دائماً أكرر أنني فعلاً محظوظ في حياتي على مدى الأيام والسنين. بدأ الحظ منذ أن ولدت، عندما اختارت لي اسرتي اسماً فيه معنى البهجة، في زمن كان الأهل عادة يطلقون علي ابنائهم - خوفاً من الحسد - اسماء سخيفة مثل خيشة!! او شحتة!! اما البنات، فقد كانوا يطلقون عليهن - ضيقاً من كثرة انجابهن -0 اسماء اسخف مثل استكفينا!! أو زيادة!!. محظوظ أيضاً لأني نشأت في بيت بسيط لكنه عامر بالكنوز، اولها فونوغراف رائع يتربع على عرش غرفة المعيشة، مع مجموعة من الاسطوانات لاساطين الطرب في تلك الأيام: سيد درويش، ابو العلا محمد، ام كلثوم، محمد عبدالوهاب، وصالح عبدالحي الذي كان صوته يهتز له قلب أبي طرباً، خصوصاً عندما يشدو: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر اما للهوى نهي عليك ولا أمر؟ نعم أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يباح له سر وكانت الأغاني في وقتها ديواناً للعرب. أم كلثوم تغرد: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيع. وعبدالوهاب يصدح: يا جارة الوادي. هذا عن الكنز الأول، اما الكنز الثاني، فقد كان مجموعة من الكتب المجلدة تجليداً فاخراً تضمها مكتبة أبي الكبيرة، وقد كتبت على هذه الكتب بحروف مذهبة اسماء، أذكر منها"لسان العرب"، "الاغاني للاصفهاني"، "تاريخ الحركة القومية"، "الشوقيات"... وغيرها، وعلى الرغم من انني لم أتعامل مع هذه المكتبة في وقتها، إلا أنها رسخت في ذهني أهمية الكتاب. اما أغلى كنوز هذا البيت الذي لحسن الحظ عشت في جنباته، فهو الترابط والتواصل الرائع بين أفراد الأسرة. وكذلك سرعة انتقال خبرات الكبار إلى من هم أصغر منهم في سهولة عذبة، فعندما اكتسب اخي الأكبر عادة القراءة من أبي، فأتاحت لملكة الشعر أن تنمو عنده، وجدتني أحاول جاهداً أن أقلده ولكن بلا جدوى، مما جعلني احاول أن أجد وسيلة أخرى للتعبير بها عن نفسي، فكان الرسم الذي اصبح هوايتي ومتنفسي. ولحسن حظي صارت هوايتي للرسم، وبعد ان صقلتها بالدراسة الاكاديمية الجادة، هي عملي الى الآن كرسام. هذه الهواية، وهذا العمل، اتاحا لي شرف الاقتراب من كوكبة المبدعين والمفكرين في هذا الزمان، وتعلمت منهم الكثير: احمد بهاء الدين، غسان كنفاني، صلاح جاهين، سعد الله ونوس، حسن فؤاد، ناجي العلي، فتحي غانم، عبدالوهاب البياتي، صلاح عبدالصبور، عبدالحليم حافظ، بليغ حمدي، وغيرهم من الغائبين الحاضرين بإبداعهم العظيم الذي ما زال يملأ حياتنا ثراء. اما الاحياء، أدام الله لنا في حياتهم، وعلى رأسهم أبونا في الفن والإبداع، استاذنا ومعلمنا نجيب محفوظ، فقد كان لي، ويا لحسن حظي، شرف الانتماء الى جماعة "الحرافيش" عندما اختارني لانضم لكوكبة كبار المبدعين، ومنهم الآن الفنان احمد مظهر والروائي عادل كامل والمخرج توفيق صالح والفنان التشكيلي جميل شفيق وغيرهم ممن رحلوا عنا. اختارني عم نجيب لأنضم الى جلستهم الاسبوعية كل خميس منذ ثلاثين عاماً، حتى الآن. في جلسة الاسبوع ما قبل الماضي، كان من حظي أن أحضر لقاء فريداً بين قمتين في الأدب والعلم، عندما حضر الدكتور احمد زويل، العالم العبقري الذي توجت اكتشافاته واختراعه المذهل بمنحه جائزة نوبل هذا العام، جاء الدكتور زويل لتحية نظيره في الحصول على الجائزة نفسها - عمنا نجيب بالطبع - وليودعه قبل ان يعود ليكمل اكتشافاته واختراعاته، وعلى الرغم من شعوري بالفخر والاعتزاز العارم بهما، إلا أن كلمة "عودة" الدكتور زويل هذه اثارت في نفسي تساؤلاً يقول: متى يمكن لأبناء وطني من العلماء العباقرة الأفذاذ ان يجدوا المناخ والامكانات التي تساعدهم على انجاز مواهبهم العلمية الخارقة على أرض الوطن، كما حدث في مجال الأدب مع نجيب محفوظ؟!!!.. ومتى..؟ ترى... هل يمكن ان يتحقق هذا الحلم؟ بهجت عثمان فنان تشكيلي