في 1948 كان يوجين يونسكو في السادسة والثلاثين من عمره، وكان قد شاء ان يتلقى دروساً في اللغة الانكليزية ليضيف تلك اللغة الى جعبته اللغوية، هو الروماني الأصل والذي يتقن الفرنسية كواحد من أبنائها، يومها تبدى تعليم الانكليزية له من السخف والبلادة بشكل جعله، ليس فقط ينصرف عن تعلمها، بل ينطلق من ذلك الموقف، ايضاً، ليخترع أسلوباً جديداً في مسرح القرن العشرين. اذ، من تلك اللحظات الغامضة والمربكة التي راح يتلقى فيها العبارات والجمل الانكليزية ليحفظها، ولدت مسرحيته "المغنية الصلعاء" التي أسست، اضافة الى مسرح صمويل بيكيت وآرثر اداموف، لما سمي بعد ذلك ب "مسرح العبث". ولكن، لئن كان عبث بيكيث جدياً وصارماً في علاقته مع الصمت كما مع الوجود، ولئن اتسمت عبثية ارثر اداموف بنوع من النزعة النضالية الايديولوجية - في أعمال صاحبها الكبرى على الأقل - فان عبثية يونسكو تبدت ساخرة ضاحكة فوضوية لا يستقر لها قرار، مثلما هي شخصية صاحبها. يوجين يونسكو، الذي ولد في رومانيا في 1912، وتوفي في فرنسا عام 1994، كان الأكثر طرافة وفوضوية بين كتاب المسرح في القرن العشرين كله. وهو يرى انه، بفوضويته العابثة واستهانته بكل شيء، عرف كيف يساير عصراً بدا كل ما فيه مجنوناً وغير ذي معنى، مما جعله يعتبر مسرحه "خير معبّر عما آل اليه حال رجل القرن العشرين". وفي هذا الاطار لا يفوت يونسكو ان يلفت النظر الى انه اذا كانت الثرثرة التي لا طائل تحتها تشكل العمود الفقري لبعض أهم مسرحياته، فإن نظرة الى ما تقدمه لنا تلفزات هذه الأيام تكفي لتضعنا حقاً في قلب الثرثرة. والثرثرة التي يعنيها يونسكو هنا، هي اللغة التي تشكل عماد خطاب البشر، حيث يتحدث كل واحد كأنه يتحدث بمفرده ويتحول كل حوار ديالوغ الى نوع من المفاجأة مونولوغ المتوازية. ويقول يونسكو: "انني اكتشفت حقيقة مبادلاتنا اللغوية فيما كنت أتابع درس اللغة الانكليزية، حيث بدا لي من الواضح ان ما من جملة وضعت لكي تلتقي حقاً مع جملة اخرى". من صمت بيكيت الى "ثرثرة" يونسكو ثمة مسافة طويلة، ولكن لم يكن من الصدفة ان يكتشف العالم مسرح هذين الاثنين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً. ولكن لئن كان بيكيت قد حقق النجاح والقبول منذ عرض مسرحيته الأولى "في انتظار غودو" فان الفشل كان من نصيب يونسكو يوم عرضت "المغنية الصلعاء" في 1950. في ذلك الزمن الخارج من عبثية الحرب العالمية الثانية "كان جمهور المسرح مستعداً لاستقبال من يحدثه عن فجائعية العالم أكثر مما كان مستعداً لاستقبال من يحدثه عن عبثية العالم المضحكة" حسب تعبير أحد الباحثين. ومع هذا سرعان ما بدأ يونسكو يحقق النجاح، بعد ان بدأ ينكشف الجانب الفجائعي الكامن خلف فوضوية مسرحه وثرثرته. ويونسكو لم يكف عن الكتابة منذ ذلك الحين على الأقل، خالطاً في مسرحه بين ثرثرة اللغة والدلالة الواهية للأشياء: البيض، مثلاً، في مسرحيتين له على الأقل، الكراسي في مسرحية "الكراسي"، اقداح القهوة في "ضحايا الواجب" والأثاث بشكل عام في "المستأجر الجديد"، والفطر في "اميدي، أو كيف تتخلص منها". كل هذه المسرحيات كتبت خلال النصف الأول من الخمسينات، وأسست للمكانة الأساسية التي احتلها يونسكو في تاريخ المسرح الحديث.