تفاعلت الازمة التي خلفها انتصار زعيم "حزب الحرية" في النمسا يورغ هايدر، خصوصاً بعدما هددت اسرائيل بإعادة النظر في علاقاتها مع فيينا في حال مشاركة هذا الحزب في الحكومة الجديدة. ومع ان المستشار فيكتور كليما طمأن باراك الى استبعاد هايدر من الحكومة الائتلافية، الا ان ردود فعل اسرائيل ظلت تتنامى بشكل هستيري خوفاً من اتساع الموجة الشعبية المؤيدة لهذا التيار اليميني المتطرف. ولقد عبّر رئيس الدولة عازر وايزمان عن قلقه البالغ من انبعاث الماضي النازي في لحظة وصفها بأنها حزينة لاوروبا. وشاركه رئيس الوزراء ايهود باراك خيبة الامل، وطالب العالم الحر "بضرورة قرع اجراس الانذار قبل انتشار طاعون النازية". ولكي تربك اسرائيل الحكومة النمسوية وتمنع المستشار كليما من الرضوخ لحزب الحرية، فقد استخدمت كل الوسائل المتاحة اعلامياً وسياسياً، بحيث يظهر التعاون مع هايدر وكأنه تعاون مع وريث هتلر. وانضم الى جوقة المنتقدين الاسرائيليين زعماء المؤتمر اليهودي العالمي والمحامون اليهود الاميركيون، واصحاب المصارف الكبرى في فيينا الذين حذروا من انعكاس الخلل السياسي على الاستقرار الاقتصادي. وبما ان الاستقرار السياسي المزمن ساهم في زيادة معدل دخل الفرد وخفّض نسبة البطالة الى اقل من خمسة في المئة، فإن اسرائيل مزمعة على دفع الاتحاد الاوروبي الى قطع علاقاته مع النمسا بهدف اشعار الشعب بأن قراره الانتخابي كان خاطئاً. وكما تعاملت اسرائيل مع الامين العام الأسبق للامم المتحدة كورت فالدهايم، واتهمته بأنه شارك في اضطهاد اليهود عندما كان ضابطاً في الجيش… فهي اليوم تتهم هايدر بأن عائلته النازية استولت على املاك تخص اليهود، وانها في صدد تحريك دعوى ضده لاسترجاع الاملاك المسروقة. ويبدو ان سياسة الترهيب احدثت ردود فعل متباينة داخل الطبقة السياسية في النمسا، الامر الذي خلق تيارين متعارضين في تصديهما لهذه الازمة: تيار الحزب الاشتراكي الديموقراطي بزعامة المستشار فيكتور كليما المطالب بالتهدئة وتشكيل حكومة ائتلافية تضم الاحزاب الصغيرة في حال بقي حزب المحافظين مصراً على الامتناع عن المشاركة، وتيار المستشار الاسبق كورت فالدهايم الرافض كل تدخل خارجي في شؤون البلاد الداخلية، والمنتقد سياسة الخنوع والخضوع للاملاءات الاجنبية. وفي رأيه ان غالبية الذين صوتوا لمصلحة حزب الحرية اكثر من 27 في المئة لم يفعلوا ذلك لدوافع عقائدية، بل لدوافع اجتماعية تتعلق بحب التغيير بعد ثلاث عشرة سنة من حكم التحالف بين حزب الشعب والحزب الاشتراكي الديموقراطي. يجمع المحللون على القول بأن الحملة الاسرائيلية الشرسة ضد هايدر لا تعود الى جذوره النازية، بقدر ما تعود الى الهزائم السياسية التي مُنيت بها الدولة العبرية اثناء تعاملها مع حكام النمسا المحايدة. ففي عهد المستشار برونو كرايسكي تأزمت العلاقات اكثر من مرة الى ان بلغت ذروتها يوم استولى فدائيون فلسطينيون على قطار كان ينقل مهاجرين يهوداً من اوروبا الشرقية الى فيينا. واتصلت غولدا مائير بالمستشار كرايسكي لتحرضه على قتل الفدائيين ورفض اي حوار معهم. ويبدو ان اتصالاتها المتكررة وعزوف كرايسكي عن الاستجابة لمطلبها، انتهت بنقاش حاد اتهمت فيه مائير المستشار بخيانة يهوديته. عندئذ رد عليها مؤنباً ومعترفاً بأنه تعرض في حياته للاضطهاد مرتين: مرة على ايدي النازيين… والمرة الاخرى على ايدي النازيين! ومع فوز الدكتور كورت فالدهايم بمنصب الامانة العامة للامم المتحدة استمرت الحملات الاسرائيلية ضد كرايسكي لانه دعم ترشيح ضابط سابق في الجيش النازي. ثم ازدادت حدة الانتقادات يوم نجح فالدهايم في تمرير قرار يصنف اسرائيل دولة عنصرية. وبعد مرور فترة قصيرة على انتهاء مهمته في الامانة العامة، كوفئ فالدهايم من قبل الشعب الذي انتخبه رئيساً للجمهورية. واعربت اسرائيل عن انزعاجها بسحب سفيرها من فيينا، وتشجيع واشنطن على مشاركتها ادانة الرئيس الجديد لانه خدم بصفة ضابط في الجيش النازي في البلقان. ونزولاً عند رغبة الدولة العبرية اصدرت الولاياتالمتحدة قراراً عام 1987 يحظر على الدكتور فالدهايم دخول اراضيها. بعد انسحاب فالدهايم من الحياة السياسية عام 1992، مرت العلاقات الاسرائيلية - النمسوية بفترة انتقالية نشأت خلالها تيارات مهادنة. وساعد نجاح المستشار فرانتسكي في تطوير علاقة مريحة، خصوصاً عندما زار الجامعة العبرية واعلن ان بلاده مسؤولة ايضاً عن المجازر التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. ثم خلفه المستشار فيكتور كليما الذي دعا بنيامين نتانياهو لزيارة فيينا كمدخل لتدشين مرحلة من التسامح وبناء الثقة. واعترف كليما امام نتانياهو بالذنوب التاريخية التي يحملها الشعب النمسوي ازاء صمته على الهولوكست، واكد ان تاريخ الرعب انتهى مع نهاية القرن العشرين. قبل ان ينتهي هذا القرن بشهرين تقريباً شهدت الانتخابات الاخيرة في النمسا ولادة "الحفيد الروحي لهتلر"، حسب الوصف الذي اطلقته عليه الصحف الاسرائيلية. واذا كان "حزب الحرية" بزعامة هايدر قد قفز من نسبة 89.21 في المئة عام 1995 الى نسبة 22.27 في المئة من نسبة اصوات الناخبين، فإن هذا يعني ان تعاطف الشعب مع طروحاته شكل حركة التحول التي اقلقت اسرائيل. اي الحركة المؤسسة لصعود تيار يميني متطرف يطالب بطرد 750 الف مهاجر غالبيتهم من تركيا ويوغوسلافيا. ووصف رئيس المؤتمر اليهودي هذا التحول بأنه "نقيصة اخلاقية للنمسا لان هناك صوتاً واحداً من كل اربعة اصوات انتخب لصالح هايدر العنصري الغوغائي". والذي زاد من مخاوف اسرائيل بهذا الشأن، فشلها في تطويع المجتمع النمسوي، وارغامه على الرزوح تحت وطأة تأنيب الضمير على ضحايا الهولوكست، كما فعلت مع الشعب الالماني الخاضع للابتزاز السياسي والمادي منذ نصف قرن. صحيح ان المجتمعات الاوروبية والغربية عامة بما فيها الولاياتالمتحدة، شهدت مؤخراً فيضاً من الحركات النازية - الفاشية الرافضة لمختلف الوان الحياة السياسية… ولكن الصحيح ايضاً ان "حزب الحرية" النمسوي اصبح شريكاً اساسياً في النظام، ومرشحاً للدخول في اي ائتلاف محتمل. ويحذر رئيس النمسا كليستل من عواقب الآثار الخطيرة المترتبة عن عملية استبعاده، لانه سيحصل على عطف شعبي مضاعف اذا ما اقدم المستشار كليما على حل المجلس واجراء انتخابات جديدة. يعترف السياسيون الاسرائيليون بأن الذاكرة اليهودية مليئة بالثقوب السوداء تجاه الشعب النمسوي - الالماني القادر دائماً على استنباط اسباب العداء للسامية. ومع ان فيينا تحمل في تاريخ اليهودية صفحات مشرقة للعالم سيغموند فرويد، ولمؤسس الصهيونية تيودور هرتزل… الا انها في الوقت ذاته تمثل لكل يهودي بؤرة الكراهية باعتبارها الحاضنة الاولى لادولف هتلر. وعندما كان هرتزل يعلن تأسيس الحركة الصهيونية عام 1895، كان هتلر الطفل 6 سنوات يتطلع للانتقال من قرية صغيرة في النمسا الى اهم عواصم اوروبا في ذلك الحين، اي الى فيينا حيث عاش صباه يبحث عن مستقبل غامض في معاهد الرسم. ومن فيينا سافر الى ميونيخ عام 1913 ليطلق حركة سياسية بدلت وجه اوروبا وكلفت العالم 50 مليون ضحية. وحرصاً على عدم تكرار التجربة النازية تذكّر اسرائيل دائماً بالمجزرة الكبرى التي اقترفتها المانيا، خشية انبعاث حركات عنف مماثلة. وهي تخص بالانتقاد الشعب النمسوي الذي رحب بأدولف هتلر حامياً وموحداً. كما وانها تعبّر عن خشيتها من ظهور احفاد هتلر من امثال يورغ هايدر الممثل الجديد لصرامة المعتقد الايديولوجي. ولكي يبعد المستشار شرودر الظنون والشكوك التي ساورت يهود العالم منذ اعلان برلين عاصمة موحدة لالمانيا، فقد قام بتوجيه دعوة الى ايهود باراك للاشتراك في تدشين انتقال المؤسسات الالمانية من بون الى عاصمة الرايخ الثالث. وجدد معه ترسيخ العلاقات الوثيقة الخاصة بين الدولة العبرية والمانيا، واعداً بأن النازية ماتت الى غير رجعة. وهذا ما اكده الخطباء الذين تباروا في اظهار الحقبة الديموقراطية التي ساعدت على الغاء النازية والشيوعية من عقول الالمان. لكن زعيم "حزب الخضر" ريزو شلوخ حذر في خطابه من تنامي القوى اليمينية بين اوساط الشبان المحبطين والعاطلين عن العمل، ودعا الى اليقظة والحذر لان البلاد تواجه اخطاراً كبرى. وكان بهذا التلميح يشير الى ازدياد نسبة المؤيدين الى "اتحاد الشعب الالماني" الذي يعتبر النسخة الجديدة عن الحركة النازية. ومع ان عنفه موجه الى الاجانب والمهاجرين مثل "حزب الحرية" في النمسا، الا ان طروحاته محاذرة في ربط مبادئها بشعارات هتلر، وان تكن في العمق معارضة لأي حل ديموقراطي. لهذه الاسباب وسواها يرصد المراقبون باهتمام ظاهرة التراجع المتواصل التي مُني بها حزب المستشار شرودر في مختلف المقاطعات، بينما قفزت شعبية "اتحاد الشعب الالماني" اليميني المتطرف الى الواجهة حيث فاز بنسبة 22 في المئة داخل مقاطعتي ساكسونيا وبراندنبورغ. السؤال الكبير المحيّر الذي يرافق نمو الحركات النازية - الفاشية، يتعلق بطبيعة انتشار حركات العنف، وبتوقيت انبعاثها في مجتمعات عديدة كأن هتلر يتكرر في اكثر من زعيم، وكأن دعوته تتجدد في اكثر من مكان. الدكتور الالماني سيغفرد هازي من اكاديمية كنت يعزو اطراد الحركات العنصرية الى مخاوف الشبان من طغيان اعداد المهاجرين الذين يعتبرون المانيا بلد هجرة مثل كندا واستراليا والولاياتالمتحدة. وكما وظف هتلر عام 1930 انهيار "جمهورية فايمر" ليتسلق سلم الازمة الاقتصادية الخانقة، كذلك يفعل قادة "اتحاد الشعب الالماني" الذين استخدموا احصاءات الحكومة لتشجيع الشبان على الانخراط في صفوف حركتهم. وتشير ارقام الاحصاءات الى ارتفاع البطالة في صفوف الشبان الى نسبة 6.17 في المئة. ومع ازدياد عمليات العنف التي تقوم بها في بريطانيا جماعة تسمي نفسها "الذئاب البيض" واخرى "الفرقة 18" نسبة الى اول حرفين من اسم أدولف هتلر في تسلسل احرف الابجدية… باشر تلفزيون "القناة الرابعة" في عرض حلقات عن حياة الزعيم البريطاني الفاشي سير اوزوالد موزلي. والمعروف ان موزلي كان يتزعم "الحزب الجديد" خلال الحرب العالمية الثانية. وهو حزب معاد لليهود لأن اليهود - حسب قوله - معادون لبريطانيا. ولقد انتهى في السجن لانه زار هتلر وقبض اموالاً من موسوليني لتقوية حزبه. والطريف ان اعضاء "الفرقة 18" يرفعون شعاراته، خصوصاً بعدما كتب نجله نكولاس مذكراته ودافع فيها عن مواقفه، مدعياً ان والده اراد انقاذ بريطانيا من التورط في الحرب… وانقاذ البريطانيين من الطغمة الصهيونية التي كانت تتحكم بقرارات الحزبين الرئيسيين. وما يجري في بريطانياوالمانياوالنمسا ينسحب على مدن عديدة، بدءاً من براغ وانتهاء بواشنطن وسان فرانسيسكو. وكما احتفلت حركة "الشعوب الآرية" في الولاياتالمتحدة بالذكرى ال 110 لميلاد الفوهرر… كذلك احتفلت الشهر الماضي جماعة "حليقي الرؤوس" في براغ بذكرى وفاة رودولف هيس الذي مات في الستينات داخل معتقل خاص في برلين. والذي يثير اهتمام المنظمات اليهودية ويدفعها الى اظهار مخاوفها من انتشار موجات اليمين المتطرف، هو صدور اكثر من خمسة وخمسين كتاباً عن هتلر بلغات مختلفة. والملاحظ ان اغلب الكتّاب الذين يؤرخون لتلك الحقبة يرسمون صورة مختلفة عن صورة القائد الشرير الذي يمثل افظع البشاعات في هذا القرن. فالكتاب الذي وضعته بريجيت هامان وعنوانه "فيينا الهتلرية"، يمثل دلالات اجتماعية ومعاني لا تخدم كارهي زعيم النازية. كذلك كتاب الدكتور ادوارد بلوخ الذي روى فيه حكايته مع هتلر يوم كان يشرف على معالجة والدته في فيينا. وبعد وصول هتلر الى الحكم، استدعاه الى برلين وخيّره بين البقاء في فيينا وبين السفر الى الولاياتالمتحدة. ويقول بلوخ انه اختار السفر بعيداً لأن حصانة هتلر قد لا تشفع له اذا عرف النازيون بأنه اليهودي الوحيد الذي سُمح له بأن يكون حراً طليقاً. وكان من الطبيعي ان ينتقد هذا الكتاب بقسوة لان مؤلفه تجرأ وأظهر الجانب الانساني من هتلر، وكتب فصلاً كاملاً عن تأثره وحزنه لوفاة والدته. بعد رجوع ايهود باراك من زيارته لبرلين، كتب له اوري افنيري رسالة في صحيفة "معاريف" يحذره من مخاطر املاء صلح مفروض على العرب شبيه بصلح معاهدة فرساي. تقول الرسالة: "وقعت معاهدة فرساي عام 1919 بين المانيا المهزومة ودول الحلفاء المنتصرة. والقت المعاهدة على المانيا مسؤولية الحرب العالمية الاولى، واقتطعت منها اراضي شاسعة، وفرضت عليها تعويضات ضخمة. ومثل هذا الاملاء المهين وغير العادل، كان الرافعة التي حملت هتلر الى الحكم يوم طالب بمحو اتفاقية العار". ويتساءل افنيري ما اذا كان الاتفاق الذي يفرضه باراك على السلطة الفلسطينية بعد انتزاع 85 في المئة من مساحة الضفة الغربية، سيكون نهاية الصراع التاريخي بين الشعبين، ام ان "اتفاق العار والاذعان" سيولد اكثر من هتلر لتصحيح خطيئة كبرى انزلها الالمان باليهود… ثم كررها الاسرائيليون مع العرب! * كاتب وصحافي لبناني.