قمة القاهرة تبنت موقفاً حكيماً في تجنبها نعي عملية السلام للشرق الأوسط التي بدأت قبل تسع سنوات ورفضت تحميل العرب مسؤولية قتل العملية. قمة الدوحة أخذت علماً بالرد الإسرائيلي على قمة القاهرة الذي تمثل بقرارات لرئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك التعليق الرسمي لعملية السلام والتصعيد على الساحة عسكرياً وعبر سياسة الاغلاق والخنق الاقتصادي. لذلك خلت قراراتها وبياناتها من التمسك بالرعاية الأميركية والروسية لعملية السلام التي انطلقت من مؤتمر مدريد. انتقدت الولاياتالمتحدة ومواقفها، ورفضت الشروط التي تنتقص من الحقوق. حمّلت إسرائيل مسؤولية "تدمير" عملية السلام واعتبرتها ليس فقط "معرقلة" بل "معادية" لها. أكدت على دور لمجلس الأمن، وشددت على "تنفيذ" القرارات التي شكلت مرجعية مؤتمر مدريد بدلاً من اعتبار تلك القرارات "أساساً" للعملية السلمية. هذه التفاصيل، عندما تُضاف إلى ما جرى من بحث بين مختلف اللاعبين على هامش القمة في "مؤتمر دولي"، تفيد بأن هناك إعادة هيكلة للعملية السلمية بما يميزها عن مؤتمر مدريد. فذلك المؤتمر ولّد "عملية السلام للشرق الأوسط" وأعطى الولاياتالمتحدة صلاحية الاستفراد بالعملية السلمية. تعثّر عملية مدريد، واصطدام عملية أوسلو التي انحرفت عن "عملية السلام" بمسار فلسطيني - إسرائيلي منفرد، وانتصار المقاومة اللبنانية على الاحتلال وقرار إسرائيل بالانسحاب الانفرادي من لبنان تقهقراً من دون إطار سياسي... كل هذه العناصر قوّضت منطق التفاوض وقوّت منطق المقاومة وساهمت في انطلاق الانتفاضة. فعملية السلام التي انطلقت من مدريد جاءت لاحتواء الانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية تفرض الآن تصحيح الاعوجاج ووضع هيكلية جديدة ل "مؤتمر مدريد - 2". يوجد رأي بأن عقد "مؤتمر مدريد 2" يتطلب تحديد الأهداف والاتفاق مسبقاً عليها قبل انعقاد المؤتمر مع اتخاذ قرارات سياسية من القادة في البيئتين الاقليمية والدولية، بأن هذه أهداف مُعتمدة. ويرى أصحاب هذا الرأي أن خلاصة الأمر تتمثل في التنفيذ الدقيق للقرارين 242 و338، أي الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود 4 حزيران يونيو من دون انتقاص وعلى المسارين السوري والفلسطيني. ويتمسك هؤلاء بمنطق توفير "المخرج" لإسرائيل، فأمامها إما تحقيق الأمن والتطبيع والثمار الاقتصادية عبر بوابة احياء منطق السلام، وإما تأجيج منطق المقاومة ليس فقط عبر استمرار الانتفاضة ودعمها وإنما أيضاً عبر تحريض الاصولية للنهوض إلى "جهاد" بمختلف أنواعه. يوجد تقاطع سوري - فلسطيني في إطار هذا الرأي، أساسه "الانتظار" إلى أن تعي إسرائيل، بزخم من الرأي العام الإسرائيلي، ان لا خيار إلا مثل ذلك السلام. إذ التقت الآن المطالب السورية والفلسطينية على لغة واحدة هي لغة 4 حزيران يونيو، وعلى مفاهيم مشتركة أخرى بينها، أولاً، ان الاستقرار أو نقيضه ورقة تمتلكها الأطراف العربية عبر الانتفاضة وافرازاتها، وثانياً، "التخرج" من الاستفراد الأميركي بأي عملية سلمية بديلة وتوسيع قاعدة المشاركة فيها لتشمل أوروبا والأمم المتحدة. اتخذت سورية، من جهتها، القرار بأنها لن تحارب، ولن تسمح لإسرائيل بأن تورطها وتجرّها إلى حرب. فإذا اختلقت إسرائيل أزمة في مزارع شبعا، فإن "حزب الله" يردّ عليها وليس سورية. أما الفلسطينيون فهم إما بارعون جداً في لعبة "توزيع الأدوار" وإما أنهم في تشتت وتخبط، شأنهم شأن الإسرائيليين. فالبعض يتكلم بلغة "تصدير الانتفاضة" ليصبح الشارع العربي شريكاً في ثورة الاطاحة بالحكام العرب، ومنطلقه الغضب والبغض والانتقام من بيئته العربية. والبعض يتحدث عن سلاح "الاستفزاز للانهاك" في علاقته بإسرائيل. هناك من يرى الانتفاضة غاية في حد ذاتها لأنه يعتبر حدود 4 حزيران يونيو مجرد محطة. وهناك من ينصح بالكف عن الأوهام وتوظيف الانتفاضة كورقة مهمة في المفاوضات لتقوم دولة فلسطين ويتوقف هدر الدماء. والأسئلة تبقى بأجوبة غامضة: من يمتلك ورقة الشارع الفلسطيني؟ من يستثمرها؟ من يحركها؟ ومن يستفيد منها؟ وهل السلطة الفلسطينية تمتلك زمام السيطرة أو أنها في صراع عليها؟ وماذا إذا لم تتوفر الوحدة الوطنية لتكون القادرة على تحديد مسار الانتفاضة وأهدافها؟ فالمرحلة الانتقالية إلى استئناف العملية بمثل "مؤتمر مدريد - 2" مهمة ببعدها الفلسطيني، كما بضرورة إصلاح العلاقة السورية - الفلسطينية. ليس مهماً أن تكون سورية عارضت الاشادة بالرئيس ياسر عرفات في بيان القمة الإسلامية، بل يمكن النظر إلى تلك المعارضة كاستثمار في "ديموقراطية" القرار الفلسطيني وتوفير الذخيرة للوحدة الفلسطينية. المهم أن يكون هناك تواز في المسارين السوري والفلسطيني كجزء من إعادة هيكلة العملية السلمية. التلازم على المسارين السوري - اللبناني، والتوازي على المسارين السوري - الفلسطيني. بذلك يمكن تعزيز طروحات ومواقف الاثنين. وإذا كان لمؤتمر دولي على نسق "مدريد - 2" أن يُعقد، فإنه يتطلب الاستفادة من تجربة جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة جورج بوش الاب، الذي قد يعود وزيراً للخارجية إذا حُسمت الانتخابات لصالح جورج بوش الابن. فهو وضع تفاصيل اتفاقات مدريد في مفاوضات مكوكية استغرقت تسعة شهور قبل تتويجها في المؤتمر السابق. أما انجاح مثل ذلك المؤتمر، فإنه لا يرتكز بالضرورة إلى تصور الرأي القائل بعدم التنازل عن 4 حزيران يونيو قيد أنملة. فصنع هيكلة جديدة للسلام يتطلب اعطاء هامشاً لمخارج مقبولة للطرف الآخر، أو على الأقل صيغة لانقاذ ماء الوجه لو كانت المعادلة ان طرفاً يمتلك كل الأوراق. وهذا، في الواقع، ليس واضحاً. في هذا المنعطف بالذات، مفيد جداً أن قمة الدوحة بدأت الأخذ بسياسات الرد ووضع الأسس لتصور بعيد المدى. فعلت ذلك في الشأن العربي - الإسرائيلي، كما في الشأن العراقي. ما مكن القمة الإسلامية من إحداث الاختراق في الملف العراقي - الكويتي هما الطرفان العراقي والكويتي أولاً، بمساهمة جذرية من البيئة الخليجية والعربية الأوسع ومن البيئة الإسلامية. فحوى الاختراق هو التشاور والحوار، بتداخل اقليمي - دولي، وعلى أسس عملية قاعدتها قرارات مجلس الأمن. أهدافه تدخل في صميم إعادة ترتيب العلاقات في منطقة الخليج بما يخدم استقرارها. وقطر، بصفتها رئيس القمة الإسلامية، مكلفة ب"التشاور" مع الطرفين "لتوفير الأرضية المناسبة لحل الخلافات بينهما". أولى الخطوات التنفيذية ستتمثل، منطقياً، في ايجاد آلية جديدة بحيث تدعو الطرفين إلى التخاطب عبرها كي يقف كل طرف على مطالب وحساسيات الطرف الآخر، ويشرع إلى خطوات الطمأنة ثم إلى القفزة النوعية. هذا يتطلب حسن الاصغاء كما حسن النية، كما حسن انتقاء الخطاب السياسي. يتطلب المبادرة إلى الاستثمار في المرحلة المقبلة لتمكين الطرف الآخر من التجاوب. والخطوة الأولى متوفرة في ساحة العراق وبالذات في ملف الأسرى والمفقودين الكويتيين. أما الخطاب السياسي، فإنه في بالغ الأهمية لصنع آليات ووضع المفاهيم والتفاهم. بغداد راغبة في استكشاف "ميكانيزم" يشبه "مذكرة التفاهم" على تنفيذ القرار 986 الذي لم توافق عليه، إلى أن حمل عنوان "النفط للغذاء" وأصبح مقبولاً. مجلس الأمن سيدرس كيفية التجاوب عبر العمل على ازالة الغموض ووضع "الآلية" لتنفيذ القرارات. فما بين "آلية" البعد الدولي و"آلية" البعد الاقليمي فرصة نادرة، يجب صيانتها، لتحويل الاختراق إلى قاعدة للبناء على الامكانات، وما بين "إعادة الهيكلة" للخيار السلمي وتوظيف الانتفاصة فيه، نافذة على ترتيب العلاقة السورية - الفلسطينية للاقلاع عن المشادات ووضع الأسس الضرورية للبناء على الامكانات. راغدة درغام - الدوحة