مَن يبحث في فيينا عن الشبيبة وبهجتها، أو عن "ليالي الانس" الاسمهانية، يُستحسن به ان يتوجه الى امستردام او غيرها من مدن اوروبا. هنا الأزياء قديمة نسبياً لا يخالطها اللعب والتجريب والغوى. وفي محل المتعة، يحل التهذيب الرفيع ووطأة التقاليد الاريستوقراطية. حتى مبانيها التي تشبه مباني براغ، تقل عنها زهواً وتقل نسبة اللون الزهري فيها، اذ يطغى الرمادي ولون ضعيف يهمّ ان يصير اصفر. وما يضاعف اقتصاد الفرح في فيينا انعدام البلاكين في تلك المباني التي يعيش اهلها داخل البيوت. فرغم الوضع الامني الممتاز، يقفل الفندق الذي اقمت فيه، في شارع شوبارتسرينغ الرئيسي، بابيه بعد الواحدة ليلاً فلا يمكن الدخول اليه الا باجراءات على شيء من التعقيد. وتكفي نظرة الى الواجهات وحلوياتها الشهيرة للتيقّن من ان آخر ابداعات طريقة الحياة النمسوية تعود الى 1918 حين آلت الامبراطورية الى زوال. مذّاك لم تطوّر فيينا اشياء كثيرة، فلا يزال صحنها الابرز، الغولاش، هنغارياً، ولا يزال معظم ما تأكل من صنع بلدان الامبراطورية التي كانت، ذات مرة، شاسعة ضخمة. والحال ان العاصمة النمسوية، بحسب عارفيها، لم تتغير الا قليلا في السنوات العشر الماضية. صحيح ان الرساميل الاجنبية اخترقتها، ونشأت فيها مصالح ومخازن تدل اسماؤها عليها، وصحيح ان افتتاح ماكدونالدز في ساحة القديس اسطفان المركزية أثار مشكلةً تناقلتها وكالات الانباء والتلفزيونات، الا ان الهواء الثقيل للمدينة يلزمه الكثير الكثير لكي يتبدد. وقد اخبرني الدكتور محمود رِجال، المصري الأصل الذي سافر الى فيينا في 1977 حيث درس الطب النفسي ثم مارس التطبيب، كيف ان نظام العقاب صارم صرامة الحياة النمسوية. فهو، خلال عمله مع ادارات السجون، ناضل نضالا مُرا لاقناع السلطات بالسماح للمساجين ان يستحمّوا اكثر من مرة في الاسبوع، وان يغيروا ملابسهم اكثر من مرة. ورغم جهوده وجهود زملائه الكثيرين، لم يتحقق هذا الانجاز الا قبل عامين. ففيينا، كما قالت السيدة الفيينية العتيقة، "وصفة للموت". والعبارة ليست مجازية اذ حتى سنوات قليلة مضت كانت العاصمة تعجّ بالارامل اللواتي قضى ازواجهن في الحرب العالمية الثانية، واللواتي صرن من سماتها. فخلال تلك الحرب، وفضلاً عن الجنود الذين قُتلوا، قصف الحلفاء المهاجمون العاصمة النمسوية 53 مرة كما قصفها الالمان المتراجعون مرارا. ومات الآلاف من اهلها ودُمر 20 في المئة من بيوتها والكثير من شوارعها ومعالمها، فلم تنته اعمال الترميم الا في 1955، وهو العام الذي سجّل ايضا جلاء الحلفاء واعلان حياد النمسا الدائم، كما ابتدأت فيه الجمهورية الثانية المستمرة الى اليوم. بلد الحدود والهوية الا ان للموت اصولا عظيمة في النمسا. فما حصل في الحرب الثانية كان، في احد معانيه، تتويجاً لتاريخ مديد احتلت الجغرافيا حصة الأسد في رسمه. ولأن التاريخ هو السياسة في اوروبا الوسطى، تنبّهنا الخريطة الى موقع النمسا ومعاني الاضطراب السياسي التي ينطوي عليها. فهي في قلب اوروبا تماما، عند تقاطع العديد من هجرات القبائل القديمة، وطرق التجارة، واصلةً الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، منشدةً الى الجميع وخائفةً من الجميع، وخائفةً، بالدرجة الأولى، على هويتها ودورها. والموقع هذا كان له، بالطبع، اسهامه في جعل فيينا مدينةً - حاضرةً من مدن اوروبا. ذاك انه على ارضها التقت القبائل الجرمانية والسلافية والرومانية الوافدة من الشرق وانصهرت، تاركةً آثاراً لها في تطور المدينة في مستوياته جميعا. لهذا دعيت "باريس الدانوب" الذي يخترقها احد فروعه المسمى "قناة الدوناو". لكنك وانت تسير فيها تلاحظ بقايا حائط هو السور الذي انشىء لحمايتها من العثمانيين الاتراك، وقد ظل يحيطها حتى اعوام 1858 - 1865 حين هُدمت التحصينات وسُوّيت مع الارض متيحةً المجال لنشأة رينغستراسه، اجمل طرقات فيينا العامة. فهذه المدينة احتلها، بين 1484 و1490، الهنغاريون، ومرتين في 1529 و1683 حاصرتها الجيوش العثمانية فلم تصدّهم الا جهود اوروبية مشتركة. وابان الحروب النابوليونية تعرضت لخطر داهم فاحتلها الفرنسيون في 1805 ثم في 1809، حتى اذا سقط نابوليون التقى ممثلو اوروبا في كونغرس فيينا التي كانت اصبحت مركز القارة الديبلوماسي والسياسي تبعا لبراعة مستشارها الشهير مترنيخ. لكن نظام مترنيخ الرجعي، وهو صائغ التوازن الأوروبي بعد نابوليون، ما لبثت ان اطاحته ثورة 1848، لتعود النمسا تتفتح وتزدهر في عهد الامبراطور الليبيرالي والمُحب للثقافة فرانسيس جوزيف الاول. بيد ان الازدهار الثقافي والاجتماعي الذي كثيرا ما يواكب التفسخ الوطني، كان حاله هنا ايضاً هكذا، لا سيما وان العام 1859 شهد حربا مع ايطاليا التي استولت على لومبارديا في حمّى حروب التوحيد الايطالي. وفي غضون ذلك كان بسمارك يوالي صعوده في بروسيا، ما تسبب في نزاع ضارٍ بينها وبين امبراطورية الهابسبورغيين على قيادة الكونفيدرالية الجرمانية. وفي 1866 اندفع الطرفان في حرب الاسابيع السبعة، حيث تحالف بسمارك مع ايطاليا، وتحالفت النمسا مع امارات المانية اخرى كبافاريا وسكسونيا وهانوفر. وفي 3 تموز يوليو نزلت الهزيمة القاصمة بالأخيرين في معركة سادوا الشهيرة، فيما تم التمهيد لانشاء الكونفيدرالية الالمانية الشمالية. رضّة سادوا وكان أثر سادوا على نفسية النمسويين رضّةً عميقة: فقد فقدوا دورهم كفاعل كبير على المسرح الأوروبي، لكن الشعور الغالب لم يكن الحقد على الالمان بل التشبّه بغالبهم، والتمسك، من ثم، بقومية جرمانية متزمّتة كأنها وحدها التي تحافظ على عظمتهم بعد ان تحررهم من "عبء الشرق" الذي تطل طلائعه من هنغاريا. هكذا ولدت في لاوعي نمسوي ما مقايضةٌ لافتة: المانيا المرغوبة هي التي تجدد المجد الامبراطوري من دون "عبء الشرقيين". وبينما كانت الهجرات، من روسيا واوروبا الوسطى، تخلخل الخريطة القديمة لأوروبا، فيما ينجذب المهاجرون واللاجئون الى فيينا الغنية المزدهرة، ارتفع صليل السيوف المتوعّدة الغريبَ بين شبان المدينة، وتكاثرت الانتسابات الى نوادي الفروسية والتمرين على المبارزة بالسيوف بوصفها رمزاً للذكورية القومية المستفحلة آنذاك. وكان من مفارقات ذاك الزمن ان ثيودور هرتزل كان احد هؤلاء، قبل ان تدفعه قضية درايفوس من قومية المانية متشددة الى تأسيس اخرى يهودية متشددة بدورها. أبعد من هذا ما حصل في 1890 حين توجه الفيينيون الى اول انتخابات ديموقراطية للحاكمية يجرونها في تاريخهم، فاختاروا الكاثوليكي الرجعي واللاسامي كارل لويغر. وظل فرانسيس جوزيف الاول يرفض الاقرار بنتائج الانتخاب حتى 1897 اذ لا يجوز، في عرفه، لهذه الحاضرة الكوزموبوليتية ان تتمثّل برجل كهذا يكره التشيك والسلاف واليهود ويحول دون دخولهم الى المدينة، فاذا دخلوها حال دون تمتّعهم بالخدمات التي توفّرها لسائر المقيمين فيها. والى فيينا المتشنّجة هذه، والمزدادة تعصباً للرابطة الجرمانية، وصل ادولف هتلر في 1907 من قريته براوناو في ارياف لينز، طالباً مضطربا وكارها للغريب، يريد برسوم طبيعية بسيطة ان يصبح فناناً. ومثلما ابتدأ قرننا هذا بالنمسا، ابتدأ بها القرن العشرون. ففي 28 حزيران يونيو 1914 قتل الارشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته في ساراييفو، وكانت الحرب النمسوية - الصربية التي شكلت شرارة الحرب الاولى. لكن ما ان حل العام 1918، وحلت معه الهزيمة، حتى هرب من فيينا الامبراطور شارل الاول طريدا يبحث عن مأوى. لقد فقدت النمسا كل شيء تقريباً بضربة واحدة، بعدما كانت سادوا افقدتها موقعها المؤثّر: انتقلت من امبراطورية مترامية الأطراف الى بلد هزيل لا يملك منفذاً على البحر. وما شهدته مقاطعة كارينثيا في شكل مكثّف ومضغوط شهدته البلاد كلها. ذاك ان منتصري الحرب الاولى وزّعوا، بموجب معاهدتي فرساي وسان جيرمان، اراضي امبراطورية الهابسبورغيين على الدول والقوميات الوليدة والكثيرة، فلم يبق للنمسويين الا 26 في المئة من مجموع المساحة السابقة التي توزعت بين بولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وايطالياورومانيا. وكان لسقوط الهابسبورغيين وتفسخ امبراطوريتهم آثار كبرى على فيينا. فبعدما كانت الحاضرةَ الامبراطورية لخمسين مليونا، اصبحت عاصمة بلد يعد ستة ملايين والآن ثمانية. وهي نفسها التي كان عددها مليونين غادرتها العائلات العديدة التي اقامت فيها، وراحت توالي انخفاضها سنةً بعد اخرى الى ان استقر بها الحال، هذا العام، على مليون و700 الف. وفي 12 تشرين الثاني نوفمبر 1918 اعلن المجلس الوطني النمسوي استقلال البلد كجمهورية، واختار لها تسمية "دويتش أوستريتش"، اي النمسا الالمانية، كما ادخل في قوانينه الاساسية فقرة تفتح الباب للوحدة التي حصلت بعد عشرين عاما. الا ان الحلفاء تدخلوا لمنع النمسويين من تغيير اسم البلد ودفعهم الى الاكتفاء بالنمسا، كما اضطروهم الى ان يُدخلوا في دستورهم إنكارا لكل رغبة في الانضمام الى المانيا. وفيما تراجعت البلاد اقتصادياً وانكمشت، تركتها معاهدة سان جيرمان في مواجهة ديون واعباء مالية ضخمة لا تقوى على مواجهتها، ولا تقوى على تذليلها القروضُ السخية التي قدمتها لها عصبة الامم. وبطبيعة الحال ترافق التصغير السياسي خوفاً من المارد الجرماني المجنون مع تصغير اقتصادي. فحين قررت النمساوالمانيا المهزومتان تشكيل اتحاد جمركي في 1931، حالت محكمة العدل الدولية دون ذلك، وقضت، بأكثرية طفيفة، بان عملاً كهذا يخالف معاهدة سان جيرمان. لقد بدا كأن مؤامرةً تحول دون تألمُن النمسويين ودون ما اعتبروه تحقيقا لذاتهم. وكان الزمن الثلاثيني يغلي بالمطاليب القومية المحتقنة التي يقف وراءها شبان مهتاجون وقبضات مشدودة. وراح القلق السياسي يسود حياة جمهورية النمسا الاولى 1918-1938، فتميزت بالصراع الحاد بين الاكثرية الاشتراكية الديموقراطية في فيينا وبين الاكثرية المحافظة، الكاثوليكية والقومية، في سائر البلد. وبدورها تفرّعت هذه الاخيرة فئتين: فالحزب المسيحي الاجتماعي الذي ضم اعيان الارياف وعبّر عن النزعة الاكليركية، مثّل الهوى الايطالي الراغب، منذ 1923، في تقليد موسوليني من دون الاندماج في ايطاليا. والحال ان هذا الحزب، الذي اسسه في نهاية الحرب الاولى رجل دين هو اغناز سيبيل، كان يسيطر تقليديا على معظم حكومات الاقاليم الريفية، الا ان جمهوره العامي، من حِرَفيين وفلاحين وتجار صغار، لم يتزحزح في هواه الاندماجي مع المانيا، منتظراً اللحظة التي تنهض فيها برلين من كبوتها. وفي 1933 نهضت برلين بوصول هتلر الى الحكم. لكن قبيل ذلك، وفي موازاة الازمة المالية ل1929 وما تلاها، اقام المستشار المحافظ انغلبرت دولفوس ديكتاتوريته وسط عديد الديكتاتوريات التي كانت تنشأ في ثلاثينات اوروبا الوسطى. فدولفوس المتأثر بموسوليني قبل ان يسطع نجم هتلر، بادر، منذ 1930، الى توقيع معاهدة صداقة مع روما مهّدت لها طريق دعم التنظيمات الفاشية والكاثوليكية في النمسا. وفي 1934 حل ديكتاتور فيينا الاحزاب كلها ما عدا "جبهة الوطن الأم" التي يرأسها، وهي ائتلاف من المسيحيين الاجتماعيين وحزب الزراعيين والحرس القومي Heim Wehr، والاخيرون مجموعة محافظة متطرفة اخرى، ريفية القواعد، يتزعمها ارنست روديغر فون ستارهمبرغ. حمّام الدم وقاوم الاشتراكيون الديموقراطيون الاجراءات الاستبدادية هذه، ولهم دائماً السيطرة على فيينا، فتمترسوا في مباني البلدية حيث نفّذوا مشاريع للاسكان الرخيص الكلفة اطلقوا عليها اسماء كارل ماركس وفريدريك انغلز. لكن دولفوس دمّر مقر الحاكمية الاشتراكية للعاصمة وقصف المباني وكان حمّام دم شهير. بيد ان عين دولفوس الأخرى كانت على النازيين والمانيا، خصوصاً ان الطليان كانوا حينذاك ينافسونهم على النفوذ. اما الاشتراكيون فلم يسامحوه بل واجهوه بالبرودة حين سألهم العون في مواجهة النازيين، مراهنين على الصراع بين فصائل التطرف اليميني كما بين النفوذين الالماني والايطالي. وفي النهاية سقط الديكتاتور نفسه في 1934 ضحية مؤامرة نازية. ففي 25 تموز اعلن نازيو النمسا، الذين ربما كان والد يورغ هايدر احدهم، عصياناً مسلحاً حرّكته ووجّهته برلين وانتهى باغتيال دولفوس. وحرّك موسوليني قطعاته على الحدود للايحاء لهتلر بصعوبة قضم النمسا، وتولى ساسة كاثوليك ورجعيون الواجهة على رأسهم زعيم الحرس القومي، ستارهمبرغ، ومحام كاثوليكي هو كورت فون شوسشنغ، وفي 1 نيسان ابريل 1936 اعلن عن بدء العمل بالتطوع العسكري وعسكرة البلاد. بيد ان المستشار شوسشنغ اطاح، في هذه الغضون، نائبه ستارهمبرغ وانشأ الديكتاتورية الثانية، كما حل الحرس القومي الذي استوعبت ما تبقى منه ميليشيا جبهة الوطن الأم، فيما انضم الكثيرون من متضرريه الى صفوف النازيين. وفي 11 تموز وقّع شوسشنغ اتفاقا مع المانيا حيث تعهد هتلر احترام استقلال بلاده، الا ان الرياح كانت تهب لمصلحة التدخل، ومن ثم توحيد الفصائل اليمينية المتطرفة في ظل القيادة الالمانية وحدها. اذ مع تزايد التورط الايطالي في اثيوبيا واسبانيا، وتنامي صداقة موسوليني وهتلر، ترك الاول النمسا، بين ما تركه، للثاني. وتفادياً للأسوأ طوّر شوسشنغ، المتروك بلا حليف كبير، علاقات مع ما عُرف ب"التحالف الصغير" لتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوغوسلافيا علّها تحميه، فاعترض هتلر ودعاه الى زيارته في 1938 طالبا منه تسليم ارثر سايس إنكوارت زعيم النمسويين النازيين، وزارة الداخلية، والسماح لمحازبيه بدخول جبهة الوطن الام. وقرر شوسشنغ اجراء استفتاء حول استقلال البلد فطالب هتلر بالغائه، لكن نازيي النمسا بدأوا اضطرابات واعمال شغب حملت شوسشنغ على الرضوخ لهم فألغى الاستفتاء واستقال. هكذا اضحى انكوارت المستشار الجديد، فناشد المانيا ان ترسل قواتها للتهدئة ورفع الصليب المعقوف علامةً على التفوق الآري. وفعلا دخل الالمان فيينا في آذار مارس 1938 وما لبثوا ان اعلنوا الاتحاد الذي اصبحت النمسا، بموجبه، "ولاية شرقية" يحكمها انكوارت، فيما بوشر بدمج الحياة والاقتصاد النمسويين في نظيرهما الالمانيين. "ضحية هتلر الأولى" كان النمسا البلد الوحيد الذي رحّب بالانضمام الى المانيا النازية، ونثر اهله الزهر على دبابات هتلر وجنوده. مع هذا لم يُسكن هذا التحقيق للذات جرحَ الهوية تماما: ففي ذروة الانشيلوس اخذ النمسويون على الالمان عجرفتهم واختلاف لهجتهم، واتهموه بان كل شيء في يدهم علماً بأن "الزعيم" من النمسا اصلاً، كما نشأ تنافس القطبين، برلين وفيينا، حول ايهما المدينة الاولى والاعرق في دولة الوحدة. وتحقق قدر من الازدهار نتيجة الاندماج في سوق اكبر وانشط حتى ذاك الحين، الا ان معاناة اليهود النمسويين تجاوزت مثيلتها في المانيا. ومع الحرب صارت البلاد الصغيرة مضرب مثل في الاعتداءات واعمال القتل وسرقة الممتلكات، مع سخاء مبالغ فيه في ارسال الدفعات البشرية الى معسكرات التجميع. واستمر الحال على هذا النحو الى ان حرر الجيش السوفياتي فيينا في نيسان 1945. قبيل ذلك، ولأسباب استراتيجية بحتة اتصلت بزمن الحرب واعتباراتها، وعلى أمل التسريع في استسلام المانيا عبر اخراج النمسا من المواجهة، اعلن الحلفاء في يالطا ان الاخيرة كانت "الضحية الأولى" لهتلر. وهذا عنى انها لن تُعامل كما يُعامَل المتعاونون ولن تعاني سائر اجراءات نزع النازية. هكذا اطمأنت الأنا النمسوية الى أن لا أنا عليا فوقها، فساد الصمت عما حصل ولم تظهر حركة تُراجع الماضي، لا في اوساط المثقفين ولا في كتب التعليم ومناهجه. أما في السياسة، فرأس كارل رنر، الاشتراكي الديموقراطي الحكومة الائتلافية الاولى. وكانت انتخابات تشرين الثاني 1945 اعطت الحصة الاولى لحزب الشعب، وريث ما كان قبل الحرب حزب المسيحيين الاجتماعيين، لكن هذه الحصة لم تكن اكثرية وجاءت اضأل من مجموع الاشتراكيين والشيوعيين. وباتفاق قوات الحلفاء، وفيهم الروس طبعاً، ضمّ الائتلاف العريض الحزب الشيوعي، الا ان الشيوعي الوحيد في الحكومة استقال اواخر 1947 احتجاجا على الاصلاح النقدي وبرنامج مارشال. ومذّاك وحتى ربيع 1966 ظلت الحكومات تتألف من حزبين، فبات المستشار، بعد كارل رنر، من حزب الشعب فيما نائبه اشتراكي. وبهذا تعطل دور البرلمان ونقاشه. ولئن نال حزب الشعب في انتخابات 1966 اكثرية كبرى وتحول الاشتراكيون معارضةً، غير ان هذا لم يطل اذ صعد نجم برونو كرايسكي الاشتراكي - الديموقراطي الذي ما ان ذوت تجربته، اواسط السبعينات، حتى عاد الحكم الائتلافي مجدداً، بمستشار اشتراكي ونائب له من حزب الشعب. وعلى العموم حكم الحزبان مؤتلفين ما مجموعه 34 سنة من اصل 54 هي عمر الجمهورية الثانية، فخلق هذا النظام سلوكاً تسووياً راكداً يبطّىء القرار وصناعته ويعيق الاصلاح، كما اسس عداء اخلاقيا للسياسة والسياسيين يُعدّ الفاشيون دائماً اخصائيين في استثماره. ولئن قالت نظرية الحكم المعمول بها ان المطلوب تلبية حاجات المجتمع ككل، لا حاجة شطر من شطوره، فالواقع انطوى على فساد كثير، اذ احتكر الحزبان ما لا حصر له من المناصب والمنافع يتقاسمانها على نحو لا يجيزه اي نظام ديموقراطي. وقد ذهبت نكتة نمسوية شهيرة الى ان "كل مدرسة ابتدائية ينبغي ان تستأجر امرأتين لتنظيفها، واحدة من الاشتراكيين والأخرى من حزب الشعب". الدولة - الأب لم يكن التقاسم الصادر عن منصّة السلطة بعيداً عن تاريخ تشكّل الدولة النمسوية الموروث عن دولة الهابسبورغيين. فهنا كان الامبراطور هو "الأب" الكبير الذي يقرر ويستثمر ويمنح الحقوق السياسية والامتيازات الاقتصادية ويُحدّث، او لا يحدّث. فيما الدولة هي دائماً من يتحكم بالمشاريع الكبرى والبناء والاستيراد والتصدير، تاركة الحصة الصغرى لمن تريد تنفيعه او ترفيعه. ومع ان عهد برونو كرايسكي لم يكن ائتلافيا، الا انه كان خير تجسيد للاستئناف الامبراطوري بالمعنى هذا. فالمستشار الاشتراكي اقام زعامته عبر النقابات وفي الصناعات المنتشرة في العاصمة وضواحيها كما في باقي المدن، وتحديدا من خلال شركة "فوست ألبَين"، وهي احتكار صناعي للصلب والحديد والكيماويات وغيرها، تُعَدّ الشركة التاسعة من نوعها في العالم. وكما تولى البرلمان لجم حركة التشريع لا سيما ابان الحكومات الائتلافية، تولّت النقابات لجم حركة المجتمع الذي لم يعرف تظاهرة واحدة طوال تلك الحقبة، فيما عززت بيروقراطيتُها الفساد المستشري وتوزيع الامتيازات. وقد يكفي القول ان ضمانات واكلاف العامل في النمسا تعادل اليوم 107 في المئة من أجره، قياساً ب30 في المئة في بلد كايرلندا الجنوبية. فاذا تمكنت الاخيرة من ان تخطو خطوات جبارة في الاقتصاد المعلوماتي الحديث، فهذا ما لم يحصل في فيينا المتخلفة بقياس ابحاث التقنية الرفيعة. والحق ان هذا التكوين الأبوي الذي اضعف التسييس والتحديث معاً، حال دون تمتع الطبقة الوسطى بصوت سياسي او ثقة ايديولوجية بالذات، فانضاف التسطيح الداخلي الى هُجاس الهوية وخوف الوعي الحدودي. فالحزب الليبيرالي الحديث النشأة، مثلا، لم يستطع في الانتخابات الاخيرة نيل نسبة ال5 في المئة التي تجيز له دخول البرلمان. اما اصحاب المشاريع المدينيون فهمّشهم اصلاً برنامج التعمير بعد الحرب الثانية الذي نفّذته الدولة، ثم توّجه كرايسكي ببرنامج للتحديث قادته الدولة والنقابات. وهكذا حين نشبت الازمة الاقتصادية للثمانينات وما اعقبها من تسريحات عمالية، تخلخلت الخريطة السياسية القديمة وظهرت بدايات توجّه عمالي، ما لبث ان تنامى، الى حزب الحرية. فعندما اتبع الاشتراكيون الديموقراطيون، في السنوات القليلة الماضية، برنامجاً للخصخصة بدأوه بيروقراطيا ضمن القطاع العام، انتج فساداً من النوع الروسي ولو بدرجات اقل. الا انه، في ظل الافتقار الى تراكم سياسي ليبيرالي، شرعت هذه التحولات تنتج مؤيدين جدداً لحزب الحرية. المضي في تجاهل المسؤولية بيد ان سيّئات عهد كرايسكي لم تقف هنا. ففي نظريته عن تقسيم اليمين، تحالف مع حزب الحرية حين كان زعيمه فريدريش بيتر، الضابط السابق في الفرق النازية الخاصة الذي تكتّم على ماضيه كيما يُقبل شرعياً. وفي مقابل الحصول على دعم هذا الحزب في البرلمان لحكوماته الاشتراكية، ذهب كرايسكي الى حد ترشيح بيتر لرئاسة الجمهورية. وبدا هذا نافراً، ليس فقط بسبب فاشية حزب الحرية، بل ايضاً لأن الاحزاب الصغيرة لم يكن لها دور لاقتصار الحياة السياسية على الحزبين الكبيرين. وكان بيتر قد نجح في توحيد التنظيمات الفاشية وراءه، محتكرا لحزبه حصة ال5 في المئة التي كانت مفتتةً بين الجماعات المتطرفة. ذاك ان "عصبة المستقلين" التي ظهرت في 1949 واستقت انصارها من المتعاطفين مع النازية ومن "حزب الريف" Landbund القديم، كانت اتحدت، في 1956، مع حزب بيتر، ولاحقا حزب هايدر. وقصارى القول ان تحالف كرايسكي مع الحرية وترشيحه زعيمه للرئاسة، ما حملا سيمون فزنتال على مهاجمته بصفته "يهوديا كارها للذات"، فيما عملت مواقف المستشار المُحقّة والمؤيدة للفلسطينيين في الشرق الاوسط، على إنساء النمسويين يهوديته، والتسامح تالياً مع زعامته عليهم. لكن ما حاولت ان تكرّسه سنوات كرايسكي الطويلة نسبياً، لجهة انعدام المسؤولية حيال الماضي، هو ما فجرته فضيحة كورت فالدهايم. فقد انكشف ان الأمين العام السابق للأمم المتحدة انما كان ضابط مخابرات نازيا ابان خدمته في البلقان في الحرب الثانية. ومع هذا لم تتردد اكثرية النمسويين في الاقتراع له رئيساً للجمهورية عام 1986. فالتاريخ في النمسا هو ما لم يحصل. لقد اكتفت فيينا بعد الحرب بعلاج احمق اذ تشددت، كمن يتكتم على سر، في معاقبة من يشتبه بنازيته لا سيما اذا اتُهم بتأسيس تنظيم او نشر ادبيات او المشاركة في نشاط. وهناك من قضى ثماني سنوات في السجن من جراء تهم كهذه لا يمكن التحقق الدقيق منها ومن حدودها. وفي المقابل دُفع للناجين النمسويين من المحرقة ما قيمته 7 آلاف دولار للفرد، اعتبرت عونا انسانيا لا تعويضا مستحقا. وقد انضاف الى هذا الافتخار بأنهم ضحايا هتلر الأُوَل، وبأن الالمان هم وحدهم النازيون، افتخارٌ بحيادهم الذي جعلهم "قلعة الحرية في مواجهة الستار الحديد"، فتمّ للنمسويين كمال لا يخالطه ادنى شك بالذات. صحيح ان الصفوف المدرسية والتلفزيون بدأت مؤخراً تُظهر صوراً او تذيع كلمات تطول دور النمسا ابان الحرب الثانية، كما بدأت تُنظّم جولات طلابية الى معسكر ماوثاوسن حيث قضى عشرات الآلاف، الا ان استدخال المراجعة لا يزال بعيداً. والراهن انه مع انتهاء الحرب الباردة تفاقمت ازمة الهوية والقلق حيال الموقع: فلا تزال هناك في النمسا، مثلا، مطالب مرفوعة بتفكيك بقايا مصانع توليد الطاقة النووية التي كان اقامها الاتحاد السوفياتي السابق في اوروبا الشرقية المجاورة. اما الخطط المتعلقة بتطوير القابليات الدفاعية الاوروبية فتشعل، تحت الرماد، نقاشا حول حياد البلد ووظيفته في عالم متغير. ومن ناحيتها عملت حرب كوسوفو، بعد حرب البوسنة، على التنبيه الى ان الحروب لم تصبح تماماً من الماضي. ولئن انبعثت الاثنيات والقبليات البدائية في البلقان مذكّرةً بالثلاثينات، فان النمسا شديدة الاستعداد لأن تتذكر في هذا الاتجاه الآحادي. الحلقة الثالثة الأحد المقبل: العمالة والهجرة والعنصرية