سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحولات قرن عربي : من خريف النهضة إلى ثورة الحداثة . الموسيقى العربية خلال مئة عام : الأصالة والتجديد انطلاقاً من الخصائص المحلية 9
نشر في الحياة يوم 01 - 01 - 2000

لئن كان لكل بلد عربي بين المحيط والخليج تراثه الموسيقي الخاص، ضمن الاطار العام للموسيقى العربية، وإن التقسيم الجغرافي للاقاليم العربية قد أوجد نوعاً من التجانس الاقليمي في التراث الموسيقي والمزاج الموسيقي الخاص كان للمجموعات الاقليمية العربية موسيقى بلاد المغرب، وموسيقى بلاد المشرق، وموسيقى بلاد الخليج العربي، الخ..، فقد عرف العرب في القرنين الاخيرين تراثاً موسيقياً محترفاً Professional قدر له أن يلاقي - أولاً بأول - انتشاراً عربياً عاماً، وان يلعب دوراً بارزاً في ايجاد مزاج عربي عام في الموسيقى والغناء، مما يمكن أن يطلق عليه اصطلاح الموسيقى العربية الكلاسيكية المعاصرة، التي لعبت مصر دوراً مركزياً وأساسياً في اطلاقها وتطويرها في القرنين الاخيرين، كما كان للبنان، في عقدي الخمسينيات والستينيات من هذا القرن شرف التعبير عن الحصة المشرقية في هذه النهضة للون العربي الكلاسيكي.
الانتقال والتأسيس
كأنما شاء القدر أن يتم الانتقال من نهاية القرن التاسع عشر الى بداية القرن العشرين في الموسيقى العربية المعاصرة بمشهد درامي مميز، فقد جاءت وفاة زعيمي القرن التاسع عشر في اللحن والغناء محمد عثمان وعبده الحامولي في عامين متواليين: 1900 ثم 1901. غير أن هذا الاستثناء الفريد لم يبدل في شئ القاعدة التاريخية الذهبية التي تقول أن الانتقال من نهاية مرحلة تاريخية مولية، وبداية مرحلة تاريخية مقبلة، لا يتم في يوم محدد ذي تاريخ محدد، بل يتم الأمر دائماً عبر مرحلة انتقالية، تتداخل فيها نهاية المرحلة السابقة ببدايات المرحلة اللاحقة، وتتعايش فيها ملامح المرحلتين، حتى تنضج الظروف، فتنفصل ملامح المرحلة المدبرة عن ملامح المرحلة المقبلة انفصالاً واضح المعالم، تماماً كما يتصل الجنين بأمه تسعة أشهر، ثم ينفصل عنها في نهاية هذه الأشهر.
وبالفعل، فقد كان الربع الأول من هذا القرن، الذي افتتحه الرحيل المفاجئ لقطبي القرن التاسع عشر الحامولي وعثمان، والسؤال المقلق الذي طرحه كل عشاق الموسيقى والغناء: ما هو مصير فنون الموسيقى والغناء بعد رحيلهما المفاجئ؟، كان الربع الأول من هذا القرن، على رغم ذلك، مرحلة انتقالية نموذجية بكل ما في هذه الصفة من معنى، نضجت فيها كل الثمار اليانعة لمدرسة القرن التاسع عشر في فنون الموسيقى والغناء، وظهرت البذور الجديدة لمدرسة جديدة في التاريخ المعاصر للموسيقى والغناء العربيين مدرسة القرن العشرين، وذلك عبر أربعة مشاهد متجاورة:
1 - لم يمر عامان أو ثلاثة على رحيل عبده الحامولي، حتى دخل مصر اختراع التسجيل على اسطوانات، وكان تراث القرن التاسع عشر بكامله ما زال حياً في ذاكرة وحناجر عشرات المطربين والمذهبجية أفراد الكورس الذين كانوا يصاحبون الحامولي ومحمد عثمان وسواهم، فانبرى أصحاب الأصوات القوية منهم الى تسجيل ما حفظوه من تراث القرن التاسع عشر من أمثال الشيخ يوسف المنيلاوي وسيد صفتي وعبدالحي حلمي ومحمد سالم العجوز وزكي مراد وداود حسني، والشيخ أمين حسنين، ومن بعدهم صالح عبدالحي. وظل أصحاب هذه الحناجر الصداحة الذين تربوا على مدرسة الأرتجال الغنائي العظيمة، يسجلون المادة التراثية بالاختصار والتركيز الذي يفرضه الزمن المحدود للاسطوانة، ويواصلون، في الحفلات الخاصة في بيوت الموسرين، احياء تقاليد الوصلة الغنائية المطولة التي كانت قد وصلت الى ذروتها مع عبده الحامولي.
2 - ظل سلامة حجازي، نجم المسرح الغنائي يواصل تألقه داخل مصر، وفي رحلاته الى مختلف البلاد العربية، حتى رحيله في العام 1917. وبالرغم من اصابته بشلل اقعده في سنواته الأخيرة، فقد اصر على مواصلة ظهوره على المسرح، وقيامه بأدواره تمثيلاً وغناء وهو جالس على كرسيه. وقد أختتم سلامة حجازي حياته المسرحية بمشهد غريب في نموذجيته، وهو قيامه شخصيا بالاعلان عن النجم الجديد الذي سيصبح فيما بعد مؤسس مدرسة القرن العشرين سيد درويش، وتسليمه الراية. ومع أن هذا المشهد لم يقابل من جمهور الحاضرين بالقبول أو الاستحسان أو حتى الشعور بأهمية ما يجري أمامهم، فذلك لم يمنع دخول هذا المشهد تاريخ الغناء والموسيقى العربية المعاصرة كنقطة تحول تاريخي.
3 - بين "تسلم سيد درويش الراية" من سلامة حجازي في 1917، حتى رحيله في 1923، وبعد قيامه برحلتين الى بلاد الشام، نهل فيهما من ينابيع المشرق العربي الكلاسيكية والدينية في حلب فجر سيد درويش ثورته الموسيقية التي انطلقت منها فيما بعد مدرسة القرن العشرين بكامل فروعها عدا فن القصيدة الغنائية الذي تولاه الشيخ أبو العلا محمد. ان أشد ما يستحق التنويه به من انجازات سيد درويش.
- الانطلاق من التراث الكلاسيكي للقرن التاسع عشر، والتمرس بجميع أشكاله مع تجديد واضح في المضمون خاصة في الدور والموشح" اتخاذ المادة الموسيقية الشعبية أساساً لعمله" فتح الأذان على الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، وبداية التأثر بها.
غير أن انجازات سيد درويش بسب ثوريتها، وبسبب قصر عمره الفني والأنساني بقيت أرهاصا لم يعط أكله الا بعد رحيله ، سواء في التأثير على مجايليه وتلاميذه، أو في تبوأ الموقع المستحق.
4 - أما المشهد الرابع، في هذه المرحلة الانتقالية في الربع الأول من القرن، فكان شبيها بالمشهد الحالي للغناء العربي في الربع الأخير من القرن، حين ازدهرت أغاني الملاهي وعلب الليل. وساد هذا اللون الواسع الانتشار بل ربما الطاغي في ذلك الوقت، كلام غنائي كان يتجاوز في كثير من الاحيان ما نشكو منه في هذه الايام من هبوط المعاني، فيصل الى حدود التهتك والأبتذال.
غير أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن ملحني هذا اللون من الغناء، كانوا ما يزالون في ذلك الوقت أكثر معرفة بالمقامات العربية والايقاعات العربية، بكل تعقيداتها، كما عرف هذا اللون بعض الاصوات الصداحة المهمة بين الرجال والنساء، أبرزها من غير شك صوت سلطانة الطرب منيرة المهدية. ولعل هذا ما يفسر تراجع منيرة المهدية السريع، الى حد الاختفاء، عند ظهور محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، أعظم الاصوات العربية الكلاسيكية في القرن العشرين، وهما الصوتان المدربان على تراث الغناء الكلاسيكي للقرن التاسع عشر، اضافة الى مدرسة التواشيح الدينية والابتهالات وتجويد القرآن الكريم.
ولعل عصر الاغنية الترفيهية هذا كانت له حسنة أخيرة، هي أنه شكل الحاضنة التي ظهر وترعرع فيها شكل الطقطوقة، على يد مبدعه الأول محمد علي لعبة في بحث مطول لكمال النجمي، وهو الشكل الذي يقسم الاغنية بين مذهب متكرر اللحن، وأغصان أو مقاطع كانت في البداية متكررة اللحن أيضاً. وقد بقي هذا الشكل المهم ذا محتوى بدائي، حتى أطلقه من بدائيته سيد درويش ثم طوّره خلفاؤه الكبار بعد ذلك شكلاً ومضموناً، كما سنرى.
العصر الذهبي
في الفترة التي ولد فيها معظم نجوم الثقافة العربية في النصف الاول من القرن العشرين في مصر سواء كانوا من المصريين، أو من الوافدين الى مصر من بلاد الشام، أي فيما بين 1885 و1910، كانت البذور التي زرعها المشروع النهضوي الوحدوي لمحمد علي، واستكمالاته المتعثرة في عهد اسماعيل بعد ذلك، كانت هذه البذور قد بدأت تعطي ثمارها الناضجة، برغم صدمة الاحتلال الانكليزي، فتحولت هذه الفترة القصيرة الى تربة خصبة ولد فيها كل عباقرة الموسيقى والادب والتمثيل والشعر والغناء.
بعد ذلك، تحولت هذه البيئة الى حاضنة ثقافية وحدت بشكل مثير للانتباه وربما الدهشة المسار الذي بزغ وانطلق فيه النجمان اللذان سيتربعان على عرش الغناء العربي في القرن العشرين: محمد عبدالوهاب وأم كلثوم مع كوكبة الملحنين العباقرة من حولها: امتلك الاثنان، كنقطة انطلاق، مواهب فنية استثنائية" تربى الاثنان، في محيطهما العائلي، على فنون التواشيح الدينية والابتهالات والتجويد القرآني، التي تختزن عصارة الثروة المقامية والايقاعية العربية" تربى الاثنان على تراث القرن التاسع عشر من موشحات وأدوار ومواويل: عبدالوهاب على يد الشيخ علي محمود ودرويش الحريري، وأم كلثوم على يد الشيخ أبو العلا محمد ملحنها الأول" أتيح للأثنين حضن ثقافي على أرفع مستوى ممكن في ذلك العصر: فتربى عبدالوهاب في عهدة أحمد شوقي، وترعرعت أم كلثوم في عهدة أحمد رامي الطالب العائد من باريس، ومدير دار الكتب المصرية، وان كان عبدالوهاب قد استزاد، بعد هذه المزايا المتوازية والمتطابقة، بميزة الاتصال المباشر بسيد درويش والعمل معه الامر الذي سيفتح الافاق أمام مواهبه التلحينية ثم الحظوة برعاية مادية ومعنوية كاملة من الامير يوسف كمال من الاسرة الحاكمة الذي رعاه مادياً، وسمح له بالتردد اليومي على صالونه.
مع انصهار المواهب الاستثنائية لأم كلثوم وعبدالوهاب في أتون هذه العناصر التكوينية المباشرة وغير المباشرة، اكتملت الدورة التي ستفتح العصر الذهبي للغناء العربي والموسيقي العربية في القرن العشرين، خاصة بعد أن تبوأ عبدالوهاب منذ بداياته اللامعة في أواخر العشرينات موقع المطرب الأول والملحن الأول، ثم بعد نجاح أم كلثوم في استقطاب عباقرة التلحين الثلاثة الأخرين بالتدرج محمد القصبجي، ثم زكريا أحمد ثم رياض السنباطي. فشكلت معهم مؤسسة فنية موازية لمؤسسة عبدالوهاب. ولم يكن هاتين المؤسستين، بل تحولت النافسة الى نوع من الحوافز التي استفزت لدى كل هؤلاء العباقرة أعظم مكنوناتهم، كما أتاحت لهم كل ثمار التأثير والتأثر المتبادل. ولم يكن ذلك غريباً، ففيما عدا زكريا أحمد الذي كان أشدهم محافظة، فإن علاقات فنية مباشرة وثرية نشأت بين محمد عبدالوهاب من جهة، وكل من القصبجبي والسنباطي من جهة ثانية. الأول كان أستاذا لعبدالوهاب في آلة العود والسكك المقامية يكبره بحوالي ثماني سنوات ثم تحولا الى زملاء في هواية مدهشة هي الاطلاع الكثيف والمنهجي والدراسي لتراث الموسيقى الاوروبية الكلاسيكية. فان عبدالوهاب والقصبجي هما أجرأ المجددين وأعظمهم بعد سيد درويش، وان كان نتاج القصبجي مطبوعاً في الغالب الاعم بطابع العقلانية الصارمة الى حدود الجفاف أحياناً غير قليلة، فلدى عبدالوهاب الملحن والمغني أيضاً تتوازن العقلانية والهندسة البنائية مع التدفق العاطفي والوجداني الفاحش الثراء.
وفيما تعودنا أن يتوقف الحديث المتكرر عن تأثر عبدالوهاب بالذات بالموسيقى الكلاسيكية الاوروبية الى اقتباس جمل موسيقية معنية، فإن هذا الحديث المكرر ظل يتوقف عند سطح الامور، فحجب عن أصحابه اكتشاف التأثر الخلاق لعبدالوهاب وللقصبجي وسواهما من بعدهما بالموسيقى الكلاسيكية الاوروبية، الذي فتح أذنيه على طرائق جديدة في توليد الالحان من بعضها بطرق وأساليب متعددة، وتوليد التنويعات بلا حدود انطلاقاً من جملة لحنية أساسية، أو توسيع المسافات داخل الجملة الموسيقية الواحدة.
ونلاحظ في هذا المجال أن اختلاف أساليب هؤلاء العباقرة المتجاورين زمنياً، بل تضارب وجهات نظرهم وامزجتهم الاساسية أحيانا، قد شكل الميزان الطبيعي والمعيار الطبيعي للعصر الجديد: ويتفرد زكريا أحمد بين هذه المجموعة من عباقرة اللحن، بأنه الوحيد الذي لم يستخدم الاوركسترا بمفهومها الغربي، وبقي يشكل امتداداً عصرياً للقرن التاسع عشر بكل فلسفته الجمالية، معتمداً على التخت الموسيقي الموسع الاوركسترا العربي ولا شك بأنه كان يلعب بذلك دوراً هائلاً في توازن ذلك العصر بين الاصيل والوافد كان عبدالوهاب يسميه "متحف الموسيقى العربية".
بقيت نقطة هامة في هذه المرحلة لا يمكن اغفالها، وهي أن الدور المتزايد للاوركسترا الذي كان يفرض نفسه منطقياً مع تطور الخيال الموسيقي والافق الموسيقي لعباقرة الموسيقى العربية المخضرمين، قد استدعى بطبيعة الحال الحاجة الى وجود الموزع الموسيقى الذي يقف الى جانب الملحن. ومن يطلع على التفاصيل العملية التي كان يتم من خلالها التعاون بين محمد عبدالوهاب على سبيل المثال والقادة المتعاقبين لفرقته الموسيقية من جميل عويس، الى عزيز صادق، الى عطية شرارة، الى اندريا رايدر الى علي اسماعيل يدرك أن علاقة خلاقة ومبدعة قامت بين بعض الملحنين ولا أقول جميعهم وبين منفذي أعمالهم، تستحق دراسات معمقة منفصلة، لأنها تشكل احدى أغنى تجارب هذا العصر الذهبي.
في مثل هذه المواسم شديدة الخصوبة، ومع تطور صناعة الاسطوانات، وتقنيات التسجيل، وظهور الاذاعات، وتطور السينما الغنائية وازدهارها، جاءت الثمار وافرة وناضجة، فلم تظهر فقط أشكال جديدة في الموسيقى العربية مثل المونولوغ والطقطوقة المتطورة والموال القائم بذاته، بل فتح المجال أمام تضمين الاشكال التقليدية والمطورة والجديدة، مضموناً جديداً يعبر عن زخم التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الهائلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين. وتولدت ملامح عصرية جديدة للمقامات العربية التقليدية مثل السيكا والصبا والبياتي والراست، وطوّعها عباقرة الموسيقى العربية المعاصرة لتحتوي كل الاحاسيس الجديدة، وكل الالوان الوطنية العاطفية والحماسية والرومانسية والدرامية. وقد تكون القصيدة خاصة على يد عبدالوهاب والسنباطي والمونولوج خاصة على يد القصبجي وعبدالوهاب والسنباطي أكثر الاشكال الفنية احتواء مركزاً لكل ملامح التحولات الكبرى في العصر الذهبي. وتحولت القاهرة الى محجة لأصحاب المواهب في الموسيقى أو الغناء، فانتقل اليها من لبنان وسورية فريد الاطرش وأسمهان وصليبا القطريب وفريد غصن وميشال خياط، ثم لور دكاش ونور الهدى وصباح وسعاد محمد ونجاح سلام وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة، ومن بلاد المغرب العربي وردة الجزائرية وعلية التونسية. ولمعت وظهرت مواهب جديدة في التلحين مثل فريد الاطرش ومحمد فوزي ومحمود الشريف وأحمد صدقي وسواهم ممن لا تتسع هذه السطور لذكره، ونبغ عدد كبير من عباقرة العزف مثل محمد عبده صالح وكامل ابراهيم وعبدالفتاح منسي على القانون، وسامي الشوا وجميل عويس ويعقوب طاطيوس وانور منسي وأحمد الحفناوي وعطية شرارة على الكمان. وكان لعبقرية هؤلاء العازفين دور كبير في فتح شهية الملحنين الكبار على مزيد من التجارب في توسيع آفاق التعبير الموسيقي. وتبدو كل هذه الانجازات جلية بارزة لكل من يجري استماعاً شاملاً لما انتج من أسطوانات عربية بين منتصف العشرينات وأواخر الاربعينات.
بيروت والقاهرة
لم تكن بلدان المشرق العربي بمعزل عن مجريات النهضة الموسيقية والغنائية العارمة في القاهرة بين منتصف القرنين التاسع عشر والعشرين، برغم صعوبة الاتصال وبطء المواصلات: وقد تم ذلك على ثلاث موجات متتالية: موجة الرحلات الفنية التي كان يقوم بها فطاحل المطربين المصرين مع فرقهم الموسيقية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهي الرحلات التي كانت تغطي المدن العربية من يافا جنوباً حتى حلب شمالاً، وحتى بغداد شرقاً، مروراً ببيروت ودمشق" موجة الاسطوانات والحاكي الفونوغراف الذي بدأ يتسع انتشاره العملي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى" موجة الافلام السينمائية الغنائية التي بدأ انتاجها في أول عقد الثلاثينيات، واذاعة القاهرة التي تأسست في العام 1934.
واذا كان دور هذه المدن المشرقية قد اقتصر في الغالب على عملية الآخذ والتلقي، فان الامر لم يخل في بعض هذه المدن من العطاء، حيث كانت الصلة بين حلب والقاهرة ذات موقع مميز، نظراً لما استقر في حلب من خلاصات التراث العربي القديم، في مجالي الغناء والانشاد الديني، وبسبب هجرة أحمد أبو خليل القباني الدمشقي، وأنطون الشوا الحلبي، عازف الكمان الشهير مع ولديه سامي وفاضل وعلي الدرويش وسواهم من أهل حلب، للاستقرار في القاهرة، لفترات متفاوته، حيث انخرطوا تماماً في النهضة الموسيقية - الغنائية العارمة، أخذا وعطاء. ولا ننسى في هذا المجال رحلة سيد درويش الثانية المطولة الى حلب.
لقد أدى هذا التفاعل الذي شمل مدن الساحل والداخل في المشرق العربي، المتمازج مع التراث الفولكوري الشعبي الغني المتسرب الى المدن من تخومها الريفية والصحراوية، الى أختمار فني فريد وغني العناصر، بدأ يدخل في بداياته الحرفية التقنية مع ولادة اذاعتي القدس والشرق الادنى في القدس ويافا اللتين شكلتا نقطة استقطاب مركزية لموسيقيي ومغني لبنان وسورية والعراق وفلسطين، وشكلت فيهما الفرق الموسيقية الاذاعية الجادة، وظهرت فيهما البذرة الاولى لفكرة توليد موسيقى محترفة حديثة بناء على مادة التراث الموسيقي الفولكلوري.
ومع تسارع الاحداث، وانفجار نكبة 1948، انتقل مركز هذه التجربة الى بيروت، حيث لعب مكتب اذاعة الشرق الادنى فيها، ثم الاذاعة اللبنانية المطورة، الى جانب اذاعة دمشق، الدور البديل والمكمل لاذاعات فلسطين، بعد أن توزع كل موسيقيي ومطربي اذاعتي القدس والشرق الادنى على اذاعات بيروت ودمشق وبغداد وان كان لبيروت الحصة الكبرى.
وكأن هذا التوقيت جاء في موعده مع اختمار التجارب الاولى في آواخر الاربعينيات في بيروت، لتجارب موسيقية - غنائية محترفة تتراوح بين تطوير الالوان الفولكلورية أو المحلية مثل الموال البغدادي والتطلع الى الافادة من علوم التأليف الموسيقي الاوروبي والاوركسترا الاوروبية.
وهكذا، وبعد بدايات أولية مع محيي الدين بعيون والبزق، والاغنيات الانتقادية لعمر الزعني، و"يا ريتني طير" التي لحنها يحيى اللبابيدي وغناها فريد الاطرش، والمواويل البغدادية وهي لبنانية وليست عراقية كما يوحي الاسم ل الياس ربيز وايليا بيضا، ثم المحاولات الاولى لسامي الصيداوي وفيلمون وهبي ونقولا المني، بعد كل هذه البدايات المتصلة أصلاً بنشاط اذاعتي القدس والشرق الادني، وانتشار اللون الغنائي البدوي بألحان عبدالغني الشيخ وصوت سهام رفقي، كانت كل الظروف قد نضجت لانطلاق حركة موسيقية غنائية شديدة النضوج والثراء في بيروت، ناطقة بلسان المشرق العربي بأسره، ومستفيدة من كل مواهبه، ومعبرة عن وجدان سكانه، ومتكأة بالطبع اتكاء كاملا على انجازات الموسيقى العربية الكلاسيكية المزدهرة في القاهرة على مدى قرن كامل. هذه التجربة اللبنانية - المشرقية التي بقيت بكامل زخمها ربع قرن من الزمان، اعتمدت على أسماء أساسية اضافة الى من سبق ذكرهم منهم خالد أبو النصر وحليم الرومي وزكي ناصيف والاخوين رحباني وتوفيق الباشا وعفيف رضوان، ومن أهم الاصوات التي استندت اليها هذه التجارب زكية حمدان وفيروز وصباح ونور الهدى وسعاد محمد ونجاح سلام، ووديع الصافي ونصري شمس الدين ومحمد غازي وحسن غندور وسواهم، وقد تحولت دار الاذاعة اللبنانية الى بؤرة أساسية للانتاج الموسيقي الغنائي الرفيع وللتجارب شديدة التنوع بين اللون الملتزم تماماً بالكلاسيكية العربية على طريقة مدرسة القاهرة واللون الذي أدخل الى الكلاسيكية العربية النكهة المشرقية الخاصة ، مع اعتماد بعض هذه الاعمال والتجارب على الاوركسترا الحديثة.
ولا بد هنا من الاشارة الى أن اعتماد الاخوين رحباني وزكي ناصيف على أنفسهم في توزيع الحانهم اوركستراليا، الا أن توفيق الباشا لعب في الاذاعة اللبنانية كما في المهرجانات بعلبك وسواها التي تحولت الى بؤرة ثانية للانتاج الفني الرفيع، لعب توفيق الباشا دوراً أساسياً في التنفيذ الاوركسترالي لقسم هام من هذه التجارب، من الحانه والحان سواه.
واذا كانت مساحة المقال لا تسمح باستعراض تفصيلي لكل انجارات او ملامح هذه المحطة الهامة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، فلا بد من الاشارة الى أن تفاعلاً عميقاً وصحياً كان قائماً بينها وبين النهر الاساسي للموسيقى العربية الكلاسيكية في القاهرة، تأثراً وتأثيراً، على رغم كل الشواهد السطحية التي قد توحي بعكس ذلك، ويكفينا دلالة رمزية واضحة في هذا الاتجاه التذكير بالرحلة الفنية التاريخية التي قام بها الاخوان رحباني للقاهرة، في منتصف الخمسينيات، التي أثمرت بعض أعظم وأخلد أعمالهم راجعون والنهر العظيم وأتاحت لهم، من خلال محمد حسن الشجاعي، اطلاعاً معمقاً على تراث سيد درويش، سيكون له أثر واضح في أتجاههما الحاسم الى المسرح الغنائي، وفتحت آفاق التعاون المثمر وإن كان محدوداً بينهم وبين عبدالوهاب.
ملمح آخر هام من ملامح هذه المحطة الهامة يستوجب التنويه به، وهو الخط المفتوح لبنانياً - سورياً في رعاية مواهب هذه النهضة المشرقية، اضافة الى بروز بعض أصحاب التجارب اللحنية الهامة في اللون الكلاسيكي في دمشق، مثل محمد محسن ونجيب السراج الاول سنباطي النزعة والثاني وهابيها، ثم بروز مواهب بارزة في اللون السوري المحلي مثل رفيق شكري وعبدالفتاح سكر وفهد بلان.
وكان بديهياً، أن تشهد القاهرة في خط زمني مواز للنهضة الموسيقية المشرقية، استمرار تدفق نهر العصر الذهبي من خلال مواهب لحنية وصوتية جديدة، كانت على علاقة رحم واضحة بما ومن سبقها، مثل كمال الطويل ومحمد الموجي، ثم بليغ حمدي وسيد مكاوي ومنير مراد وعبدالعظيم عبدالحق وعبدالعظيم محمد وسواهم. واذا كان عبدالحليم حافظ قد اكتسب نجومية جعلته يبدو الناطق الرسمي بلسان هذا التيار النيو - كلاسيكي، فقد لعبت أصوات نجاة الصغيرة وفايزة أحمد ووردة بالدرجة الاولى وسواها من الاصوات الممتازة التي يصعب حصرها في مقال سريع قصير دوراً بارزاً في هذا المجال. كما شهدت تلك الفترة في القاهرة، غزارة في الانتاج الموسيقي - الغنائي المميز ذي المضمون الوطني - الاجتماعي، ساعد في فتح آفاق التعبير الدرامي والشعبي المتطور انطلاقاً من تجربة سيد درويش واستكمالاً لها الذي فرضه هذا المضمون الجديد.
جولة عربية
مع أن أياً من البؤر الموسيقية في أرجاء أخرى من الوطن العربي لم تنطلق الى الشمولية العربية، لأسباب عدة لا مجال لعرضها وتحليلها في هذا المقال، فذلك لا يعني عدم وجودها، أو قلة أهميتها وغناها، ولعل بعضها يعيش حالة ارهاص تعده لدور عربي شامل في مرحلة قادمة. نقدم فيما يبقى من سطور هذا المقال عرضاً سريعاً لأهم هذه البؤر:
أ - منطقة المغرب العربي:
تعتبر هذه المنطقة من المغرب غرباً حتى ليبيا شرقاً، الوريث الشرعي للتراث الاندلسي الذي بقي قيد التداول الشفهي بكل مزاياه وعيوبه حتى هذا القرن، غير أن عدم وصول النصوص الموسيقية التراثية بدقة كاملة الى القرن العشرين كما يؤكد الباحثون، لا ينفي أن ما بقى لنا من هذا التراث، كما تعرضه حالياً الفرق التراثية في المغرب وتونس وليبيا بشكل خاص، يحمل الروح الحقيقية للتراث الاندلسي في الشكل المألوف والنوبة والمضمون.
وكانت تونس بالذات، في مدينة تستور التي أنشأتها آخر قافلة من المهاجرين الاندلسين العرب من غرناطة منذ خمسة قرون، مركزاً لمهرجان سنوي يقام منذ السبعينيات، لعرض التراث الاندلسي كما تقدمه فرق دول المغرب العربي.
أما في مجال النشاط الابداعي الحديث، خاصة المستند الى القاعدة التراثية، فلعل تونس عرفت نشاطاً مميزاً في هذا المجال، من خلال ملحنين كانوا على اتصال مواز بين التراث الاندلسي والنهضة الحديثة القائمة في القاهرة، ولكن ذلك لم يمنع من ظهور تجارب متأثرة بالميل الحديث الى الاوركسترا الغربية، مع تفاوت في النجاح في اخضاع الاوركسترا الى أغناء التعبير عن روح الموسيقى العربية، أو الاغتراب مع الاوركسترا، ومن خلالها، الى أجواء كاملة التغرب، أو هجينة لا هوية لها. وهذه - على أي حال - مشكلة عربية عامة في القرن العشرين، شملت بلاد المشرق والمغرب.
بقيت ملاحظتان في هذا العرض المغربي السريع:
- أن شمولية التجربة العربية الموسيقية في القاهرة، قد أحدثت موسم هجرة مغربية الى القاهرة في النصف الثاني من القرن مقابل الهجرة المشرقية في النصف الأول، من أشهر الاسماء في هذا المجال وردة الجزائرية وعلية التونسية، وبعد ذلك سميرة السعيد وسمية قيصر وسواهن من المغرب، ولطيفة وصوفيا صادق وسواهن من تونس: مع ملاحظة أن التربية الكلاسيكية السليمة لكل هذه الاصوات، لم يمنع معظمها من الانخراط في موجة الغناء الاستهلاكي السائد، بعد بدايات جيدة وواعدة.
- اذا كان اسم الجزائر لم يرد في هذا العرض المغربي الموجز، فلإن محاولات فرنستها ثقافياً لا سياسياً فقط قد دفعت التجليات اللغوية والموسيقية لعروبة الجزائر الى الانزواء في الأرياف، ومع التخبط بين شخصية الجزائر العربية وشخصيتها الهجينة، منذ الاستقلال وحتى الآن، فقد برزت موسيقى "الراي" كتعبير عن العنصر البربري في شخصية الجزائر، ولم تدع اصلاً الانتماء الى الكلاسيكية العربية، وان كانت بعض الكتابات الاوروبية المشبوهة، تحاول أن تلعب على وتر جعل موسيقى "الراي" تعبيراً عن الحداثة، ووصم التراث الكلاسيكي للموسيقى العربية بالتخلف.
ب - العراق:
من المعادلات الظالمة لهذا القطر العربي الاساسي، الفارق بين حجمه ودوره في التراث التاريخي للموسيقى العربية أيام العباسيين وعبقرية الموصليين ابراهيم واسحق، وزرياب البغدادي الذي هاجر الى الاندلس ليؤسس الحضارة الموسيقية العربية هناك ويطلق لها العنان وبين حجم ودور العراق في الحركة الموسيقية العربية المعاصرة، ذات الانتشار العربي الشامل.
ومع ذلك ، فقد كان لافتا للنظر أن فرقة المقام العراقي بقيادة الفنان الكلاسيكي الكبير محمد القبانجي قد سرقت الاضواء في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932، حتى كان هناك اجماع على أنها أفضل وأهم الفرق المشاركة. ومع أن فن المقام الذي يختصر كنوز التراث الموسيقي العربي الكلاسيكي في العراق ما زال حياً، حتى يومنا هذا، من خلال فرق جادة وأصوات هامة تتناقله جيلا بعد جيل وتتولى تقديم نماذجه في عروض مسرحية حية، فإن أسباباً عديدة لا مجال لاستعراضها في هذه السطور ما زالت تحول حتى يومنا هذا دون أن يعاد انتاج هذا اللون في صياغات تحوله الى تراث عربي شامل. علماً بأن أي عربي يتاح له الاستماع الى نماذج من فن المقام العراقي، لا يملك نفسه من التجاوب الكامل، نظراً لصلات الرحم الواضحة بين ينابيع هذا الفن التاريخية، والينابيع التاريخية لبقية الوان الموسيقى العربية الكلاسيكية.
غير أن حديث المقام العراقي يجب أن لا يحجب عنا الدور الذي لعبه العراق في النهضة الموسيقية العربية الكلاسيكية الحديثة، وهو اطلاق نجوم العزف على العود من مدرسة الشريف محيي الدين، وأشهرهم منير بشير وجميل بشير وسلمان شكر وأخرهم نصير شما الذي يدير حالياً مركزاً لآلة العود، تابعاً لدار الاوبرا في القاهرة. وهي مدرسة في العزف على العود لقيت تجاوباً واستقطبت تلامذة من أقصى المغرب العربي الى اقصى المشرق، بما في ذلك اليمن. وأعتقد أن ظروف التشتت والتمزق العربي الراهنة تسئ الى هذه المدرسة، لأنها تصر على تقديمها بديلا عن المدرسة المصرية في العزف على العود، وليس اضافة لها، كما هو واقع الحال.
ج - الخليج والسودان:
يجب التفريق فوراً وبوضوح وحسم بين التراث الكلاسيكي الغني للغناء في الخليج، وبين اللون المتداول حالياً في أسواق الموسيقى الاستهلاكية الرائجة على أنه لون خليجي، فقليلة جداً هي النماذج المتداولة في هذه الاسواق تستقي مادتها فعلاً من تلك الينابيع الكلاسيكية، المنتشرة والمركزة خاصة في قلب الجزيرة العربية وغربها، وفي شرقها الشمالي الكويت والبحرين بشكل أخص، وليس غريباً استمرار هذا اللون حتى الآن في أسر المحلية الضيقة، لأن الاهتمام بانشاء الفرق الجادة التي تؤدي هذه الالوان ليس بعيد العهد. واذا كان النفس المقامي للتراث الموسيقي الخليجي لا يخرج عن الشبكة المقامية لتراث الموسيقى العربية الكلاسيكية، فإن أشد ما يميز هذا اللون من الموسيقى العربية ثروته الايقاعية التي يعتبر التعاكس الايقاعي syncop العصب الاساسي فيها.
فإذا انتقلنا الى السودان، فاننا ندخل في أكثر بيئات الموسيقى العربية خصوصية، فقد يكون انتماء المزاج الموسيقي السوداني بسلمه الخماسي الخاص أقرب الى الموسيقى الافريقية منه الى الموسيقى العربية. ومع ذلك، نلاحظ أن انتماء عرب السودان الثقافي والوجداني والسياسي الكامل الى أمتهم العربية، قد أنتج بداية ناجحة في اضفاء بعض الملامح العربية الخاصة على هذا اللون الافريقي أصلاً، مع أن كل ذلك ما زال في طور البدايات الأولى التي كان لاذاعة "صوت العرب" فضل تعميمها اعلامياً.
نظرة عامة
لو ألقينا نظرة عامة على بانوراما القرن العشرين للموسيقى العربية الكلاسيكية من الموقع الحالي في أواخر القرن، سنكتشف أن حالة التراجع العام في الحيوية الحضارية العربية المستمرة منذ عقدين أو نيف، وهي لم تكتف بقطع أتصال الاجيال العربية الحالية بانجازات او تراث العصر الذهبي للموسيقى العربية المعاصرة، بل حالت وما زالت تحول دون انطلاق حيوية بقية البؤر الموسيقية العربية الاخرى المهمة التي عرضنا لها بايجاز شديد في آخر المقال لتلعب دوراً عربياً مركزياً يتجاوز اثرها المحلي الحالي، الى الدخول في عناصر تكوين وجدان المواطن العربي المعاصر، واغناء هذا الوجدان بالوانها الغنية أصلاً.
- في العصر الذهبي للموسيقى الكلاسيكية العربية المعاصرة، كان الذين يلمون بقراءة النوتة الموسيقية من العاملين في كل حقول الموسيقى والغناء لا يتجاوزون العشرات، بين المحيط والخليج .أما اليوم، فلم يعد يوجد متعامل من عشرات الوف المتعاملين بالموسيقى في الوطن العربي، ممن يجهل قراءة النوتة... ومع ذلك فالنتيجة على صعيد الابداع الموسيقي الراقي عكسية.
العيب طبعاً ليس في الاقبال على دراسة النوتة الموسيقية، وسائر علوم الموسيقى الاوروبية، ولكن في تعاملنا مع كل هذا بديلا لروح الموسيقى العربية، وللتزود من العلوم الخاصة بالموسيقى العربية في مجالي الثروة المقامية وسككها الرياضية المعقدة وثرائها اللحني الذي لا حدود له، والثروة الايقاعية ذات التركيبات الرياضية المعقدة والطاقات التعبيرية التي لا حدود لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.