يستخدم تعبير استشراق ومستشرق لصفة قدحية في الثقافة العربية منذ كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، والصادر باللغة الإنكليزية في العام 1978 عن دار بانثيون في نيويورك، مع أن نقد الاستشراق من الممارسات الثقافية القديمة نوعا ما وقد دشن المثقفون العرب نقد مؤسسات الاستشراق مبكرا، مثلا كان هنالك النقد العقلاني الذي وجهه جمال الدين الأفغاني للفيلسوف الفرنسي آرنست رينان حول تصوره للإسلام، وقد بدا الأفغاني في نقده أكثر عقلانية بكثير من أطروحة الفيلسوف الفرنسي القائمة على أسس لا عقلانية، كما هنالك الجدل المدهش والحجج التنويرية التي قدمها محمد عبده في جداله الشهير مع السياسي والمستشرق الفرنسي هاناتو، وهنالك هجومان كاسحان على مؤسسات الاستشراق، الأول لعمر فاخوري منذ الأربعينيات، وهجوم أنور عبد الملك منذ الستينيات، وربما ردد إدوارد سعيد الكثير من نقد أنور عبد الملك الذي نشره في مجلة ديوجين الفرنسية العدد الثالث في العام 1961 وتحت عنوان الاستشراق في أزمة. وإن كان نقد الاستشراق والبحث فيه كان مقتصرا على المتخصصين وعلى العاملين في الدوائر العلمية والثقافية ذاتها فإن (الاستشراقية) تحولت إلى شتيمة عامية وشعبية لدى الجميع من نقاد إلى كتاب في السياسة، ومن صحفيين إلى أنصاف عاملين في الحقول الإنسانية، ومن الواضح أنها لم تعد مختصة بأولئك الذين يعملون في حقل الدراسات الشرقية من الغربيين، أو أولئك الذي لا يعرفون الشرق ولم يخبروه خبرة عملية، وهم مع ذلك يعملون في الدوائر الغربية كخبراء بشؤون الشرق الأوسط، وباحثين، وضباط عسكريين، وحجاج، وكتاب مذكرات، وكتاب إثارة، إنما أصبحت صفة شاملة حتى للشرقيين ...أي بمعنى أنه يمكنك أن تطلقها على أي كاتب من الكتاب سواء من الشرقيين أو من الغربيين، لا لشيء إلا لأن الكاتب تعرض ولو قليلا بالنقد للمجتمعات العربية أو الإسلامية. في البداية طرح الكاتب المغربي عبد الرحمن الطالبي هذه الصفة على الكتاب العرب الذين يكتبون باللغات الأجنبية، واتهم الكتاب الفرانكوفونيين تحديدا بأنهم نهلوا من مكتبة الاستشراق والتي وفرت لهم معارف وعلوما عن الشرق هجائية لإرضاء الغربيين ولتتوافق مع خلفياتهم الاستشراقية، وقد حابوا مؤسسات معادية للعرب والمسلمين، كما أنهم يتوجهون لقارئ غربي وقد داعبوا غرائزه بذلك، أي بمعنى أن الاستشراق والاستشراقية هنا هي ذائقة تقوم على فكرة الأعاجيب والغرائب والأشياء غير المتوقعة والإكزوتيك والفن الآرابسكي والألوان الجذابة والتي ينتظرها القارئ الغربي المستريح في بلاده. ثم سرعان ما انسحبت هذه الصفة على الكتاب العرب والذين يكتبون باللغة العربية، والذين يتوجهون لقارئ عربي أيضا، وقد نال الكثير منهم هذه الصفة وذلك لأنهم يرسمون في عقولهم وقبل الكتابة ما يداعب مخيلة الغربي، أي بمعنى آخر أنهم يرسمون ما سيكون بعد الترجمة، وما تريده دور النشر الغربية، وما يطلبه القارئ الغربي عن المجتمعات العربية والإسلامية، ولا تصبح هذه الكتابة إلا شكلا من أشكال التلصص، إذ يقدم الكاتب المحلي سلفا ما يريده قارئه الغربي لقاء الترجمة والشهرة وبعض الامتيازات التي يحصل عليها، ولا علاقة لما يكتبه بالواقع، إنما ينهل من المكتبة ذاتها ومن النصوص ذاتها، وهي الشهوانية، والجنسية، والحسية، والاستبداد، وتغييب العقل..وجميع الصور النمطية التي يحملها الغرب عن الشرق. لقد تخصص النقد العلمي للاستشراق في نقطتين هامتين وهما التاريخانية والفيلولوجية، أي بمعنى أن الاستشراق أراد تفسير المجتمعات العربية الإسلامية والشرق بشكل عام عن طريق الحتمية التاريخية، وأراد أن يستدل عن حركة المجتمعات من خلال جمود النصوص، كما أنها تريد أن تقول إن هذه المجتمعات هي مجتمعات جامدة وأبدية ويندر أن تتقدم أو تتغير. في هاتين النقطتين يتوجب من رأيي نقد الاستشراق، أما أن نجعل هذه الصفة القدحية حاجزا عن نقد مجتمعاتنا فهذا الأمر يجب أن يتوقف. إن مهمة الأدب الأساسية هي نقد المجتمعات وبيان ضعفها، وعلى هذا النقد أن يفارق نوعية وشكل النقد الاستشراقي الذي يرسم صورا نمطية وسياسية عن مجتمعاتنا، ولكن لا أهمية للأدب الذي نكتبه دون أن يتطرق إلى مختلف المشاكل الاجتماعية والسياسية والثقافية، فالأدب عمليا هو شكل من أشكال المراجعة، كما أنه يقدم وثيقة تاريخية عن مجتمع ما في زمن معين، وهو يقول ما لا يقوله التاريخ، ذلك أن التاريخ ينشغل على الدوام بحركة القادة والنخب السياسية ومحركي التاريخ، بينما يتطرق الأدب إلى المجتمعات من الداخل، وربما ما سنحتاجه عن مجتمعاتنا في المستقبل هو معرفة حركتها الداخلية لا الخارجية.