عندما يتناول بعض السياسيين والمعلقين "العرب" بالعربية مسألة حال الجاليات الفلسطينية، القانونية والحقوقية، في البلدان العربية المضيفة، يتوسلون على الأغلب بكلمات ومفهومات تخلط وجوهاً متباينة ومختلفة في وجه واحد. فالتوطين، والكلمة هي الأثيرة والأكثر استعمالاً في هذا المعرض، تؤدي معاني كثيرة ولا تؤدي معنى واحداً مفهوماً وواضحاً. فهي قد تعني الإقامة الثابتة ب"موطن" واحد، وموضع واحد، من غير أن تترتب على الإقامة حقوق مدنية في التملك، والتنقل، والرعاية أو سياسية في التمثيل والمحاسبة والإدارة والجندية مكافئة لحقوق المواطنين - أو مع ترتب هذه الحقوق أو بعضها، في موازاة هوية مرجعية أولى، أو من غيرها. والكلمة قد تعني الإقرار للجاليات الفلسطينية بحال المهاجرين هجرة طويلة إلى مَهاجر أجنبية، مع التعويل على دمج متدرج في المجتمع الوطني، ابتداءً بالمجتمعات المحلية والبلدية وانتهاءً بالهيئات السياسية الوطنية - أو من غير تعويل على مثل هذا الدمج. وفي الأثناء يحمل أفراد هذه الجاليات على انتساب وطني مرجعي، أو لا يحملون. وقد يعني التوطين السعي الصريح في دمج سياسي ووطني تام في الدول المضيفة، من غير خيار آخر، ولا مراحل، ولا تعلقٍ بمرجع سابق دائم. وعلى الأغلب يقصد الكلامُ على التوطين المعنى الأخير، أي الدمج الذي يقطع كل رابطة أو علاقة بين أفراد الجاليات وبين جماعتهم الوطنية والتاريخية الأولى، ثم بينهم، أفراداً وجماعات، وبين الدولة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية، الناشئتين لا محالة عن الاتفاقات الفلسطينية والإسرائيلية الماضية والمتوقعة. وعلى معنى الدمج التام في الدول المضيفة والقاطع من الجماعة التاريخية ودولتها، ليس البت في التوطين متعلقاً بطرف واحد، دولي أو إسرائيلي أو فلسطيني الدولة والسلطة المفاوضة، أو مضيف أو مقيم. فالبت في هذه المسألة إنما يعود إلى خمسة أطراف، على التقليل. وبين هذه الأطراف طرفان، هما الطرف الدولي، السياسي والحقوقي، والطرف المقيم، أي أفراد الجاليات، من المحال ضبطهما بأطر سياسية وذرائعية موحدة، أو داخل مثل هذه الأطر، ولو غلب الحسم السياسي، وغلبت موازين القوى، لبعض الوقت. ففي وسع أفراد من الجاليات الفلسطينية التقاضي أمام هيئات دولية، سياسية أو حقوقية، مهما تقادم الزمن على القرارات السياسية والاتفاقات. وجواز مثل هذه المقاضاة، إلى كثرة الأطراف الضالعة في المفاوضة، وفي صوغ القرارات، يجعل من التوطين، على معنى الدمج التام والقاطع، مسألة شائكة ومعضلة. فيصعب، على هذا، الانتهاء إلى سياسة عملية ملزمة وعامة، ما لم يسبق هذه السياسة إجماع فعلي ومقنِع. وقد يكون مفيداً وناجحاً تسمية المسميات بالأسماء المناسبة عوض تقنيع المسميات بأسماء يُقصد بها التهويل والإيحاء والتعمية. وهذا لا يصح في لبنان وحده. وهو لا يصح في لبنان إذا لم يصح في غيره، على خلاف ظن يغلب على لبنانيين، وعلى غير لبنانيين نافذين في مصائر اللبنانيين. فدمج الجاليات الفلسطينية، جماعاتٍ وليس أفراداً، في الدول الوطنية العربية والمشرقية، إنما هو مثار جدل وخلافٍ في ضربين من الدول: دول الخليج والدولة اللبنانية. وأما في سواهما فلا يلقى الدمج إعراضاً إلا من قبل أصحاب الشأن، أي الفلسطينيين. وهذا مدعاة تأمل، على قول المتفذلكين. فحيث قد توفر المجتمعات والدول المضيفة للجاليات الفلسطينية أسباب الإقبال على التوطن السياسي والاجتماعي، تثور معوقات العدد وموازين النفوذ والمراتب والدخول والريوع على أنواعها، وتحول دون معالجة التوطن بروية، وتُلبس هذه المعوقات لباس "التمسك بحق العودة". أما حيث استتب الأمر لسلطات صارمة، ولغلبة لا مقاسمة فيها - وهو استتب على هذا النحو في بلدان كثيرة السكان، على خلاف الضرب الأول من الدول -، فلا يجد الفلسطينيون دواعي، سياسية أو اجتماعية، تدعوهم إلى التوطن وترغبهم فيه. وفي كلا الضربين من الدول تنوء علاقة الجاليات الفلسطينية بالدول والمجتمعات المضيفة، بثقل إرث مرير ومعقد. فالدول المستقرة، الصارمة السلطة والكثيرة السكان، وهي المواطن التي لا ترغب الجاليات الفلسطينية في توطنها السياسي ولا الاجتماعي، هي الدول التي سبق لها أن استعملت المنظمات السياسية الفلسطينية، المسلحة في الشطر الأخير من تاريخها، في أغراضها وسياساتها هي، وقسرت الفلسطينيين على موالاتها والامتثال لها. وحصل مثل هذا الاستعمال في الضرب الثاني من الدول، حيث السكان قليلون، والموارد نسبياً كثيرة، والموازين دقيقة. واتخذ الاستعمال صورة التهديد، والتأليب، والانحياز إلى "سياسة" على "سياسة"، والى "أهل" على "أهل". والسياسات العربية التي وسعها التصرف بشطر من الفلسطينيين، على النحو الذي مر للتو وصفه، هي التي تسلط تهمة الدعوة إلى التوطن، والرضا بالتوطين - على معنى الدمج التام والقاطع - على السياسة الفلسطينية. وهي تؤلب شطراً من الفلسطينيين على شطر آخر، وعلى السلطة الفلسطينية في المرتبة الأولى. وتحول التهمة، ويحول التأليب، دون تناول المسألة الشائكة على وجوهها الكثيرة والمركبة. ولبنان، مرة أخرى، مسرح إعمال التهمة والتأليب في "معالجة" يقصد بها أولاً، وربماً أخيراً، إحراج سياسة عربية مخالفة، وإحراز النصر عليها، فوق ما يقصد بها تحصيل الحقوق وصونها. فالسياسة التي رعت جعل الفلسطينيين في لبنان "مسلمين" مسلحين ومنحازين إلى أمثالهم وأشباههم، وبعثت شطراً منهم على "غزو" لبنان، وخَلَفَتهم على "حكم" الدولة، وكان تجنيس نحو ستين ألف فلسطيني في 1993 من بواكير "تعريب" الكيان ورده إلى هويته الأصيلة - هذه السياسة عينها تنصب نفسها حامياً للبنان من توطين الفلسطينيين فيه، وحامياً للفلسطينيين من توطنهم. وهي تقايض "حمايتها" لبنان من التوطين وصايةً ساحقة عليه، واستتباعاً متعاظماًَ" وتقايض "حمايتها" الفلسطينيين ولاءَ خصوم السلطة الفلسطينية ومعارضيها، لها هي، وإضعافاً لشرعية السلطة وتمثيلها مواطنيها. ووجها المقايضة ينتقصان من الوطنية اللبنانية، ومن الوطنية الفلسطينية، ويجعلان من الأحوال القانونية والحقوقية والسياسية للجاليات الفلسطينية في الدول المضيفة، مسألة تعصى المعالجة بغير القسر والتعسف، ويساق اليها الفلسطينيون سوقاً. ويسع اللبناني، على سبيل المثل، تصور أحوالٍ للفلسطينيين، بعدد اختياراتهم، في لبنان متماسك ولا يتنازعه إرث الحروب الملبننة وإرث تعريبه القسري - والارثان يكادان يكونان واحداً. فلا يخرج الفلسطينيون على السابقة الأرمنية، ويجمعون، إذا شاؤوا، بين هويتين، أو بين مزاجي هوية مركبة، أو يقدمون الوجه المدني على الوجه السياسي، والوجه السياسي المحلي والبلدي على الوجه الوطني. ولا يطرحون من الاحتساب والاختيار حقوق الأفراد، أو "الإنسان"، في هذا كله. وفوق هذا كله يجري تناول المسألة المركبة على ما يليق بها من التركيب. أما تركها نهباً للعداوات، والنفخ في عداواتها الكامنة والظاهرة، فلا يُورثان إلا الثارات الأهلية وإخمادها بالقوة، على سنن سياسية اوصلت المجتمعات العربية الى ما هي عليه من الانحلال والضعف. * كاتب لبناني.