الخطر في تطبيق مبدأ "خذ وطالب" على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من المفاوضات انه يزيد من تقويض الثقة الفائقة الضرورية لعملية سلام صادقة وجدية. فأي اتفاق، جزئي أو مرحلي أو انتقالي، يبقى رهينة الثقة بعملية السلام وبالمشرف الأول على مصيرها، رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي ساهم جذرياً في انحسار الثقة به وبالعملية ذاتها. مشكلة الشاهد الأميركي على الاتفاقات الاسرائيلية - العربية انه يقع، حتى على مستوى الرئيس، في معادلات داخلية سياسية وانتخابية تجعله إما غير قادر أو غير مستعد للمثابرة في فترة تطبيق التعهدات وما يلي مرحلة "خذ وطالب". لذلك، وإذا لم يكن بنيامين نتانياهو قرر صنع التاريخ بالتوصل الى اتفاقية تطلعية مخلصة لأهداف التعايش الاسرائيلي - الفلسطيني، فإن قمة "واي" ليست سوى محطة تخديرية تجميلية لواقع بشع أساسه الخداع ومصيره حقنة مريرة من خيبة أمل أفظع. تكاد نتائج مفاوضات "واي" تكون غير مهمة بما نجحت فيه، وفشلت، ذلك ان ما كشفت عنه في اطار التطلعات الاسرائيلية والفلسطينية يقارب الإقرار باستحالة التعايش بمعناه النقي. وهذا هو التحدي الأكبر للغايات التي اطلقتها عملية السلام في مؤتمر مدريد عام 1991 عندما تصورت وتحمست لنقلة نوعية في العلاقة العربية - الاسرائيلية في اعقاب الاختراق النفسي والعقلي الذي حدث في مؤتمر مدريد. حال اليوم لا رؤيوية فيها ولا ثقة. لا حماسة للتعايش والتأقلم والتطلع الى غدٍ جميل، ولا نقمة على من أطاح أحلام مستقبل سلمي. فالساحة ساحة قتال ومعارك لتحقيق انتصارات صغيرة فيما حرب السلام في تراجع يقارب الهزيمة. الفارق ان الطرف الفلسطيني يدخل المعارك من منطلق الاضطرار لأن خياراته محدودة أو معدومة، فيما الطرف الاسرائيلي يخوضها مستقوياً، أهدافه تصب في خانة استنزاف "الشريك" الضعيف كي تتراكم انتصاراته. الخلل خطير ليس فقط على الفلسطيني الضعيف وانما أيضاً على الاسرائيلي القوي. خطير ليس لأن الراعي الأميركي اكتشف في "واي" ما كان يعرفه ويرفض الاعتراف به عن الفكر الاسرائيلي في عهد بنيامين نتانياهو. فالمشاهد الأميركي لن يتحول الى شاهد فاعل في محاكمة اسرائيل ولن يطالب أو يدعم معاقبتها. ان الخلل خطير لأن حكومة اسرائيل تتصرف وفقاً لتكتيك تحقيق الانتصارات السياسية الضيقة لحزب ورجل حتى وان كانت على حساب استراتيجية المكاسب الحيوية لدولة اسرائيل ومستقبلها. فليس منطقياً ولا عملياً تصور علاقة طبيعية مستقبلية بين الاسرائيليين والفلسطينيين على الأسس التي تمليها القيادة الاسرائيلية اليوم في مفاوضاتها مع الفلسطينيين. ولا مجال على الاطلاق لتصور علاقة صحية في الجيرة الفلسطينية - الاسرائيلية طالما ان الركائز المعتمدة اليوم سيئة التقدير والنيات. فأهم انجاز في عملية السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين كان ولا يزال اقناع بعضهما بعضاً بالرغبة الصادقة في القفز على ماضي العلاقة والتطلع الى غد لا غبن ولا لؤم فيه. وهذا تماماً ما يهدده الطرف الاسرائيلي يومياً وهو يتصرف بغطرسة التسلط والاحتلال. الطرف الفلسطيني يخضع لأنه أوقع نفسه في مخالب عملية أوسلو فلم يعد لديه خيار سوى المضي في ما يراه تراجعاً الى الأمام. فشبر من الأرض أفضل من أميال من الشعارات، في رأي السلطة الفلسطينية. ومكاسب اليوم، حتى بقيود وشروط، أفضل من وضع راهن تمارس السلطة فيه نفوذها العملي على مجرد 3 في المئة من الضفة الغربية. "خذ وطالب" ليس مبدأ فخماً في حسابات السلطة الفلسطينية. انه اضطرار. وعليه، فإن كلفة الأخذ غالية، أما المطالبة فتسجن وراء القضبان. اعتقاد السلطة بأن بقاءها يتطلب حتماً الغاء مقاومة الانتفاضة يشكل خطأ استراتيجياً فادحاً. فهي أوقعت نفسها في فخ تلبية المطالب الاسرائيلية الهادفة الى تحويل المقاومة الفلسطينية للاحتلال الى مصادقة السلطة الفلسطينية على الغاء مبدأ المقاومة. والكلام ليس عن كفاح مسلح أو عن خلاف بين "حماس" والسلطة، انه عن نمط مدروس لتحييد مبدأ المقاومة فيما الاحتلال مستمر وتحييد مقاومة ما تفرضه اسرائيل كأمر واقع في المفاوضات لأنها في موقع القوة. من ناحية أخرى، يوجد افراز طبيعي لسيطرة السلطة الفلسطينية على أكبر قدر ممكن من الأراضي المحتلة بما يجعلها ترى فائدة في معادلة "خذ وطالب". خوفها الكبير ان تؤدي المعادلة الى أخذ الوعود فقط ودفع ثمن التراجع الاسرائيلي عن التنفيذ. رهان السلطة الفلسطينية في قمة "واي" لم يكن على اسرائيل وانما على الولاياتالمتحدة. وفي هذا الرهان مغامرة لأسباب متعددة. فالرئيس بيل كلينتون لم يدخل القمة وهو قوي وانما قرر خوض معركة السلام الاسرائيلي - الفلسطيني وهو في ذروة ضعفه. فالرجل ذاته الذي أمضى أيام "واي" مكرساً جهوده لإنجاح القمة هو الرجل ذاته الذي تفادى التورط في عملية السلام ورفض تبني المواقف الحاسمة وأدى أسلوبه الى المساهمة في تدهور عملية السلام برمتها. وها هو يأتي الآن مكبلاً ليس فقط بالاعتبارات الداخلية والشخصية الناتجة عن مواجهته احتمال محاكمته على تصرفاته الشخصية والرئاسية، وانما مقيداً على صعيد صنع السياسة الخارجية سيما وأنها تمس اسرائيل. فقد دخل بيل كلينتون محادثات "واي" متأخراً في اهتمامه بالشرق الأوسط وضعيفاً في وزنه الرئاسي والسياسي للتأثير بالقدر المطلوب لإحداث اختراق بالمعنى العميق للعملية السلمية. دخلها بالحمل المعهود المتمثل بفريق السفير دنيس روس الذي يمكن له أن يتباهى بانجاز أطول فشل معهود في جهود صنع السلام. دخلها متعاطفاً مع ضعف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وشبه مستسلماً للقوة والغطرسة الاسرائيلية. دخلها خائفاً من الظهور بمظهر الرئيس الأميركي الذي يمارس الضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي، ودخلها مجرداً من شجاعة اعلان رأيه أو مواقف أميركية ضرورية إذا كان في ذهنه أن يكون عادلاً أو أن يؤكد ان عملية السلام حيوية للمصلحة الأميركية الوطنية. أفضل ما خرج به بيل كلينتون من محادثات "واي" هو اطلاله عن كثب على فكر بنيامين نتانياهو ووزير خارجيته ارييل شارون وتعرفه عن قرب على الوسائل الاسرائيلية في التفاوض والتكتيك. هذا مفيد إذا كان بيل كلينتون اتخذ قراراً صادقاً بأن دوره في المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من المفاوضات لن يتوقف في "واي"، وإذا كان في ذهنه حقاً انقاذ سمعته بانجاز في مجال السياسة الخارجية. الجرأة والقيادة والحزم لن تكون صفات عابرة في حال اتخاذ بيل كلينتون مثل هذا القرار. لكن الاعتبارات السياسية الداخلية قد تجعله يعدل عنه. فالكلفة غالية، والحزب الديموقراطي لن يسمح لبيل كلينتون بالمغالاة في رغبته بسيرة تاريخية ذاتية على حساب المستقبل الحزبي، خصوصاً على عتبة انتخابات ومعارك ضارية. ياسر عرفات يغادر "واي" بعناق التعاطف من بيل كلينتون وهو يواجه مخالب نتانياهو - شارون، لكن أميركا لن تأتي لانقاذه في الساحة الفلسطينية - الاسرائيلية. وإذا كان من لاعبين رئيسيين في قمة "واي" فانهما الاسرائيلي ارييل شارون والفلسطيني سالم الصرصور الذي نفذ عملية التفجير في بئر السبع لأن كلاهما أراد افشال مبدأ التنازل وكلاهما تصرف بما أدى الى اعفاء اسرائيل من مسؤولية افشال المحادثات واعطائها في الوقت ذاته ذخيرة للحصول على أكثر مما توقعته أمنياً. الفارق بينهما ان نتانياهو جاء بشارون الى الحكومة والقمة للاحتماء به ووراءه بتنسيق دقيق بين اليمين واليمين المتطرف، فيما رمى الشاب الفلسطيني قنبلتين يدويتين على محطة حافلات في جنوب اسرائيل لقطع الطريق على تنازلات فلسطينية، فأضعف بتوقيته مقاومة عرفات للضغوط الأميركية - الاسرائيلية، وضاعف الاحباط الفلسطيني في وجه العنجهية الاسرائيلية. كل هذا مجرد محطة في رحلة سياسية معقدة. ومحطة "واي" ليست مدهشة رؤيوياً ومصيرياً. انها محطة تجميلية لم تكن خالية من مقاصد سياسية مدروسة من الناحية الاسرائيلية. فهدفها، منذ البداية، كان تأجيل وتحييد واحتواء المواعيد الحاسمة، كموعد 4 أيار مايو تاريخ انتهاء المراحل الانتقالية حسب اتفاقية اوسلو، وهو التاريخ الذي هدد الرئيس الفلسطيني بأنه تاريخ اعلان دولة فلسطينية مستقلة إذا فشلت المفاوضات. فحزب العمل كما حزب ليكود يعارض تنفيذ عرفات تعهده باعلان الدولة، والادارة الأميركية جعلت احباط التعهد هدفاً رئيسياً لها وتعمدت اقناع الرئيس الفلسطيني بمردود الغائه. المقابل المرجو فلسطينياً كان في اصدار مواقف أميركية تقر علناً بمبدأ قيام الدولة الفلسطينية كهدف طبيعي من المفاوضات ودعم قيامها. كان ايضاً في رزمة اتفاقات على تنفيذ المرحلتين الانتقاليتين الثنائية، بما يكفل السيطرة الفلسطينية على حوالي 40 في المئة من أراضي الضفة الغربية، والثالثة بما يفتح الباب على انسحابات اسرائيلية اضافية، الى جانب مواضيع حيوية أخرى مثل التواصل بين المدن، والعبور الآمن بين الضفة الغربية وغزة، وفتح المطارات والموانئ. وهذه كلها تعهدات في اتفاقات سابقة. ما توصلت اليه محادثات "واي" هو الاقتناع بأن الهدف الاسرائيلي هو الاكتفاء بسيطرة السلطة الفلسطينية على أقل من نصف الضفة الغربية، وجعل السيطرة مرهونة بالقضاء على أي مقاومة للمطالبة بالمزيد، وحصر أي دولة فلسطينية مستقبلية في حدود رعاية القضايا الاجتماعية وتجريدها عملياً من ممارسة الاستقلال. والشرط الاسرائيلي الأساسي للموافقة على مثل هذا الهدف البعيد هو "خذ" وانما إياك ان "تطالب" لاحقاً. وحتى اشعار آخر، ليس واضحاً من يستفيد حقاً من "خذ وطالب".