إسرائيل تقصف عشرات المواقع في صنعاء    أمير القصيم يرعى الملتقى الأول للعناية بالمكتبات الخاصة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة    أمير حائل يطلع على التقرير السنوي للتجمع الصحي    ارتفاع صادرات السعودية النفطية إلى 5.9 مليون في أكتوبر    «يوروستات»: التضخم يتباطأ في اليورو    الخريف: القطاع الصناعي يواصل نموه في 2025    وزير الدفاع يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الأسترالي    التويجري: طورنا منظومتنا التشريعية في ضوء مبادئنا وأولياتنا الوطنية    عريان.. من تغطّى بإيران    نقابة الفنانين السوريين تعيد المشطوبين    «مباراة ودية» تنتهي بفكرة دورة الخليج بمباركة خالد الفيصل ومحمد آل خليفة    الأهلي يستعيد كيسيه أمام الشباب    القيادة تهنئ أمير قطر ورئيس النيجر    مصادر «عكاظ»: الهلال يحسم تمديد عقد الدوسري يناير القادم    صيني يدعي ارتكابه جرائم لشعوره بالملل    حفل تكريم للزميل رابع سليمان    البلاد تودع الزميل عبدالله سلمان    «الدفاع المدني» يحذر: أمطار رعدية على معظم المناطق حتى السبت    إزالة 16 ألف تعدٍّ بالرياض    مزارع سعودي يستخرج الأسمدة من الديدان    نور الرياض يستقطب أكثر من ثلاثة ملايين زائر    أنشطة ترفيهية    شتاء طنطورة.. أجواء تنبض بالحياة    الأمير الوليد بن طلال يكرم الشقيري لجهوده المتميزة    شراكة رقمية مع أوزبكستان    مطعم يطبخ البرغر بنفس الزيت منذ 100عام    5 أطعمة تمنع تراكم الحديد في الدماغ    آمال جديدة لعلاج مرض الروماتيزم بمؤتمر طبي    الملك عبدالعزيز الموفق (3)    أمام وزير الخارجية.. القناصل المعيّنون حديثاً يؤدون القسم    مركبة ال (72) عامًا بجناح حرس الحدود في (واحة الأمن) .. أول دورية برية ساحلية    عبدالله يضيء منزل سعيد القرني    التقرير الأول للمؤتمر الدولي لسوق العمل: المملكة تتفوق في معالجة تحديات سوق العمل    مناهل العالمية تدشن إنفينيتي QX80 الجديدة كليًا في المملكة العربية السعودية    في روشن الصدارة اتحادية.. نخبة آسيا الصدارة هلالية.. ومقترح تحكيمي    رغم التحديات إدارة الشعلة الجديدة مستمرة للعودة    وزارة الثقافة تُدشّن مهرجان «بين ثقافتين» بأمسية فنية    لكم وليس لي    بين صناع التأثير وصناع التهريج !    ريال مدريد يتوّج بكأس القارات للأندية عبر بوابة باتشوكا المكسيكي    صحة الحديث وحدها لا تكفي!    بغض النظر عن تنظيم كأس العالم!    روسيا تكثف هجماتها في كورسك وزيلينسكي يطالب بدعم عاجل    الإقليم بعد سوريا.. سمك لبن تمر هندي!    «إسرائيل» تتوغل داخل ريف درعا.. ومجلس الأمن يدعو لعملية سياسية    ضغوط الحياة.. عدو خفي أم فرصة للتحوّل؟    غزة تواجه أوامر الإخلاء وسط دعم إسرائيلي للاستيطان    «التضليل الإعلامي» في ورشة بمعرض كتاب جدة    تعليم النماص يحتفي باليوم العالمي للغة العربية ٢٠٢٤    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان "الحفاظ على مقدرات الوطن والمرافق العامة من أهم عوامل تعزيز اللحمة الوطنية"    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    جمعية رتل بنجران تطلق التصفيات الاولية لجائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز    محافظ محايل يلتقي مدير المرور الجديد    الأمير تركي الفيصل يفتتح مبنى كلية الطب بجامعة الفيصل بتكلفة 160 مليون ريال    الدفاع المدني : أمطار رعدية على معظم مناطق السعودية حتى السبت المقبل    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    «العليمي»: السعودية حريصة على تخفيف معاناة الشعب اليمني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرة الى المسرح المعاصر : "أصل القلق"
نشر في الحياة يوم 02 - 06 - 1999

يقدم المسرح الفرنسي انتاجاً يتميز بحيوية مدهشة، إذ لم تكن العروض المسرحية يوماً بمثل هذا القدر من الحيوية والتنوع. علماً أن معظمها يتمتع بنوعية عالية. وتتنافس المسارح، كبيرة أو صغيرة او تابعة لمؤسسة في جذب المشاهدين في إطار مهرجانات أو احتفالات وطنية ومحلية.
لكن التطور الكميّ لا يخلو من شعور بالقلق، فاللافت في اطار هذا السعي الجنوني لتقديم العروض المسرحية بروز أشكال جديدة غيبت الكتابة المسرحية. فمن مسرح الأشياء الى مسرح الصور، ومن مسرح التكنولوجيا العالية الى المسرح المادي، ومن مسرح الشارع الى العروض المسرحية "الشاملة" حيث يختلط المسرح والرقص والسيرك والألعاب البهلوانية، نلاحظ تشتت مفهوم المسرح أو على الأقل تغير مفهوم العرض المسرحي، وتجري الأمور كما لو أن مسرح النص، وهو المحور الأساسي في التقاليد المسرحية الفرنسية، لم يعد يملك الامتياز الفريد لتجسيد العالم اليوم.
وكون المسرح لم يعد مكان العروض الجماعية أدّى الى "انزعاج" أعرب عنه الكتّاب المسرحيون. ويهدد هذا "الانزعاج" مسرحياتهم، وبات موضوع جدل بين "عظمة" اللغة و"عجزها". ويبدو أن هذا "الانزعاج"، يضم رغماً عنه انزعاجاً آخر. لأن المخرجين الذين يعملون لحساب المسرح "الكبير" مع بعض الاستثناءات يتجنبون هذه المسرحيات التي تشكل مصاعب كثيرة لحلبة المسرح. كذلك فإن مدراء المسارح يخافون من تثبيط عزيمة الجمهور عبر مسرحيات "مزعجة"، فيتحاشون برمجتها أو يلجأون الى التقليل منها.
وترتفع الأصوات التي تخلط بين النتائج والأسباب، لتؤكد عدم وجود مؤلفين مسرحيين حقيقيين في فرنسا. ويحلو لبعضهم أن يردد ما قاله ذلك الناقد الفرنسي "بيكيت Bekett ويونسكو Ionesco وجينيه Genet وأداموف Adamov اليوم؟".
من جديد أعود طوعاً، لأتناول المؤلفين الذين افتتحوا هذا الشعور "بالقلق" تجاه الفن المسرحي الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين، متوقفاً قليلاً لأدرس وضع هذا الفن حالياً، قبل الانتقال الى ما نتج عنه في إطار التعبير المسرحي الفرنسي بخاصة، ومن ثمَّ التطورات المسرحية والاجتماعية بشكل عام. واسمح لنفسي بمعالجة هذا الأمر حسب أسئلتي الشخصية وميولي وخبرتي. أي من خلال عشقي للغة المسرحية واكتشافي المسرح باللغة الفرنسية في لبنان، من خلال النص أيضاً - أليس النص هو أفضل ما يتم تصديره؟ - وكمخرج مسرحي لنصوص كتبها مؤلفون معاصرون حصراً، عاش منذ نحو عشرين سنة في فرنسا متتبعاً تطور الحياة المسرحية والاجتماعية.
المقصود هنا استعراض مسار موضوعية الأحداث.
ويمكن تحديد هذا "القلق" في الكتابة المسرحية زمنياً، فهو يعود الى الستينات إذ يشكل تاريخ أيار مايو 1968 نقطة تحول حاسمة. حتى تلك الحقبة كان بإمكان المسرح الفرنسي الافتخار بإنتاج مسرحي يبرر عراقة التقاليد الأدبية ويحافظ على هالته، متجاوزاً الحدود.
بالنسبة الى الأجيال المقبلة، ان "بيكت" و"يونسكو" و"جينيه" وأداموف ولا نذكر إلا هؤلاء المؤلفين وفي الترتيب المختار أعلاه يُعتبرون مراجع مهمة، غير أنهم مراجع غريبة. فهؤلاء المؤلفين هم الذين زعزعوا مقاييس المسرح التقليدي محدثين قطيعة في خطّه الطويل الملتوي.
هؤلاء المسرحيون الذين كانوا أيضاً روائيين وباحثين كشفوا أمرين بديهيين لم يكن في وسع العصر فهمهما آنذاك. الأول هو أن المسرح لا يشكل انحرافاً في الابتكار الأدبي بل هو نوع بحد ذاته. والثاني هو أن الميراث الكلاسيكي لا يتماشى مع "فكر" العالم الغربي في القرن العشرين خصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فالقاعدة الأرسطوطاليسية ذات الوحدات الثلاث التي تعتبر ركن التقاليد المسرحية، انهارت. وكانت قد تزعزعت عند نهاية القرن التاسع عشر، وخلال النصف الأول من القرن العشرين. لنذكر على الأقل الفرد جاري Alfred Jarry في فرنسا مع مسرحية "أوبو ملكاً" Ubu Roi وجورج بوخنر Georges Buchner في المانيا مع مسرحية "فويزيك" Woyzek ولويدجي بيراندللو Luigi Pirandello في ايطاليا مع "ست شخصيات تبحث عن مؤلف".
في هذه المسرحيات، يتوقف الزمان وينفجر المكان أو يتحول الى أرض لا يملكها أحد، وتتحول الحكاية الى حلقة يائسة تراوح مكانها.
أما الشخصيات فتظهر ملتوية، باحثة عن نفسها ولا تملك إلا الكلام لتجنب الفراغ. واللغة التي توازي ذلك أصبحت إما ضعيفة حتى الصمت أو فخمة حتى التهريج، تجسد، في بنيتها، فشل التمثيل. من الآن وصاعداً لا جدوى من أي انتظار فقد أصبحت السماء فارغة حتى اليأس وحُكم على الإنسان هذا الملعون، بالوحدة والوجود الصوريّ. إن مشهد استراغون Estragon وفلاديمير Vladimir المنتظرين عودة غودو Godot الذي لا يأتي أبداً لا يزال يهيمن على المسرح اليوم.
بيكيت ويونسكو وجنيه وأداموف، كل واحد على طريقته، جعلونا ندرك انحطاط العرض التمثيلي، هذه الوسيلة التي بفضلها "استولى الإنسان الغربي على معدات بامتلاك ذاته"، ووفقاً لإتيين ماريست Etienne Marest قدم المسرح الى الإنسان الغربي "بنية أسس عليها نماذج مكّنته من صنع ذاته واتخاذ بعده الفردي حيال الآخرين من خلال وعي أتاح له أن يكون سيد تصرفاته وقدره.
هذا النوع من العرض المسرحي يموت تحت أنظار المشاهدين. لكنَّ هناك أمراً يتسم بالغرابة. على رغم كثافة وخطورة وتعدد هذا المسرح القريب البعيد من الطروحات الوجودية لدى سارتر Sartre وكامو Camus، ليست تلك المتعلقة بمسرحياتهم التي ظلّت تقليدية جداً، لم يجد "المراقبون الأدبيون" لتلك الفترة، حتى ولو كانوا متملّقين، صفة يحددون بها هذا المسرح أفضل من المسرح العبثي L'absurde وما يبدو عبثياً حقاً هو الصاقه بلا تمييز بمؤلفين مختلفين في ما بينهم فهل يمكننا تخيل "بيكيت" و"بينتر" Pinter جنباً الى جنب؟. ربما، كان من المبكر الخروج من تصاميم التسميات الشاملة. بيدَ ان التسمية تعني العزل، والتصنيف يعني الترتيب والتنظيم أي الاستمرار في سنِّ القوانين التي يسلّط المسرح المُسمى مسرح العبث الضوء على عجزها بالذات. ولم يكن هو المسرح الوحيد الذي اتخذ هذا الموقف.
وفيما كان الفن المسرحي الذي يمثل القطيعة يتبلور ويقدم على مسارح صغيرة جداً في الضفة اليسرى اختفت هذه المسارح ما عدا مسرح "هوشيت" Huchette ممر السياح الأكيد، تماماً كبرج إيفل، وهو يقدم منذ خمسين عاماً من دون انقطاع مسرحية "المغنية الصلعاء" ليونسكو، كانت هناك حركة كثيفة تخض الوسط الفني والأدبي.
واكتشفت فرنسا أعمالاً نظرية وممارسات مسرحية تعيد النظر في أصول التمثيل. فتم نشر أعمال "أنطونان أرتو" Antonin Artaud التي كانت سرية، كما تم ترجمة أعمال أدولف أبيا Adolphe Appia و"فزفولود ميرهولد" Vsevolod Meyerhold و"غوردون غريغ" Gordon Graig، وأدخلت جنفيف سيرو Geneviژve Serreau وبرنار دور Bernard Dortالمسرح الملحمي اضافة الى أعمال برتولد بريخت Bertold Brecht. وهناك عملان بين الأعمال النظرية أثّرا كثيراً في المسرح الفرنسي. الأول هو العمل الثوري لبريخت، بمفهومه "للتغريب". أي اتخاذ المؤلف مسافة عن الشخصيات التي يبتكرها، والثاني هو عمل "أرتو" الذي يُعتبر أكثر جذرية ويهاجم بعنف نادر جذور التقليد المسرحي الغربي. وبين التجارب المسرحية البارزة، تعتبر تجربة "جرسي غروتوفسكي" Jersy Grotowski الأكثر صرامة، وهي تعيد بطريقتها الخاصة نظرية "أرتو" حول الجسد العاطفي لدى الممثل وضرورة وجود مسرح ما ورائي. أما التجربة الأكثر ارهاباً وفقاً لما يُقال اليوم فهي تجربة Living theatre، الذي يريد "تفخيخ كل الأنظمة السائدة" حسب قول روبير أبي راشد. وبلغت هذه البلبلة أوجها في أيار 1968 بتحريض الحركة الطالبية، فطالبت الأصوات بإزالة المسرح الرسمي وطالب الLiving theatre نفسه جان فيلار بالاستقالة في خضم مهرجان أفينيون Avignon.
ويعتبر جان فيلار الوجه البارز لحركة بعيدة كل البعد عن تلك التي تكلمنا عليها سابقاً. وهي حركة تنبثق من تطلعات "التحرير" وتحمل مشروعاً كبيراً للتطور الديموقراطي. ما هي هذه الحركة؟
فيلار ممثل ومخرج مهم، لقبه رولان بارت Roland Barthes، "الضمير المدني"، عمل منذ الأربعينات لجعل الثقافة في متناول الشعب. مسرحه خالٍ من أي خدعة ما عدا الإداء، ويذكر بالأعمال الكبيرة الكلاسيكية التي تناولت مواضيع انسانية خالدة: النظام والفوضى والشرعية واغتصاب الحق إلخ. إلاّ أن جان فيلار، مدير المسرح الوطني الشعبي ومؤسس مهرجان أفينيون، ذهب بعيداً بحلمه المتعلق بالمسرح الذي يعتبره خدمة عامة، مصرحاً عام 1953: "الحمد لله، لا يزال هناك بعض الأشخاص يعتبرون المسرح غذاء ضرورياً للحياة تماماً كالخبز والخمر. والى هؤلاء بالذات يتوجه المسرح الوطني الشعبي. فهو قبل أي شيء خدمة عامة تماماً كالماء والغاز والكهرباء... ويتجلى طموحنا إذاً بوضوح: اشراك أكبر عدد ممكن من الناس بالأمور التي كنا نعتقد أنه يجب الاحتفاظ بها للنخبة حتى الآن".
ويندرج مشروع فيلار في سياسة ثقافية انطلقت بُعيد حقبة التحرير وأدت الى الولادة الحقيقية للمسرح الشعبي. وتغذي هذه السياسة الأفكار التحررية المتعلقة بالجبهة الشعبية وبمشاريع الديموقراطية التي برزت في مرحلة المقاومة وهي تستند الى حركة التثقيف الشعبي التي ظهرت إبّان مرحلة التحرير والى الحدس القوي لكبار رجال المسرح خلال فترة ما بين الحربين كفيرمين جيميه Firmin Gemier وجاك كوبو Jaques Copeau ولوي جوفيه Louis Jouvet وشارل دولين Charles Dullen وغاستون باتي Gaston Baty وجورج بيتويف Georgs Pitoeff. وتولت الحكومة منذ ذلك الحين تمويل تأسيس شبكة فرق مسرحية في مناطق ريفية لريّ "الصحراء الثقافية".
وتشير هذه الخطوة الإدارية الى عودة الدولة "الى المسرح"، مواصلة تقليد استمر ثلاثة أجيال افتتحه عصر الملكية وتوقف في أواخر القرن التاسع عشر عندما لم يعد المسرح في وسط المجتمع بل خاص بفئة اجتماعية مرموقة كوسموبوليتيه مهتمة بتثقيف ذاتها، على حدّ قول روبير أبي راشد، والمقصود في هذه الحالة المسرح الترفيهي حيث تزدهر الدراما البورجوازية. ومنذ ذلك الحين تعاظم تدخل الحكومة الفرنسية في المسرح عبر سلسلة من التدابير، منها تأسيس وزارة الشؤون الثقافية واللامركزية المسرحية وبناء بيوت ثقافية إلخ.
لكن الحكومة تسترجع، دائماً وفقاً لروبير أبي راشد "تدريجاً"، ميزات "الأمير" الأساسية في المسرح، لأنه "لا يمكن إحداث أي تجديد في البلد إلا بواسطة تحريض آتٍ من رأس النظام".
وهذا المسرح العام، باستثناءات نادرة، لا يتناول النصوص التي لا تشيد بعظمة الإنسان بل بالعكس يباشر بحثه الوهمي عن مسرح للجميع من خلال الأعمال الكبيرة التي يضمها التراث. ومع ذلك، وبتحريض من حركة المعارضة في أيار 1968، اعتبر هذا المسرح رسمياً وعلى رغم انجاز بعض التطورات لم يتمكن من جذب عامة الشعب.
وغداة 1968 أصبح مركز الجهاز المسرحي الفرنسي أو بالأحرى الأدب المسرحي مكاناً فارغاً، مكان لم يلبث أن احتله المخرجون. رجال ونساء من اليسار أعادوا تشكيل لوحة المسرح عبر ميراث "بريخت" وتطور العلوم الإنسانية كعلم السيمياء وعلم الأناسة والتحليل النفسي، وبدعم من الكتّاب المسرحيين وبالمعنى الألماني: المفكرين. أما هدفهم فيكمن في توعية الوجدان السياسي لدى المشاهد. ومن هنا، انطلقت ورشة واسعة من الابتكار المسرحي حيث كانت صورة المؤلف شبه منفية.
وإذ لجأ مخرجو النص الى الكلاسيكيين فمن أجل "اعادة قراءة" اعمالهم، وبشكل ثانوي من أجل ابراز "ذكاء" الإخراج المعاصر في اطار معالجة هذه الأعمال. وهناك مخرجون آخرون تجنبوا الأعمال المسرحية واستمدوا، من "المادة" النصية الموجودة في الأعمال الأدبية والشعرية أو انطلاقاً من الارتجالات الجماعية. ذلك أن الفرق المسرحية، على مثال فرقة مسرح الشمس لأريان منوشكين Ariane Mnouchkژne، تكاثرت ودوت جملة أنطون فيتاز "يجب صنع مسرح من كل شيء"، وكأنها أمر قاطع.
هذه المسرحيات تشير الى تخلٍّ عن المسرح الفرنسي والغربي مؤكدة انحسار فكرة أساسية للمسرح حيث كل شيء ينطلق من النص، وهناك برهان آخر لهذا الانحسار، وهو النجاح الباهر الذي حققته مسرحيتا "نظر الأصم" لبوب ويلسون Bob Wilson و"الطبقة الميتة" لتادوز كانتور Tadeuz Kantor، إذ اكتشف الفرنسيون المذهولون عبر المسرحية الأولى جمال الصمت على المسرح، وعبر الثانية عالماً مسرحياً يتميز بحيوية مدهشة حيث انتقلت رموز المسرح جميعها الى جسد الممثل، وتفوقت الأساليب المسرحية على لغة المسرح التي فقدت كلياً أهميتها.
كذلك ظهر فن مسرحي جديد، خلال السبعينات فيما كان الإخراج في أوج تألقه. وكما لو كان هذا الفن يدرك تواضعه، لا نقول حقارته، اهتم بالودعاء المسنين، الناس الوضعاء هم موضع اهتمام هذه الكتابة المسرحية، وسُمي هذا التيار "المسرح اليومي". وحالياً هو آخر تيار مسرحي يمكن التعرف اليه من اسمه.
فما هي مقومات هذا التيار؟
العلاقة الجدلية بين العمل والمنزل. كيف يتصل العمل علاقة القمع والكد بالحياة المنزلية؟ كيف تنفذ الطبقة العاملة أوامر البورجوازيين؟ كيف تؤثر الإيديولوجية المسيطرة على اللغة والتصرفات؟"، تلك كانت تعليمات جان بول فنزيل Jean - Paul Wenzel وميشال دوتش Michel Deutch وآخرين، عندما أسسوا فرقتهم للمسرح اليومي. وتختصر "محاور العمل" هذه، مشروع هذا التيار الذي أبصر النور تحت تأثير الواقعية الألمانية الجديدة واربابها رينر ورنر فاسبندر Rainer Werner Fassibinder وفرانز كزافر كرويتز Franx - Xaver Kroetz وبتأثير أقل بيتر هاندكي Peter Handke. يرمي هذا التيار الى معالجة كل ما لم تحفل به النزعة البريختية أي "العلاقة النفسانية للأفراد بالبنية الاجتماعي والحد الأدنى للشخصية، وقد بلغت الحد الأقصى لاغترابها على حد قول جان بيار سارازاك Jean - Pierre Sarrazac.
وسلّط المؤلفون أنظارهم، منذ ذلك الحين، على ادق حركة، مصغين الى أتفه كلمة يتفوه بها هؤلاء الناس "الذين لا صفة لهم"، ليظهروا كيف تدمّر الإيديولوجيا البورجوازية، من الداخل، العمال الكادحين وصغار البورجوازيين، تماماً كما لو كانت كاميرا اليد تصور هذه الحالة. وذكر السينما هنا ليس عرضياً، بل يعود أولاً الى تجزىء المؤلفين للبنية المسرحية فتُقدم المسرحيات مقسَّمة، مجزأة وفق مشاهد قصيرة جداً، متعاقبة، خالية من المنطق الروائي ومبددة أي مفهوم للمكان والزمان والحالة المسرحية. وبما أن المقصود "تحاليل دقيقة جداً" وفقاً لعبارة ميشال فوكو، يسلَّط الضوء على التفاصيل. هذه التفاصيل التي يُستخف بها، مع أنها في غاية الأهمية فلا تراها العين ولا تسمعها الأذن.
لكن هذا الفن لن يدوم طويلاً. فقد افترق المؤسسون بعدما ظهرت نزعة لدى بعض المؤلفين تتسم بنظرة ساخرة الى الوضع الإنساني. وأدى امتهان المُبتذل banal الى طبيعة مفرطة والى افقار للغة ولإداء. وحده ميشال فينافر Michel Vinaver تمكن من تجنب هذين الانحرافين.
وينتمي فينافر الى التيار اليومي بفضل "مسرح المكان الضيق لديه، ويتميز بأسلوب، بدأ في الستينات فالبحث عن الشكل والمضمون يفوق الإطار اليومي الحميم. ففي مسرحيته "ما بعد الحافة" Par-dessus Bord يمزج النبرات اللغوية المختلفة، المستوى العالي والمنخفض، العادي والمأسويّ، يعالج الواقع ولكنه يبقى خارجاً فيكدس معظم نصوصه الخالية من علامات الوقت مقتطعاً ومركباً ومخترقاً.
وعندما ابتكر باتريس شيرو Patrick Chژreau في إطار سوريالي لريشار بدوزي Richard Peduzzi"بعيداً عن هاكوندانج" Loin d'hagondange "فونزيل" Wenzel، شهد عالم المسرح في السبعينات تياراً جديداً يعمل على الملاءمة بين الأسلوب المسرحي والإخراج. ووفقاً "لسرازاك" Sarrazac كان هذا العالم يريد التحرر من "تحديث الماضي" لمصلحة "تأريخ الحاضر". معلناً عودة الكاتب المسرحي الى المسرح.
ولن تكذّب الوقائع هذا الإعلان، فمنذ بداية الثمانينات، يشق عدد من المؤلفين المسرحيين الطريق نحو المسرح العام حيث تسيطر مشهدية الإخراج بطريقة رائعة وغير مبالية. وهذه الفنون المسرحية تزداد أهميتها كونها تنشأ وسط لوحة مسرحية واجتماعية حيث تسيطر الصورة والنجومية والمال. وهو عهد يشجعه وصول "اليساريين" الى الحكم وغياب أي مشروع آخر للمسرح العام باستثناء ترويج الوقائع. وفي هذا الإطار، يُحتفل "بنهاية الإيديولوجيات" بواسطة أضواء الألعاب النارية ويدفن تحت بريقها الوهم المزدوج لتقديم المسرح في خدمة الشعب أو مكان تغيير العالم.
هناك فئة مألوفة هي الآن في صميم هذه المسرحيات الناشئة أبرزها يعود بلا شك الى برنار ماري كولتس Bernard - Marie Koltڈs، تتقدم نحو المسرح في صخب. هذه الفئة مكوّنة من الأقليات والمهاجرين والمحايدين والهامشيين والمجرمين... عدد لا يحصى من الأشخاص، غامضي الانتماء، يحاصرون الكتابة المسرحية ليشوهوها ويفسدوها، ولكنهم ضخوا فيها دماً جديداً.
فمن المهاجر العربي الشاب في مسرحية "اللية تماماً قبل الغابة" وهي أول مسرحية "لكولتس" Koltژs الى التاجر والزبون في مسرحيته "في عزلة حقل القطن" حتى القاتل الرقمي في عمله الأخير "روبرتو زوكو" Roberto Zucco، توفي كولتس عام 1989 وكان يبلغ واحداً وأربعين عاماً، يظهر نوعاً فريداً لشخصية مسرحية بارزة في هذا المسرح. وعلى رغم بعض "التلوث" لا يمكن نسب تلك الشخصيات الى هوية معينة أو وضع اجتماعي لتميزها. فليس هناك إلا بحث نفساني أو دراماتيكي للشخصيات، أما تحليل الحالة المسرحية فأكثر تقلصاً وفي روبرتو زوكو مثلاً لا تظهر أي دوافع لارتكاب الجرائم. بل تظهر الشخصية بلا اسم، بلا ميزة، بلا هوية وبمعنى آخر بلا لغة. وحتى اللغة التي تتكلم بها ليست ملكها. ولغة "كولتس" الشاعرية والأدبية والمفحمة والعظيمة تظهر شبه متطابقة من مسرحية الى أخرى، ومن شخصية الى أخرى، تُبعد الشخص المُتكلم عن ذاته. فمن الذي يتكلم؟ أهو أيضاً شخصية؟ إلاّ أن تلك الشخصية أو غيرها تخاطب نفسها طوال العرض الفردي مونولوغ يقطعه مونولوغ الشخصية المقابلة عندما تكون موجودة، كما لو كانت الواحدة هي الأخرى، وكما لو كانت رغبة الواحدة تختلط برغبة الأخرى. وكما لو كانت رغبة الواحدة تُولِّد شرعية الأخرى.
وفي هذا النوع من فن المسرح، وفي سياق نزعة "جينيه" Genet، تتولى الكلمة مسؤولية العمل المسرحي والشخصيات. وتضمهم الى جهاز يضعهم في ليل المسرح. وبعد ذلك يسيطر الصمت ولا يقال شيء. فيأتي الموت كالإنجاز الوحيد، ويغيب الحل.
واللغة بصفتها موضوع المسرح - حيث يمتحن الموضوع ذاته ألم تكن هذه حالة شيكسبير وراسين... تُعتبر ميزة الفنون المسرحية الجديدة التي بزغت خلال الأعوام الأخيرة. وأصبحت منذ ذلك الحين لغة تفعل ولم تعد فعلاً يتكلم. "لم يعد الكلام مدرجاً في تصوّر العالم بل أصبح تصور العالم مستنداً الى الكلام، كلام خاص يحوك عالماً غير موجود إلا من خلاله، أكثر منه كلام نابع من عالم موجود مسبقاً وعادي" على حدّ قول جيرار لبينوا Gژrard Lژpinois في مقالة عن "فالير نوفارينا" Valڈre Novarina ونوفارينا هو مؤلف "لحم الإنسان"، يوغل بعيداً في معالجة اللغة فإذا به يعنّفها ويهينها ويفخِّمها في تلاحم جسدي مدوّخ يؤدي الى تكثيف دراميّ شبه تام. ويبدو أن هذا الغوص في جحيم اللغة من خلال الأداء الفردي المونولوغ يتغذى من "دوافع الكتابة" التي ذكرها فرانسيس بونج Francis Ponge: "المنفذ واحد، المتكلم ضد الكلام".
وتنضم نويل رونود Noelle Renande وفيليب مينيانا Philippe Minayana وأوجين دوريف Eugڈne Durif الى المؤلفين المعاصرين الذين يحرجون اللغة ويسدون الدروب في وجهها، وعلى طريقتهم وبحسّ دعابة تبرز نويل رونود التي أكملت الجزء الثالث من روايتها المسرحية "يا سولانج، كيف أكتب لك عن مصيبتي، ألكس رو". وهي مجموعة عجيبة من الجمل والأجوبة والأفكار تتعاقب الواحدة تلو الأخرى ينطق بها آلاف الشخصيات. ويذكر أن هذا الاستكشاف اللغوي يتوجه الى ممثل واحد.
ولكن أيّ ممثل وأي ممثلة يؤديان هذا الدور؟ إن هذا الوجه الغامض وهذا الوحش الإنساني الذي يمثل النوع الثالث من الفن المسرحي الجديد، يعكس في المكان والزمان شخصية هي في آن، المتكلم والممثل ونسخة ممسوخة للمهرج الميتافيزيقي في مسرحيات بيكيت Beckett.
إذا راقبنا شيرو Chژrau وباسكال غريغوري Pascal Greggory يؤديان مسرح كولتيس أو أندريه ماكرون Andrژ Macron يؤدي "نوفارينا" Novarina أو "كريستوف بو" Christophe Beau يؤدي "رونود". وإذا عاينا ثقل الإداء التي تتطلبه هذه اللغة وتعتقه معاً، فلا نشك في قدرتها على إنتاج الأداء. ولكن أداء يلجأ الى مصادر تختلف عن المقاييس التقليدية. ويمكننا القول أن الأداء يرتكز الى الوجود الجسدي للمثل وحده.
ويعتبر عدد من المؤلفين المذكورين أنهم يكتبون مباشرة للممثلين. كما أن معظمهم مخرجون أو يحيون محترفات المسارح. وتكاثر عدد المؤلفين والمخرجين خلال الأعوام الأخيرة كإكزافيه دورنجر Xavier Durringer وأوليفيه بي olivier Py وانزو كورمان Enzo Cormann. كما لو ان الكتابة المسرحية أصبحت ميزة مسرحية. اذ ننتقل بسهولة من الكتابة الى الإخراج مروراً بإحياء محترفات المسارح والمواجهات مع الجمهور.
ويجب ألا تنسينا هذه الفنون المسرحية وجود غيرها التي تعمل وفقاً للأشكال التقليدية نسبياً. ويؤكد هذا الأمر نجاح مسرحيات كمسرحية "فن" لياسمينا رضا Yasmina Rژza و"الزائر" لإيريك إمانويل شميث Eric Emmanuel Schmidt و"ما يحدث وما ننتظر" لجان ماري بيسي Jean-Marie Besset التي قدمت في المسارح الخاصة. فمن المسرح البارع الى المسرح الحساس أو الذكي الذي يقع في منتصف الطريق بين جان أنوي Jean Anouilh المسرح الأنكلو سكسوني الذي لا يضايق الجمهور محتفظاً "بروح مرحة" في مجتمع يعاني من أزمة التغير.
نتساءل: هل ما زال التعارض قائماً بين المسرح الخاص والمسرح الشعبي؟ وهل بدأ المسرح العام يقترب من المنطق التجاري للمسرح الخاص بعد وقوعه في شراك مجتمع مقسم بين "قانون السوق" والحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، كما يساهم كثيراً في نشر "الروح المرحة" ويغرق الى حدّ ما في خمول هادىء.
ويرتكز الجدل الكبير الحالي المتعلق بالمهنة باتت عاجزة على ضرورة اعادة تحديد مفهوم المسرح كأحد المرافق العامة، وهذه مسألة خيار اجتماعي وليست مسألة ابداع. وهنا يكمن "القلق" المسرحي الفرنسي المعاصر.
* مخرج مسرحي فرنسي من اصل لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.