كان المفروض أن أشارك في النشاط الثقافي الذي صاحب معرض دمشق الدولي للكتاب في دورته الاخيرة. وتضمن ذلك النشاط إلقاء سلسلة من المحاضرات عن الاستشراق يقدمها عدد من الأساتذة والمفكرين السوريين والعرب، ولكن منعني من السفر إلى دمشق بعض الظروف المفاجئة التي تطرأ في اللحظة الأخيرة، وعلى غير توقع. وقد أذهلني - إعجاباً وتقديراً - ما أثاره كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق وهو الكتاب الذي صدر العام 1978 وتمت ترجمته إلى العربية قبل سنوات، فقد ظهر حول الكتاب عدد كبير جداً من الدراسات والمقالات التي يتميز معظمها بالموضوعية والنقد الجاد بينما يكشف البعض الآخر من التحامل أو عدم الفهم للقضايا التي يثيرها الكتاب، مثلما سيطرت على عدد قليل من هذه الكتابات لهجة السخرية من آراء إدوارد سعيد الخاصة بالعلاقة بين الاستشراق والاستعمار واستعلاء الغرب وإخضاعه الشرق للدراسة والتحليل والكتابة من وجهة نظر غربية. وكثير من هذه الأعمال جدير أن يُنقل إلى اللغة العربية مثلما نُقل كتاب إدوارد سعيد نفسه حتى تكتمل الصورة عن الموضوع أمام القارئ العربي، وقد يحب بعض المهتمين بالموضوع الاضطلاع بهذا العبء الواجب القيام به، أو قد تتولاه وزارة الثقافة في سورية بمناسبة اهتمامها الحالي بالموضوع، أو قد ينظر الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر في ذلك ويدرجه ضمن المشروع القومي للترجمة الذي يشرف هو عليه والذي أصدر حتى الآن مجموعة كبيرة من الكتب المترجمة العالية القيمة. والظاهر أن كتاب إدوارد سعيد أثار شجون بعض مثقفي العالم الثالث الذي خضع للاستعمار الغربي وتعرضت ثقافاته الوطنية لهيمنة الثقافة الغربية التي أساءت نقل الثقافات مثلما أسيء فهم تاريخ الشعوب نفسها على أيدي المستشرقين من ناحية والأنثروبولوجيين من الناحية الأخرى. وقد وجد هؤلاء المثقفون في الكتاب تعبيراً صادقاً وصريحاً عن أفكارهم هم أنفسهم حول العلاقات الثقافية والسياسية بين الشرق والغرب، فالأستاذ بارت كانزجي - على سبيل المثال - وهو أستاذ هندي متخصص في تاريخ ما بعد الاستعمار يكتب من واقع تجربته الشخصية مع الكتاب فيقول: "سوف أذكر دائماً قراءة كتاب الاستشراق للمرة الأولى وأنا في كالكوتا. فباعتباري ابناً للصراع الناجح ضد الاستعمار رأيت كتاب الاستشراق يتحدث عن أمور شعرت أنني كنت أعرفها دائما ولكن لم أكن أجد الكلمات التي أعبر بها عن أفكاري بمثل ذلك الوضوح. كان الكتاب - وشأنه في ذلك شأن الكثير من الكتب العظيمة - يبدو وكأنه يثر أمامي وللمرة الأولى، ما كنت أريد دائما أن أقوله". إلا أننا نجد على الجانب الآخر بعض الكتّاب الغربيين الذين يرون أن الكتاب لم يأت بجديد حين يتكلم عن الاستعمار والامبريالية وأنه سبقه إلى ذلك كتّاب ومفكرون وسياسيون وطنيون كثيرون من العالم الثالث من أمثال فرانز فانون ممن أظهروا مساوئ الاستعمار وقسوته بطريقة أقوى وأوفى وبأسلوب أبلغ مما حفل إدوارد سعيد، ولكن مهما اختلفت الآراء حول الكتاب وصاحبه فإنه يبقى ذلك كله أن الكتاب أفلح في أن ينزع عن الاستشراق كثيراً من الأقنعة التي نخفي وراءها الايديولوجيا والامبريالية التي يؤمن بها الغرب وبعض المستشرقين أنفسهم، وهو الأمر الذي سبب قدراً كبيراً من الانزعاج في الأوساط السياسية وبعض الأوساط الأكاديمية في الغرب. وتثير كلمة الاستشراق الآن نفور الكثيرين من المثقفين في العالم العربي والإسلامي نظراً للدور الذي لعبه بعض المستشرقين لخدمة الحركات الاستعمارية ونظراً أيضاً للأحكام الخاطئة والجائرة التي كان يطلقها ذلك البعض عن السلوكيات والاخلاقيات والقيم والمعتقدات السائدة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان العربي والثقافة الإسلامية، وبعض هذه الأحكام صدرت عن الجهل وعدم الإدراك للأبعاد الحقيقية لهذه الثقافة والإخفاق في فهم عناصرها داخل الإطار الاجتماعي العربي الإسلامي العام والنظر إليها بدلا من ذلك من زاوية الحضارة الغربية ومقوماتها الاساسية التي تختلف في كثير من الوجوه عن مقومات الحضارة العربية الاسلامية، ولكن البعض الآخر من تلك الأحكام الجائرة صدر عن سوء القصد والرغبة في اذلال الشعوب العربية والاسلامية من خلال التهوين من شأن معتقداتهم واساءة تفسير نظمهم وعلاقاتهم الاجتماعية أو التوكيد على إبراز الجوانب السلبية في سلوكياتهم بحيث تبدو المجتمعات الاسلامية عموماً كما لو كانت تجمعات شبه بشرية لا تخضع لأية أنماط دقيقة محكمة من القيم الانسانية السامية. وفي كل الأحوال كان المحك الذي يرجع اليه كل هؤلاء المستشرقين على اختلاف فصائلهم هو المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الغربية الحديثة التي تؤمن بفكرة التقدم والنظرة المستقبلية بدلاً من الحنين إلى الماضي كما تدعو إلى اللجوء إلى العقل وحده في معالجة كل أمور الحياة ونبذ الخرافات والغيبيات مثلما تنادي بالليبرالية الاقتصادية وديموقراطية النظم والمؤسسات السياسية، وهذه كلها شروط لا تتوافر بالقدر الكافي على الأقل في المجتمعات العربية الاسلامية والمجتمعات الشرقية عموماً، ومن هنا كانت نظرة الاستعلاء أو التعالي التي وجهت معظم الكتابات الاستشراقية. والنتيجة المنطقية التي تترتب على هذا الموقف الاستعلائي هي الاعتقاد السائد الآن في الغرب والذي وجد طريقه إلى كثير من المثقفين في مجتمعات العالم العربي والاسلامي بأن تقدم المجتمعات العربية الاسلامية لن يتحقق إلا إذا تخلت هذه المجتمعات عن ثقافاتها الوطنية والقومية التي تشدها الى الماضي. وأفلحت في التخلص من أساليب التفكير اللاعقلاني الذي تسيطر عليه الأوهام واعتنقت فلسفة الليبرالية الاقتصادية وآمنت بالديموقراطية السياسية وهذه كلها أمور تحتاج الى جهود جبارة لتغيير هذه المجتمعات تغييراً جذرياً شاملاً، وقد لا تحقق هذه الجهود في آخر الأمر ما تسعى إليه. ولذا فسوف تظل هذه المجتمعات متخلفة دائماً أمام حضارة الغرب الطاغية. ولن يجدي في مواجهة هذه التحديات الاكتفاء بالتغني بأمجاد الماضي وما أحرزه الفكر العربي والفلسفة الإسلامية من نجاح وازدهار في فترة كانت شعوب الغرب تتخبط أثناءها في ظلمات الجهل، كما لن يفيدنا في شيء أن ننكر الغرب بفضل العلم العربي في صنع النهضة الأوروبية التي نشاهد انجازاتها في الحياة الآن، فهذه كلها أمور يعرفها المتخصصون في الغرب ولا تهم الإنسان العادي هناك الذي يؤمن على أية حال بتخلف الشرق وإفلاسه المادي والمعنوي والفكري والاخلاقي واستحالة لحاقه بالحضارة الغربية الراقية التي تمثل - في نظره - المثل الأعلى الذي يجب الاقتداء به والعمل على الاقتراب منه بقدر الامكان. وهذه هي قمة التمركز الغربي حول الذات. إنما الذي يجب أن يهتم به العرب والمسلمون في ما يتعلق بالاستشراق ونظرته الى الثقافة العربية الاسلامية، وتأثر كثير من المثقفين العرب بهذه النظرة، هو البحث عن بديل يُغني عن الخضوع التام لآراء المستشرقين ويكشف عن الأبعاد الحقيقية للثقافة العربية الاسلامية بأسلوب علمي وطريقة منهجية منظمة قائمة على الدراسة العميقة والتحليل المنطقي الموضوعي البعيد عن التحيز والتعصب والتشنج بحيث يتقبلها المفكر العالمي ويستجيب لها ويعيد في ضوئها حساباته وتقديره لهذه الثقافة، وما يرتبط به من نظم اجتماعية واقتصادية وسياسية وأنماط أخلاقية وسلوكية وعلاقات انسانية قد تكون مخالفة عما هو سائد في الغرب ولكنها تستند الى أسس منطقية مقبولة، أي أن لها منطقها الخاص الصادر عن الواقع الذي تعيش فيه والمعبر في الوقت ذاته عن هذا الواقع من دون أن تخرج في آخر الأمر عن القيم الانسانية العليا التي يؤمن بها المجتمع الانساني ككل وإن اختلفت مظاهر التعبير عنها، وفي الوقت ذاته سوف يتطلب العثور على هذا البديل اخضاع الكتابات الاستشراقية للعرض النقدي الحاد بعيداً عن الاعجاب بالذات وبأمجاد الأجداد إلى جانب القيام بدراسات علمية موضوعية للتراث العربي الاسلامي للكشف عن المبادئ الذهنية التي أدت الى انتاجه للاسترشاد بها ما أمكن، ولن يغني هذا كله عن دراسة الواقع العربي الاسلامي من مختلف زواياه وجوانبه لتُعرف نظرة الانسان العربي في نفسه وإلى العالم الذي يعيش فيه والى الآخرين وليس هذا بالأمر الهين، ولكنه في حدود الإمكان ويتطلب تكاتف الجهود مع حسن التنسيق. والغالب أن تؤدي هذه الجهود إلى الوصول إلى موقف نظري أو حتى فلسفة متكاملة عن الإنسان العربي والمجتمع العربي والثقافة العربية الإسلامية فتسهم بدور فاعل في رقي العالم وتساعد في توجيه مسار الحضارة العالمية الحديثة بحيث تعترف بأن الثقافات اللاغربية ثقافات انسانية لها أبعادها العميقة ورموزها. * انثروبولوجي مصري