. * كاتب وروائي مصري.