خلال الشهر الحالي، عبرت مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية الاميركية، عن احترامها لإيهود باراك بتأجليها زيارتها للشرق الأوسط. وعندما تنفذ أولبرايت هذه الزيارة سيتاح لها، مرة أخرى، التعبير عن احترامها لرئيس الحكومة الاسرائيلية عبر الإلحاح على الحكومات العربية بالتجاوب مع موقفه من موضوع توطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيها. بل يمكن النظر الى موقف من هذا النوع على أنه تعبير عن الدور الجديد الموكل الى الإدارة الاميركية في عملية السلام، أي "مسهل" للعملية بعدما كان راعياً لها ثم سمساراً نزيهاً بين أطرافها. ان تسهيل تطبيق الاتفاقات بين الفلسطينيين والاسرائيليين يقتضي، من وجهة نظر اسرائيلية، الاتفاق على قضية التوطين. فتطبيق الاتفاقات يفضي الى ولادة الكيان الفلسطيني المستقل، وبحكم هذه الاستقلالية فإنه يحق للسلطات الشرعية فيه ان تقرر، من حيث المبدأ، نمط العلاقة بينه وبين فلسطينيي الشتات. وموقف الاسرائيليين من هذه المسألة أعلن في مناسبات متنوعة. أنهم لا يعارضون عودة الفلسطينيين الى أراضيهم في اسرائيل فحسب، ولكنهم يعارضون حتى انتقالهم الى أراضي الكيان الفلسطيني الموعود. ان عودة فلسطينيي الشتات أو اعداد وافرة منهم الى الضفة الغربية وغزة، في ظل ادارة فلسطينية ستتحول الى "برميل بارود وسط اسرائيل" كما قال رئيس اسرائيل السابق حاييم هيرتسوغ. حماية لاسرائيل من هذا الخطر يرى الاسرائيليون انه ينبغي العمل على توطين الفلسطينيين في البلاد التي يعيشون فيها حالياً، مع العمل السريع على إنهاء وضعهم الراهن كلاجئين بما في ذلك انهاء خدمات منظمة "الاونروا" التابعة للامم المتحدة، ووضع كل الموارد المالية والبشرية المتوفرة لها في خدمة مشروع التوطين ولدمجهم بصورة نهائية في الدول التي يقطنونها. وما لم يضمن الاسرائيليون تنفيذ هذه الخطوات، أي ما لم يضمنوا موافقة السلطة الفلسطينية والحكومات العربية المعنية المسبقة على التوطين، فإنه من الصعب على حكومة باراك المضي في عملية السلام الى آخر الشوط. من هنا فإن تسهيل عملية السلام في العرف الاسرائيلي وفي عرف السيدة اولبرايت التي تحترم رغبات باراك، يعني الحصول سلفاً على موافقة عربية على التوطين. وهذا ما يتوقع ان تسعى وزيرة الخارجية الاميركية الى ضمانه خلال جولتها الشرق أوسطية المقبلة. قد لا يكون التوطين مشكلة للدول العربية باستثناء لبنان. فالتوطين حاصل عملياً في الأردن وفي سورية والعراق، حيث يشكل اللاجئون الفلسطينيون نسبة محدودة من مجموع السكان، لا يؤثر التوطين تأثيراً كبيراً في البلدين. اما في لبنان فالوضع مختلف، لذلك فإن التسليم بالتوطين قد لا يكون أمراً سهلاً. هذا ما تؤكده القمة الروحية اللبنانية التي ترمي الى إحباط مشروع التوطين، وهذا ما تؤكده ايضاً الاصداء الإيجابية التي صدرت عن الجماعات اللبنانية المختلفة رداً على دعوة رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون لعقد مؤتمر وطني "يتصدى للتوطين". إلا ان التصدي للتوطين، وفي ظل الأوضاع الدولية والاقليمية الراهنة، قد لا يكون هو ايضاً أمراً سهلاً، كما سيظهر خلال زيارة وزيرة الخارجية الاميركية. هذا لا يعني البتة ان يتخلى لبنان أو غيره عن موقفه المحق من مسألة التوطين. انه يعني ضرورة التفتيش عن المقترب الأفضل للتعاطي مع هذه القضية. يمكن تلخيص أسباب معارضة التوطين في لبنان بأربعة رئيسية: الأول، ديموغرافي يتصل بهوية اللبنانيين وبالتوازن القائم بين عوائلهم الدينية، وقد أشار اليه نائب ووزير لبناني سابق، اذ قال: "ان واقع توطين الفلسطينيين هو هذا الحشد السكاني على رقعة لبنان الجغرافية الضيقة. وتضخم السكان ... يقصد منه تذويب اللبنانيين في كرة سكانية غريبة متعددة الهويات والاثنيات وفي نهاية المطاف تجعل من جميع اللبنانيين أقلية في مجتمع غريب عن تراثه وعاداته وتاريخه". السبب الثاني لمعارضة التوطين يشدد على الاعتبارات الاقتصادية باعتبار ان لبنان بلد صغير محدود الطاقات والامكانات، فلا قدرة له على استيعاب اللاجئين الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم قرابة 13 في المئة من مجموع سكانه. واذا كان لبنان استطاع في الماضي استيعاب هؤلاء والإفادة من طاقاتهم، فإنه في الوضع الراهن، وبعد الخراب الذي ألحقته به الحرب، لم يعد قادراً على الاستمرار في تحمل أعباء اللجوء، واستطراداً فإنه غير قادر على تحمل اعباء التوطين. السبب الثالث الذي يقدم في معرض رفض التوطين تاريخي وسياسي. الذين يشددون على هذا السبب يربطون بين الوجود الفلسطيني في لبنان وبين الحروب التي جرت على أراضيه، ويعتبرون ان "... لبنان دفع في سبيل قضية فلسطين الغالي والنفيس" وان ما دفعه "أكثر بكثير من كل الدول العربية" كما جاء في تصريح لرئيس جمهورية لبناني سابق الى الاذاعة البريطانية. استطراداً لم يعد من مجال لمطالبة لبنان بمزيد من الدفع عن طريق التوطين أو غيره. ولم يعد من مجال لتعريضه للمزيد من التجارب السياسية القاسية المرتبطة بالوجود الفلسطيني في لبنان. السبب الرابع الذي يقدم في سياق تحديد الموقف من مسألة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يرتكز الى اعتبارات عربية وانسانية. وقد وضع رئيس الجمهورية اللبناني السابق سليمان فرنجية هذه القضية في اطارها الأعم عندما ألقى عام 1974 كلمة باسم المجموعة العربية في هيئة الاممالمتحدة جاء فيها "عندما وقف لبنان الى جانب الشعب الفلسطيني المشرد من أرضه وموطنه، انما فعل بدافع اسمى دوافع العقل ودوافع الأخوة العربية والتضامن الانساني". ان بعض هذه الأسباب قد يكون مناسباً لشحذ همم فرقاء من اللبنانيين، ولكنه في نهاية المطاف، قد لا يكون مناسباً لتعبئة اوسع الطاقات اللبنانية والعربية والدولية ضد هذا المشروع اذا كان معارضو التوطين يأملون في توفير عوامل ملائمة لتعزيز حملتهم. ان معارضة التوطين من منطلق ديموغرافي قد تلقى أصداء قوية بين المتضررين من تنفيذ هذا المشروع، ولكن ماذا عن المستفيدين - ديموغرافياً - منه؟ ألا يخشى المعارضون "الديموغرافيون" للتوطين، ان يتحول بعض المستفيدين الديموغرافيين منه الى الموافقة الضمنية على مثل هذا المشروع حتى ولو قالوا من حين الى آخر ومن باب المسايرة، انهم ضده؟ أما عن معارضي التوطين استناداً الى تجارب لبنانية مرة مع الوجود الفلسطيني في لبنان، فإن منطقهم يحرم الحملة ضد التوطين من سند رئيسي لها يتمثل في الفلسطينيين انفسهم. فليس من السهل على هؤلاء ان يلقوا بثقلهم من أجل انجاح حملة تنطلق من إلقاء الشبهات عليهم وتعتبر ان الخلاص منهم يحرر لبنان من عنصر تأزيم ومن "ضيف غير مرغوب فيه". فضلاً عن ذلك فإن التشديد على مخاطر الوجود الفلسطيني في لبنان، خاصة بالمقارنة مع محدودية الطاقة الاستيعابية للبنان، يؤديان الى صب المياه في الطواحين الاسرائيلية اذ عندها يستطيع الاسرائيليون ومؤيدوهم الدوليون الاستناد الى هذا المنطق نفسه لمعارضة عودة اللاجئين الى أراضيهم، بل حتى الى الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية، علماً بأن الطاقة الاستيعابية للضفة الغربية وغزة أقل من الطاقة الاستيعابية للبنان، وانه ما من سبب يحول دون بروز تيارات سياسية وراديكالية بينهم تشبه تلك التي انتشرت بين فلسطينييلبنان، وهو ما يعتبره الاسرائيليون سلفاً سبباً لمعارضة عودته الى الضفة والقطاع. علاوة على ذلك، فإن معارضة التوطين من هذه المنطلقات وحدها لا تكفل بالضرورة تجاوباً دولياً كافياً مع اللبنانيين. فبين مراعاة المصالح الاسرائيلية التي تقضي بالتوطين، والمصالح اللبنانية أو الفلسطينية التي تتعارض مع التوطين فإن خيار الدول الاطلسية واضح سلفاً. ولئن ظن فريق من اللبنانيين ان هذه الدول قد تتحمس لإنقاذهم من "التذويب" فإن تجربة الحرب القاسية وما كشفته من مواقف دولية تجاه لبنان وأهله وفرقائه جديرة بأن تفتح أعين معارضي التوطين على خطأ مثل هذه الفرضيات، وان تدفعهم الى توسل المقترب الأفضل لبلوغ غايتهم. من بين الأسباب التي تقدم لمعارضة التوطين، يبدو التركيز على الشرعية الدولية هو المرتكز الأفضل لتنظيم حملة ضد هذا المشروع. فالإعلان العالمي لحقوق الانسان ينص في المادة الثالثة عشرة على "انه يحق لكل فرد ان يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة اليه". ولقد استندت الاممالمتحدة الى هذه المادة عندما أصدرت القرار 194 الذي ينص على حق الفلسطينيين في العودة الى بلادهم. ورغم انحياز الادارة الاميركية الصريح الى جانب اسرائيل، فإن الرئيس الاميركي بيل كلينتون لم يملك الا القول، قبل اسابيع، بأنه من حق الفلسطينيين الانتقال الى حيث يطيب لهم السكن. ورغم ان هذا القول أكاديمي، أي انه لا يعكس وجهة نظر واشنطن العملية كما بينت الاستدراكات اللاحقة التي أصدرتها وزارة الخارجية الأميركية، إلا أنه يلقي ضوءاً على الاجواء الدولية الراهنة. فلقد كان من الصعب ان يعلن كلينتون معارضته لعودة الفلسطينيين في بلادهم، بينما كانت قوات الأطلسي تخوض حرباً ضد حكومة بلغراد لأنها تمنع لاجئي كوسوفو من العودة الى بلادهم. إذا نظمت الحملة ضد التوطين بالاحتكام الى الشرعية الدولية أولاً، وفي ظل ظروف حرب كوسوفو، فإنه من الأرجح ان تحقق نجاحاً أكبر مما لو استندت الى الأسباب الأخرى التي تتردد في بعض الأوساط اللبنانية. الا ان مثل هذه الحملة ستكون ناقصة ومثيرة للتساؤل اذا قام بها اللبنانيون وحدهم دون الفلسطينيين الذين يحرمون من حقوقهم الانسانية. وتنظيم هذه الحملة من قبل اللبنانيين وحدهم، مهما كانت نواياهم صحيحة وانسانية، يحولهم، دون مبرر ودون مسوغ، الى من هم أشبه بالجماعات الأوروبية التي تريد التخلص من اللاجئين السياسيين والاقتصاديين الذين يقطنون دول القارة. وحتى لا تتكون مثل هذه الصورة عن اللبنانيين الذين يعارضون التوطين، وحتى توضع هذه القضية في اطارها السليم كما شرحها الرئيس الأسبق فرنجية أمام هيئة الاممالمتحدة، فإنه من الأصح ان تنظم هذه الحملة من قبل اللبنانيينوالفلسطينيين معاً. التعاون اللبناني - الفلسطيني في مناهضة التوطين والتأكيد على حق الفلسطينيين في العودة لا يعني الامتناع عن عقد المؤتمرات اللبنانية الروحية والزمنية للنظر في هذه القضية. فمن الضروري ان يوحد كافة اللبنانيين وفي شتى المجالات موقفهم من قضية التوطين وان يتفقوا على سياسة محددة حيال هذه القضية. إلا ان هذا التعاون يقتضي ان يمنح فلسطينييلبنان فرصة موازية للبحث عن أفضل السبل لإعلان تمسكهم بحق العودة، أي لتحقيق مطلب مشروع يطابق تمام المطابقة المطلب اللبناني. وربما كان السبيل الأفضل للتعبير عن هذا الموقف هو مؤتمر مواز يعقده الفلسطينيون فيكون مناسبة للتعبير عن تقديرهم للبنان ولتضحيات أهله، وعن تمسكهم بحق العودة في الوقت نفسه. ان تشكيل لجنة متابعة من اللبنانيين ومن فلسطينييلبنان لمناهضة التوطين يضع هذه القضية في اطارها السليم ويردها الى جذرها باعتبارها ترجمة محددة ومخصصة للاعلان العالمي لحقوق الانسان، واختباراً لمدى جدية المجتمع الدولي والدول الكبرى بشكل خاص، في الأخذ بالاعتبارات الاخلاقية بدلاً من الاحتكام لعلاقات القوة وحدها. هذا المقترب لا يضمن للبنانيين أو الفلسطينيين الحصول على أي من النتائج المتوخاة اذ لا شيء مضمون في ظل موازين القوى الدولية الراهنة التي تحابي الاسرائيليين بصورة غير مسبوقة، ولكنه بالمقارنة مع المقتربات الأخرى، يجعلهم أكثر حظاً في الوصول الى هذه النتائج. * كاتب وباحث لبناني