صحيح أن الانقلاب الذي قام به النازيون النمسويون يوم 25 تموز 1934 بهدف الاستيلاء على الحكم بدعم من برلين قد اخفق في الوصول الى هدفه، لكنه اسفر عن وقوع العديد من الضحايا ومن بينها المستشار دولفوس، رئيس الحكومة، الذي كان اغتياله في ذلك اليوم فاتحة لأحداث متلاحقة، عنيفة وصاخبة عرفتها النمسا، وأودت بهذا البلد بعد سنوات قليلة الى احضان المانيا النازية. في ذلك اليوم تحركت مجموعتان من العصابات المسلحة التابعة للحزب القومي الاشتراكي النمسوي الذي يتزعمه الدكتور آرثر سيس - انكارت ويمول من قبل نازيي برلين مباشرة، واحدة من المجموعتين تحركت في اتجاه مبنى الاذاعة في وسط فيينا، وكان افراد المجموعة يرتدون اثواب الشرطة والجيش، فيما تحركت المجموعة الثانية وكان افرادها يرتدون ملابس الحرس الجمهوري، في اتجاه مقر المستشارية حيث كان يعقد اجتماع حكومي من النوع العادي برئاسة المستشار دولفوس. بسرعة تمكنت المجموعة الأولى من الاستيلاء على مبنى الاذاعة، حيث طلبت من احد المذيعين ان يذيع بياناً يعلن استقالة المستشار الفورية. غير ان قوات الأمن سرعان ما تنبهت الى ما يحدث، فهاجمت المبنى وسيطرت على الانقلابيين معتقلة 144 منهم من دون ان يقع في هذه الناحية اي ضحية. لكن حظ افراد الحكومة والمستشار في المبنى الآخر كان اسوأ. اذ حدث الشيء نفسه، فهاجمت مجموعة من المسلحين المتخفين، كما اشرنا في زي الحرس، المبنى. في البداية خيل لأفراد الحكومة المجتمعين ان المسألة ليست اكثر من تبديل للحرس. غير ان مستشاري دولفوس سرعان ما ادركوا حقيقة ما يحدث، فسارعوا يحاولون تهريب المستشار عبر ممر سري كان ميترنيخ قد اقامه في فترة حكمه، ويودي الى غرف الأرشيف. لكن تحرك دولفوس ومعاونيه كان بطيئاً، ناهيك عن ان النازيين كانوا يعرفون بوجود الممر، وهكذا تمكنوا خلال دقائق من الوصول الى القاعة التي حاول دولفوس الاختباء فيها. وعلى الفور راح الرصاص ينهمر على دولفوس بعد ان كانت رصاصة اولى قد اوقعته على الأرض دون حراك. بيد ان الرجل لم يقتل على الفور، بل كان لدى معاونيه من الوقت ما جعلهم يفاوضون المهاجمين وأقنعوهم بوضعه فوق مقعد ومحاولة تضميد جراحه. في تلك الاثناء كانت بقية اعضاء الحكومة قد تمكنت من الفرار وانضمت الى وزراء لم يكونوا اصلا حاضرين في الاجتماع مع المستشار، وعقد كل هؤلاء اجتماعاً طارئاً واتصلوا برئيس الجمهورية الذي كان غائباً عن العاصمة. وهذا كلف بدوره كورت فون شوشننغ بتسلم رئاسة الحكومة موقتاً. وفي الوقت نفسه تبين ان ليس ثمة اي تعاطف في اي مكان من النمسا مع الانقلابيين.، ولا سيما في اوساط القوات العسكرية وقوات الشرطة التي سارعت وحدات عديدة منها الى تطويق مبنى المستشارية. في تلك اللحظات الحاسمة عند بداية بعد الظهر كان لا يزال هناك أمل في ان دولفوس سيحيا. ولكن بعد ساعات اسلم الرجل الروح بعد ان رفض الانقلابيون، المحاصرون للمستشار وأعوانه، والمحاصَرون في الخارج من قبل قوات الأمن والجيش، رفضوا ان تقدم له أية عناية طبية جدية تنقذه من الموت. ودولفوس نفسه خلال ساعاته الاخيرة لم يشأ أبدا، وهو بعد واع بعض الشيء ان يعطي الأمر للجيش باللجوء الى العنف لانهاء المسألة والسيطرة على الانقلابيين وإنقاذه. اذ، حتى وهو يحتضر كان لا يتوقف عن النظر الى معاونيه قائلاً لهم: "ارجوكم، اسعوا الى انهاء هذه المسألة من دون اراقة اي نقطة دم". وهكذا كان دمه الدم الوحيد الذي أريق، اضافة الى دم شخص او شخصين آخرين. وهو حين لفظ انفاسه اخيراً، مات مطمئناً الى انه قد انقذ البلد من الغرق في الدماء. لكن الواقع ان تضحيته لم تكن ذات جدوى، اذ في اليوم التالي وامام جسامة الاحداث، اعلن موسوليني نفسه مدافعاً عن السيادة النمسوية، وأرسل بضع وحدات عسكرية لترابط عند الحدود. غير ان خدعة موسوليني كانت واضحة، اذ ان ذلك الاعلان وتلك الوحدات العسكرية لم تكن سوى المقدمة الأساسية التي ساندت قيام محور برلين/ روما في الصورة دولفوس على فراش الموت. وعرفت النمسا اضطرابات سياسية تواصلت حتى 15 آذار مارس 1938، حين كان قيام الانشلوس الانقلاب النازي الحقيقي هذه المرة: فأخذت القوات الألمانية العسكرية تتدفق على فيينا، بينما نهض النازيون النمسويون من كبوتهم، وسيطروا على البلد في ركاب الفاشيين، الايطاليين والنازيين الألمان، وأصبح الدكتور سيس - انكارت، صاحب الانقلاب الأول الفاشل، مستشاراً جديداً للبلد يحكمها باسم هتلر.. ونسي دولفوس الى حد كبير.