لم يكن مقال توماس فريدمان في نيويورك تايمز في أول آب اغسطس الماضي بعنوان "لعبة مصر"، الذي لم يسلم من ردود متنوعة هي في مجملها نقد هائل للمقال ولكاتبه وللتوجهات والمفاهيم التي يتبناها سوى قراءة رديئة من فريدمان لواقع يتغير في الشرق الأوسط، وموازين قوى تعيد حساباتها في داخله ومن حوله، ونظام اقليمي يتداعى وكان الجميع يحسب أنه متماسك. ولم يكن هذا من وجهة أخرى ببعيد عن احتفالات صاخبة بمولد شمس الألفية الثالثة بدأت من نيوزيلندا شرقاً وانتهت في الشاطئ الغربي للولايات المتحدة الاميركية ليلة رأس السنة، وكان أسهب المحللون في تشريح القضايا الألفية سباحة في نهر التنبؤات بما يمكن أن تشهده الأيام المقبلة، ولم يكن للعرب من نصيب في هذا سوى استمرار ذات الحال من التفكك وانعدام الأمل في أي منظومة لعمل عربي مشترك ذي فعالية، ولكن لم تمض أيام قليلة من السنة الجديدة إلا وكان الرئيس المصري حسني مبارك في بيروت ليساند البلد العربي الصغير في مواجهة التهديدات الإسرائيلية وهي زيارة عُدت أكبر من "عودة مصرية" إلى "مائدة الورق" اللبنانية، واعتبرت اندفاعة محسوبة لإعادة التوازن إلى الدور المصري في المنطقة، وربما أيضاً كانت فاتحة لما سيأتي من تحركات مصرية طوال العام الذي يمكن وصفه بپ"عام القمم" العربية وغير العربية سواء تلك التي استضافتها مصر أو شاركت فيها. وإذا كان مبارك استقبل بابا الفاتيكان لأول مرة في القاهرة في شباط فبراير، ثم شاركت مصر بفعالية في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت في آذار مارس، ثم طار مبارك إلى واشنطن في الشهر نفسه ليعقد قمة مع الرئيس الاميركي بيل كلينتون العائد لتوه من قمة فاشلة في جنيف مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، فإن أموراً كثيرة بدأت تكشف عن نفسها، صحيح أن صيغة مبارك - كلينتون باتت عناوين فرعية أعلى بكثير من الأنباء الساخنة طوال العام، إلا أنهما التقىا بعد ذلك مرتين، الأولى في مطار القاهرة في آب، والثانية في شرم الشيخ في تشرين الأول اكتوبر، غُلفت وما زالت بتقدير متبادل، إلا أن لحظة التنوير وهي عادة تسبق حركة إسدال الستار على المسرح كانت مرئية بدرجة يكون معها استمرار النص ذاته على الخشبة مهزلة. فالإدارة الاميركية كما طالعها مبارك في زيارته المهمة تلك إلى واشنطن لم يعد في مقدورها تقديم أكثر من نيات تراها القاهرة - أحياناً - طيبة لعملية السلام في الشرق الأوسط. كما أن باراك الذي يخطط للفرار من الجنوب اللبناني ليس لديه في سلوكه أو شخصيته مقومات تجعله يمضي نحو سلام منصف مع الفلسطينيين، وهي الزيارة نفسها لواشنطن التي قرر خلالها المصريون تفعيل تحركات من داخل المنطقة لإنجاز هذا السلام بأقل قدر من الخسائر. وبعد العودة استضافت مصر في منتجع شرم الشيخ قمة ضمت مبارك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وباراك في آذار، ووسط هذه التحركات استضافت مصر قمتين متتاليتين ربما عدتا معنويتين في إطار المساهمة في العمل على إحياء الرجل الافريقي المريض، الأولى قمة الكوميسا 2000 المؤتمر الاقتصادي الاقليمي الأول للسوق المشتركة لدول شرق وجنوب افريقيا التي شاركت فيها 21 دولة، وذلك في شباط، والثانية قمة افريقيا أوروبا الأولى 51 دولة افريقية و15 دولة أوروبية في نيسان ابريل، كما حاولت القاهرة إحياء "إعلان دمشق" باجتماع تم في الاسبوع الأول من حزيران يونيو وذلك قبل أن تفقد حليفاً استراتيجياً بغياب حافظ الأسد، وكانت القاهرة دافعت قبل ذلك بشهور عن خيار السلام لدى الأسد وكذلك عن صحته وقدرته على إدارة دفة الأمور في بلاده. ثم استضافت القاهرة في 19 حزيران القمة العاشرة لمجموعة ال15 بحضور 17 دولة ووافقت هذه القمة على ضم إيران وكولومبيا، وفي خطوة مفاجئة اتصل مبارك بالرئيس الايراني محمد خاتمي ليهنئه على الانضمام ما حسن كثيراً في العلاقات المتوترة بين البلدين، ودفع إلى السطح توقعات بقرب استئناف العلاقات الديبلوماسية الكاملة بينهما وصلت إلى حد التنبؤ باستئنافها خلال هذه السنة، وهو ما لم يتم حتى الآن، بعدها بدأ صيف الإحباط، فقد دعا كلينتون إلى قمة في كامب ديفيد في تموز يوليو، وفي القاهرة أعلن القبض على رئيس منتدى ابن خلدون للدراسات الإنمائية الحامل للجنسيتين الاميركية والمصرية معاً الدكتور سعد الدين ابراهيم باتهامات متنوعة كان من بينها التجسس وثار حديث عن ضغوط اميركية لإطلاقه. وفي طريقه إلى كامب ديفيد مر عرفات على الاسكندرية للقاء مبارك وفي اليوم التالي اجتمع مبارك مع باراك في القاهرة، وبدأت العاصمة المصرية تتلقى إشارات بحصار عرفات في الكامب عندما وصل التفاوض إلى القدس، وخرجت تصريحات من القاهرة لدعم عرفات والتأكيد على أن قضية القدس لا تخصه وحده ما يمنعه من تقديم تنازلات فيها، وبدأت تحركات مصرية - أردنية ثم طار مبارك الى الطائف وجدة، وهو ما اعتبره فريدمان في مقاله تجييشاً لموقف عربي يحرض عرفات على التزمت، وأن مصر أخذت 30 بليوناً من اميركا ولم تأخذ اميركا مقابلاً، ولكن مبارك واصل تحركه، فالتقى عرفات العائد من كامب ديفيد في الاسكندرية، ثم القذافي في طرابلس، ثم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في الاسكندرية، ثم عرفات مجدداً في الاسكندرية يقال في القاهرة إن عرفات يأتي إلى مصر، أكثر مما يذهب إلى غزة... ثم باراك في الاسكندرية أيضاً، وكل هذه اللقاءات تمت في تسعة أيام بالضبط خلال الفترة من 26 تموز إلى 3 آب، زادت خلالها الحملة الإعلامية المصرية العنيفة ضد فريدمان والولايات المتحدة وكلينتون شخصياً، قبل أن تعود الآلة الإعلامية المصرية لإطرائه بشكل مفاجئ حينما قرر أن يدخل تعديلاً على برنامج جولته الافريقية ويتوقف في مطار القاهرة في 29 آب. وفي أجواء صيف الإحباط هذا بدا إعلان الدولة الفلسطينية في 13 أيلول سبتمبر مستحيلاً. وبدأت مصر تكشف عن اقتراحات وأفكار لحل معضلة القدس التي كشفت عنها قمة كامب ديفيد الثانية من دون جدوى، وعقد مبارك قمماً ثنائية متعددة ومتتالية في الاسكندرية وباريس، لكنه لم يشارك في قمة الألفية في نيويورك في أيلول، إذ ترجم الإحباط السائد عن نفسه بزيارة أرييل شارون لساحة الأقصى في 28 من الشهر، وفي اليوم التالي دان بيان صادر عن رئاسة الجمهورية الانتهاكات الإسرائيلية في القدس، ثم شهدت القاهرة قمة بين مبارك والرئيس السوري الجديد بشار الأسد، وقمة بين مبارك والقذافي في السلوم، ثم دعا مبارك كلاً من عرفات وباراك لقمة في شرم الشيخ في 5 تشرين الأول، وهي التي حضرتها مادلين أولبرايت وغاب عنها باراك، وردت مصر بنداء بالتعجيل بعقد قمة عربية كانت دعت إليها باتفاق مع الأسد مطلع السنة المقبلة، ونشطت ديبلوماسية الهاتف المتسارعة، وتحدد موعد القمة، واشتعل الشارع العربي الذي بدا وكأنه يتقدم السلطات الحاكمة بخطوات. ووسط خطابات شعبية تدعو للمقاطعة والحرب والجهاد أعلنت القاهرة اعتذارها عن استضافة قمة في شرم الشيخ، ووضعت شروطاً خمسة لاستضافتها، وبعد تدخلات وضغوط وافقت مصر مجدداً على استضافة هذه القمة في 16 و17 تشرين الأول والتي بدا جميع أطرافها مأزومين: مبارك تحت ضغط شعبي يتبنى إدعاءات بأن هذه القمة لإجهاض القمة العربية، وكلينتون الذي يبحث عن سبق، وعرفات الذي فلت الشارع منه، وباراك المرتعد من شارون، وكوفي أنان الذي يمثل خجل المنظمة الدولية، وخافيير سولانا وراية الضمير الأوروبي المطوية، والملك عبدالله الثاني، وخرجت القمة ببيان يستهدف وقف العنف الذي لم يتوقف ولجنة تحقيق دولية لم تعمل وأشياء أخرى. ثم عقدت القمة العربية غير العادية والتي وإن كانت لم تعتمد قرار المقاطعة وفضلت دعم الشعب الفلسطيني، ما سبب صدمة لتيارات في الشارع العربي، فإنها ساهمت في إقبال أربع دول عربية هي تونس والمغرب وسلطنة عُمان ثم قطر على إغلاق مكاتبها في إسرائيل، كما امتنع الأردن عن إرسال سفيره، ووضعت للفلسطينيين آلية اقترحها السعوديون لتقديم دعم مالي عربي غاب عنهم منذ حرب الخليج الثانية، كما أسست لأول مرة "مؤسسة" للقمة التي ستعقد دورياًَ، وأعادت الحياة لمنظومة دول الطوق، وإذا كانت مصر أرجأت استدعاء سفيرها في تل أبيب إلى ما بعد القمة الإسلامية التاسعة في الدوحة التي رأس وفد مصر خلالها رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد، فإن الحصاد الأخير للسنة ومن دون تجنب ذكر القمة الأولى للمرأة العربية في القاهرة في تشرين الثاني نوفمبر، كشف عن امكانات أساسية لتفعيل التنسيق العربي، وعن قدرات يمكن أن تبلور فعلاً متجاوزاً للراهن، ووعياً عربياً جديداً.