لا ملجأ من الإقرار، في ضوء ربع القرن المنصرم والمنقضي على أزمة عام 1973 اللبنانية - الفلسطينية واللبنانية الداخلية أو اللبنانية - اللبنانية، على ما يقال، بثبات البرنامج السياسي والدستوري، المضمر أو المعلن، الذي قاد خطى حركة المطالبة والمعارضة العروبية والإسلامية، وألهم سيرها، قبل ان تحط رحالها في مدينة الطائف، بالمملكة العربية السعودية، وتستولي على حكم لبنان. وعلى رغم المنازعات الدامية التي مزّقت أجنحة هذه الحركة، وقسمت قيادتَها قوى متنابذة ومتناحرة، فخَلَفت القوةُ الجديدة القوةَ القديمة، وسعت في محو آثارها وطيّ إرثها، أقامت القوى المتعاقبة والمختلفة على نواة برنامج صلبة ومتماسكة، جلتها وثيقة الوفاق الوطني، ثم صاغتها في مواد الدستور اللبناني الجديدة في حلة ناصعة، و"إلى الأبد". وقوام هذه النواة الثابتة والمتماسكة أربع قضايا: 1- إيجاب عروبة لبنان" ومؤدى هذا الإيجاب العودة المعنوية والرمزية إلى وقت يسبق الدولة واستواءها عَلَماً ظاهراً على انفصال الجماعة اللبنانية السياسية من الجماعات العثمانية العربية، وقيامها برأسها، واستقلالها بتدبير أمورها، وإرساء هذا التدبير على علاقاتها الداخلية وعلى ميزان منازعاتها وانقساماتها المستقل. ولما كانت العودة إلى التاريخ الذي يسبق نشأة الدول المستقلة، من طريق وحدة تدمج شعبين "عربيين" في دولة واحدة، متعذرة أو محالة، أُوكل الى عروبة لبنان نقض الدولة اللبنانية، وأوكل اليها إنكار تسويغها السياسات التي تنتهجها بعلل ذاتية وشرعية، مسندها إرادات اللبنانيين على النحو الذي تجلوه هيئاتهم المنتخبة واداراتهم وهيئاتهم السياسية والاجتماعية ومداولاتهم، فتقديم هوية القوم المفترضة، في ختام حروب استنزاف داخلية، على المباني السياسية، وعلى جلائها الارادة الوطنية وتمثيل هذه الارادة، لا يستقيم الا بتأخير السياسة الوطنية اللبنانية، وتأخير مبادراتها واختياراتها الى المحل الثاني. فلا يبقى من علل هيئات الدولة والمجتمع ما يقوم بأود هذه الهيئات ويسوغ أفعالها وقراراتها ويرسيها على ركن شرعي متين. فيُسلط على العلة الوطنية داع أو صارف قومي يعلوها ويبطلها. ولما كانت الدواعي والصوارف القومية مقيمة على "روحانيتها" وصوفيتها، ومتعالية عن التجسد والتمثيل والحلول في هيئة أو ادارة، وبمنأى من الرقابة والقيود والمحاسبة، لم يبق من متعلقات الدولة الوطنية، ومن صلاحياتها، إلا التصريف الاداري اليومي والاجراءات الادارية والفنية العادية. فتدور الحياة "الوطنية"، والحال هذه، على خواء شَبَه السياسة، ويناط بهيئاتها تشبيه حياة سياسية واجتماعية وثقافية على المحكومين، وعلى المجتمع الدولي، جميعاً. 2 - حلُّ السلطة التنفيذية في الهيئة النيابية والتمثيلية. وهذا النازع ذو شقين. فتقييد رأي السلطة التنفيذية الحقيقي، وهو رئيس الجمهورية، الماروني عرفاً، يتصدر البرنامج السياسي والدستوري العروبي والاسلامي اللبناني منذ ابتداء المشادة والخلاف الدستوريين. والقيد على رئيس الجمهورية إنما هو قيد على صدارة الطائفة المسيحية التي يفترض فيه تمثيلها، وهو قيد على رجحان كفة الموارنة اللبنانيين في الميزان الاجتماعي والسياسي اللبناني، القائم على موازنة بين الجماعات الطائفية. ورجحان الكفة المارونية في الميزان السياسي مرده الى رجحانها في ميزان القوة الاجتماعي، ومعياره جمع اسباب التعليم والدراية المهنية وتحصيل المال ورسملة هذه الاسباب جميعاً. وقد يكون الرفع من مكانة رئيس الحكومة، المسلم السني، ونصبه مساوياً لرئيس الجمهورية، أو نداً له ومكافئاً دستورياً، هو القيد المرجو. والحق ان الدستور القديم، الانتدابي معدلاً، يرعى بعض الندِّية المطلوبة. فهو يجمع توقيع رئيس الحكومة الى توقيع رئيس الجمهورية في كل المراسيم ما خلا مرسوم قبول استقالة الحكومة أو إقالتها. لذا ارتَدَت المطالبة بالندية ثوب المطالبة برئيس الحكومة "القوي" وتصورت في صورة هذا الرئيس "القوي". فكانت الصورة هذه الشقّ الاول من القيد على السلطة التنفيذية، وهو قيد عليها من نفسها ومن داخل، وثمرته تعطيلها وشلها. لكن هذا القيد غير قاطع ولا حاسم. فهو مشروط بالوقوع على رئيس الحكومة العتيد. ويعرِّف "القوةَ"، ضمناً، بالسير في ركاب إجماع كبراء المسلمين وعامتهم شارعهم، فوجه "القوة" الثاني هو التسليم لأقوياء الطائفة، أو الطوائف الإسلامية، من غير النواب، ومن الطامعين بالمراتب. وهذا يتدافع ويتناقض بعض الشيء. أما القيد الحقيقي على سلطة رئيس الجمهورية الماروني المسيحي، وعلى رئيس الحكومة القوي أو الضعيف، فهو تقديم الهيئة النيابية على السلطة التنفيذية. وصورة التقديم هي تحكيم مجلس النواب في اختيار رئيس الحكومة، دون حكم رئيس الجمهورية ورأيه في رئيس الحكومة، وتعطيل صلاحية رئيس الجمهورية في حل المجلس أو في إقالة رئيس الحكومة، ونصب رئيس المجلس، الشيعي، حاكماً على رعيته المجلسية وإشراكه في المداولات الآيلة الى تأليف الحكومة. فاذا كان المجلس النيابي مرآة تيارات أهلية، متباينة ومتفرقة، لا تجتمع على قواسم سياسية وطنية، ولا تتداول السلطة التنفيذية، أمِنَت الحكومةُ جانب هذا المجلس الاهلي. ونأى المجلس النيابي بنفسه، وهو على هذه الحال من التداعي والضعف، من "السياسة"، على المعنى الحرفي للكلمة، أي من المنازعة المعلنة والمعلَّلة على الحكم وعلى تصريف شؤونه. فعاد تصريف أمور الدولة وإدارة شؤونها، الى نصاب لا يُرى بالعين الدستورية، ولا حساب عليه ولا قيد. وعلى نحو ما لا يقدح تنقيل الداعي القومي بين السياسة الناصرية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسياسة السورية. في تقديم الداعي القومي المتغير على سلطة الدولة الوطنية، لا يقدح الترجحُ بين إيلاء "الحركة الوطنية" سلطةَ البت وبين إيلاء "قنصل" اقليمي هذه السلطة، في دلالة تنصيب المجلس النيابي حاكماً ظاهراً ومرجعاً. 3 - وتقوم النواة بتأويل "الإصلاحات" الديموقراطية والسياسية تأويلاً أهلياً وعصبياً من طريق احياناً مواربة، واحياناً أخرى مباشرة ومدركة. فالانكار على رئيس الجمهورية التصرف الحر والمسؤول في رسم سياسة الدولة العامة، وفي توجيه الادارة والبيروقراطية الوجهة التي يرتئي، يستظهر بحمل رئيس الجمهورية على طائفته ونخبها السياسية، وتوحيده بها، أولاً، ويستظهر، ثانياً، بحمل طائفة رئيس الجمهورية، والطوائف المسيحية عامة، على مصالح اجتماعية واقتصادية، رأسمالية وبورجوازية، منافية لمصالح "أوسع الفئات الشعبية" وعلى خلافها" ويستظهر هذا الإنكار، ثالثاً، بادخال المصالح الرأسمالية والبورجوازية المحلية تحت مصالح غربية و"إمبريالية" واحدة ومتجانسة" ويُدخل هذا المصالحَ والفئات "الشعبية"، رابعاً، في "معسكر" نقيض يجمع الوطنيةَ الحق، أي العروبة القومية، الى التقدمية الاجتماعية العامة والأممية أو العالمية. وتسوغ "ديموقراطيةٌ عددية" وجوهَ التوحيد الاربعة هذه، من حيث احتسب القادة المسلمون العروبيون في وقت "أول" مديد و"الوطنيون التقدميون" من 1958 الى 1982 و"الإسلاميون" والعروبيون الى اليوم، أو لم يحتسبوا. وهذه "الديموقراطية العددية" رعت فكرتُها، وهي جنين، حركات الاتصال اللبنانية، على ما سميت حركات المسلمين اللبنانيين الوحدوية السورية الى عشية الحرب الثانية. وهي لم تنفك الى اليوم ترعى نقدَ الانفصال اللبناني. فأضمر هذا النقد على الدوام، وتحت ذرائع ترجحت بين المطالبة الاسلامية الصريحة وبين الكناية الديموقراطية والشعبية، أضمر الإنكارَ على قلة، مسيحية وبورجوازية وغربية، الحقَّ في حكم كثرة، مسلمة وعامية شعبية ووطنية محلية، جميعاً وفي آن. ويحتسب الاشتباهُ هذا، أن في دعواه الديموقراطية أو في نفيه الطائفية عن نفسه، ميزان العدد بين الطوائف، ورجحان كفة الطوائف الاسلامية عند منعطف العقد السابع الستينات الى العقد الثامن وانقلابه عليه، ويعوِّل على رجحان عدد المسلمين في طلبه الاستئثار بالسلطة. فهو، أي نقد الدولة اللبنانية المنفصلة، إذ يحتج للعدد وللذرّات الفردية والانتخابية، وفي لحظة احتجاجه لها، يعوِّل على توحيدها العصبي والتلقائي في اجسام جمعية وأهلية تقترع اقتراعَ الرجل الواحد، ويغلِبُ اقتراعُها على هذا النحو اقتراعَ القلاّت المؤتلفة في القلة "الثانية". فيؤوِّل النقدُ الوطني القومي والاجتماعي والسياسي ركنَ الديموقراطية الاول، وهو الفردية أو الافراد وجماعات الرأي - وعلى هذا الركن ينهض التمثيل والتكليف والنيابة - يؤوِّله جماعات أهلية وعصبية متراصة، ليس بين الفرد منها والآخر فرق، وليس بينها وبين من تندبه الى تمثيلها والنيابة عنها والتشريع محلها، في اطار حقوقي وقانوني جامع، فرقٌ كذلك، ويخالف وجها التأويل أصل الديموقراطية الفردي، وأصلها التمثيلي" ويخالف الوجهان أصل الدولة ومبناها على شعب أو أمة. ولعل هذا الاشتباه، أو الالتباس، هو السبب في التنقل، من غير عسر، بين طائفة الجماهير وبين الطوائف الأهلية والمذهبية. فتوهمت الاحزابُ الوطنية والتقدمية، قبل ان تمسي احزاباً وطنية وإسلامية، ان مطاليبها في الحريات النقابية والسياسية والاعلامية وفي العدالة الاجتماعية ودولة الرعاية، تنصبُها طليعة حركة شعبية، أو جماهيرية، قوامُها افراد، وسير افراد، انفكوا من جماعاتهم الأهلية، ومن لحمة هذه الجماعات وأواصرها وروابطها. ولكن ترك مسألة الدولة الوطنية معلّقة من غير حسم، والتباسَها بالعصبيات الاهلية، وقبول المنظمات الحزبية والتيارات السياسية المعارضة بهذا الالتباس بل والتوسل به الى توسيع جمهور المنظمات والتيارات ونفوذها، هذه العوامل مجتمعة قوّت العصبيات الاهلية على الأبنية السياسية والاجتماعية والديموقراطية، وسلّطتها عليها، وألحقتها بها. فتصورت الحركات الاجتماعية والسياسية في صورة الشقاق الاهلي، وخلطت المخالفة الاجتماعية والسياسية بالمخالفة الاهلية، وجمعت المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية والمسألة الديموقراطية والسياسية في "تناقض" واحد. فحملت الدولة اللبنانية الوطنية وهيئات تحكيمها ووساطتها واداراتها على العداوة الجامحة والكلّية. 4 - فلا يبقى حد ثالث بين حد النفي التام من السلطة والقوة الاجتماعية والاستبعاد منهما، وبين حد الاستيلاء الناجز على السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية والاقتصادية. فعلى نحو ما أوّلت القوى والتيارات المعارضة موقعها المتأخر والثانوي من الدولة اللبنانية والمجتمع اللبناني، إخراجاً لها من مراتب الدولة والمجتمع، واستتباعاً وإفقاراً وإذلالاً، أوّلت القوى والتيارات نفسها بلوغَها غاياتها، وإنجازَها برنامجها، استيلاءً كاملاً وتاماً على كل الدولة وسلطاتها ومراتبها، وعلى كل المجتمع وموارده. فأنكرت على الدولة اللبنانية، وعلى العلاقات السياسية والاجتماعية التي رعتها الدولة طوال نيف وخمسة عقود وسَّمتها المعارضات المتعاقبة، بتقزز، "النظام اللبناني" أو "التركيبة اللبنانية"، أنكرت عليها إيجابَ أي تظاهرة تُحتسب لها وليس عليها. فالحريات اللبنانية شكلية ونسبية وتقبلها الدولةُ ما لم تتهدد تسلط الطبقات المسيطرة وتبعيتها للامبريالية أو الاستكبار بالخطر، والازدهار اللبناني خرافة وطلاء يتستر على الاحتكارات وثرائها الفاحش وعلى توزيع الدخول والعوائد توزيعاً ظالماً وبعيداً من التكافؤ، والثقافة اللبنانية مزيج هجين من الفولكلور ومن الكوكا كولا، الخ. وعلى هذا فليس استيلاء القوى العروبية والاسلامية على الدولة والمجتمع صفحةً جديدة في العلاقات السياسية، وفي قواعدها ونظمها، فحسب، بل هو تجديد لأركان الحياة كلها، وبعثٌ لهوية "البلد" المندثرة، وإحياء لوجهه الحقيقي ومحو للتزويق الكاذب الذي ألصق به. ولا يقدّر لمثل هذا البرنامج ان ينجز، ولو على وجه التقريب، إلا بتولي القيادة السياسية العروبية شؤون اللبنانيين كلها، وباستتباع اللبنانيين كلهم على مراتب من الاستتباع، وتطهيرهم مما لا محالة علق بهم من العهد الماضي، وانشائهم انشاءً عربياً جديداً. وهذه غاية شأن نظيرها الإحيائي الروحاني أو الطهراني العرفاني أو الثوري الطبقي أو العنصري العرقي، لا تدرك ولا تبلغ. والتوجه شطرها وصوبها مسير طويل ومتصل بالكاد تقطع مراحله "ألفُ ثورة ثقافية"، على ما كان ماوتسي تونغ أو ماو دزي دونغ الصيني يقول، وعلى ما كان أصحاب الرايخ الثالث، رايخ "الألف عام"، يحسبون و"الألف ثورة"، أو "الألف عام"، أو "إلى الأبد"، من لوازم عمل التطهير والمعالجة الدؤوب. فإحلال العربي الصريح محل الهجنة اللبنانية يقتضي تربية هي بمنزلة الخلق المستأنفَ. ولذا ضمت المعارضة الوطنية المنظمات المسلحة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، الى لبنان، وصنعت "شعباً لبنانياً - فلسطينياً واحداً" - واليوم يُكنى عن الضم نفسه إما ب"الشعب الواحد في دولتين" أو ب"وحدة المسارين"، وهذه تنقلب "وحدة مصير" بيسر واختصار لفظيين. وهذا الحسم في العلاج - وهو قد يبلغ مبلغ تبديل اللبنانيين، أو بعضهم ومستودَع اللبنانية منهم، ب"لبنانيين" جدد، من طريقي الهجرة والتجنيس - يقتضيه استشراء الشر واستفحال العلم في جسم تفوح منه روائح الفتنة والتحلل في آن. وهذا الضرب من السياسة، إذا جازت تسميته بالسياسة، يدفع بعضه بعضاً، وينفي بعضه بعضاً، فهو ينزع، من وجه، الى الاستتباع، أي الى إلحاق الجماعات المغلوبة بالعصبية الغالبة من غير تصديع قوام الجماعات المغلوبة تلك ولا إقحام غايات عليها ومباني عمل، غير غاياتها الداخلية والتلقائية التاريخية وغير مباني عملها. وهذا هو المبنى الأهلي والعصبي لهذا الضرب من السياسة، القومي القبلي. وينزع هذا الضربُ من السياسة، من وجه آخر، الى استدخال الجماعات واستبطانها" ولا يتم له هذا إلا بتقطيع عراها الداخلية وأواصرها. ويتوسل النازع الثاني الى غاياته بوسائل حديثة وجديدة، مثل الإدارة ومراتبها ونظمها المختلفة، ومثل التعليم، والجيش الوطني، ونظم العلاقات الاقتصادية، والإذاعة والتلفزيون والصحافة اليومية، أو هو النازع الثاني وليد هذه الوسائل وأثرها في العلاقات الاجتماعية. وهذا هو المبنى الجماهيري لهذا الضرب من السياسة. وتترجح السياسات العربية، في لبنان وفي العلاقات الاقليمية، بين هذين الحدين أو هذين المبنيين. فتُخرِج السياسةَ من العلاقات الاجتماعية، ومن موازين القوة والموارد الاجتماعية، وتقصرها على التغلب أو الغلبة، وتستتبع مجتمعاً ضامراً ومقيداً تلحم بين جماعاته الاهلية عصبية قومية قاسرة، أو تصل بين السياسة وبين الموارد الاجتماعية بوصْلةٍ ضعيفة فتؤخرها الى المحل الثاني، وتُوْكل بها انتخاب أفضل الأعوان الفنيين والاختصاصيين وخُدّام غاياتها، غايات السياسات العامة. ولعل شطراً من الضغينة التي يلهمها لبنان اللبناني، الماروني المسيحي والغربي، اصحابَ السياسات العروبية في لبنان والجوار، مرده الى ارسائه السياسةَ والدولة والسلطة والهوية الوطنية نفسها، على مبانٍ اجتماعية وتاريخية، وعلى موارد الاجتماع. فجاءت الهوية الوطنية اللبنانية مجيء الانشاء والتوليد التاريخيين المتغيرين والمضطربين، ولم تقبل الرسو على معنى جمعي ثابت في نفسه، ومنقطع من أوقات العالم وأزمانه ومصائره المختلطة والمولَّدة. فغلب التعريف الاجتماعي، من تعليم وعمل وشارات استهلاك ومثالات تذوق ومرونة مخالطة ومعاملة وتفتح نزعات فردية، على الهوية الوطنية اللبنانية. فخالفت بهذا منازعَ التعريف العربية الموروثة، وتغليبها، المشكلَ، التعريفَ العصبي و"الآلي" دوركهايم القائم على التجانس والشبه والانكفاء على النفس وهذه المنازع لم تنفرد بالتعريف على الدوام ولم تكن دوماً الغالبة. وترتب على غلبة التعريف الاجتماعي مثالٌ للسياسة يقر بالمنازعات الداخلية، ولا يجحد حقَّ الانقسامات في العبارة عن نفسها والجهر بهذه العبارة، حين ذهب المبنى الأهلي الى نفي الانقسام من القوم، أو الشعب أو الأمة، واستغرق السياسةَ والدولة الاهليتين تحقيق هذا النفي والاستدراك على مفاعيله الظاهرة والمتفاقمة. والثبات والتماسك هذان، أي ثبات نواة البرنامج الصلبة وتماسكها، هما قرينة على رسوخ بنود المطالبة في تربة تقليد سياسي واجتماعي وثقافي عريق ومديد. ويكاد هذا التقليد يتحد بالجماعات المنضوية تحت لواء المطالبة "الوطنية" وفي كيانها، أو ما تخاله وتحسبه الجماعات كياناً لها. ويحقق ربما رسوخ هذا التقليد وقوتَه عصيانُه التحديث والتجديد، وغلبتُه عليهما. فما حسبته القوى السياسية والحزبية المجددة في العقد السابع الستينات ثم في العقد الثامن، نازعاً ديموقراطياً وشعبياً عنيداً، كشف، لما امتحنته الحوادث، وامتحنه التدبيرُ والتصريف اليوميان، عن ميول الجماعات الاهلية "الثقيلة" والدائبة، وأسفر عن نهج هذه الجماعات في تناولها السياسة ومعالجتها لها. وهذه الحال هي السبب في خلافة "حزب الله" الخميني وحركة "امل" الصدرية والحزب القومي - الاجتماعي "السوري"، والخليط الحاكم اليوم، على نواة برنامج المطالبة المتحدر عن الكتلة الجنبلاطية والشيوعية والناصرية، من غير تدافع ولا مناقضة. والخلافة السوية، غير المتدافعة ولا المتناقضة، قرينةٌ على إقامة النواة على فعلها وأثرها في رسم نهج سياسي وفكري لا يتخلّى عن بعض كلماته وعباراته إلا وهو يستأنف استلهامه منطقاً متماسك الاضداد. فيعالج بهذا المنطق دخول المجتمعات والسياسات العربية المشرقية ابوابَ الحداثة القهقرى ومواربة. ولعل مصير المجتمعات العربية المشرقية، في سورية والعراق وفلسطين والاردن وفي بعض شبه جزيرة العرب وهذا يصح في إيران لولا ان إيران خارج دائرة تأريخنا، الى المصائر التي صارت اليها منذ ربع القرن المنصرم، مصدّقٌ لزعم دخول هذه المجتمعات باب الحداثة القهقرى ومواربة. فهل ينبغي حمل هذا التأريخ، أو هذا الفصل منه، على اقتصار أثر نواة ثابتة تقوم من الحوادث المتغيرة والمضطربة مقام مبناها الأول، أو مقام معناها السابق والمضمر؟ الحق ان مذهب هذا الفصل من التأريخ هو خلاف إثبات مبنى أول أو معنى يسبق الحوادث، فلا تصنع الحوادث إلا تحقيق المعنى المزعوم هذا. وليس تعقب تفاصيل الحوادث ودقائقها، على ما يسع القارىء التثبت من الأمر، الا من قبيل المخالفة على هذا المذهب والنقض عليه. بل ان التعقب على هذا النحو، إنما يوجب سبقَ الحوادث وأصحاب الحوادث، بديهة، المعاني التي تنعقد عليها الافعال والحوادث وروايتها، أو رواياتها. وأول ما تفترضه الرواية، ويفترضه التأريخ، الآتيان، هو مباشرة اصحاب الحوادث والأفعال "التاريخية" ما يصنعون ويفعلون في ضوء معانٍ بعينها، يعربون عن بعضها ويبيّنون عنه، ويضمرون بعضها الآخر. وفي الاحوال كلها ليست "المراحل التاريخية"، ولا الحقب، ولا الأنماط، السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، هي صاحبة الحوادث والافعال التاريخية، ولا صاحبة معانيها. وعلى هذا لا يزعم هذا الفصل من تأريخ الحروب الملبننة ان انفجار هذه الحروب كان حتماً مدوناً أو مكتوباً في لوح البنية اللبنانية، أو في لوح المنازعة العربية والاسرائىلية. فاقتصاص الحوادث على وجه تخليص مبان مجردة يُعقل عليها وقوعُ الحوادث هذه، وتُعقل عليها مقاصدُ الفاعلين وتوقعاتُهم وحساباتهم المتقاطعة والمتبادلة وأفعالهم تالياً، لا يسوغه الا حملُ الأفعال والفاعلين على الجواز وليس على الاضطرار. وهذا الضرب من الاقتصاص، أو التأريخ، على رغم سعيه في تجريد مباني الأفعال ومثالاتها وأضدادها المبنى الاهلي، المبنى الجماهيري، المبنى السياسي...، لا يغفل عن التباين والاختلاف في كل سياق من السياقات التي يقتصها، ولا يقلل من شأن الملابسات الظرفية والطارئة. فلم يُتناول فريق من المتنازعين على وجه الوحدة المتماسكة، أو بمعزل من تاريخه، وتاريخ موقعه الفردي والجمعي، ومن غير اعتبار مقاصده وخطته في الحادثة نفسها، وفي سياقتها. ولم يقلل التناول، على هذا النحو، من شأن تردد الفاعلين اذا ترددوا، ولا من شأن رجوعهم في بعض آرائهم واحكامهم اذا رجعوا. فاذا استقرت الافعال، واستقر التأويل، على بعض الثبات، سعت الروايةُ في اقتفاء العوامل التي أفضت علاقاتها الى الاستقرار وفي اقتفاء الاستقرار. وفي هذا كله تقدمت افعال الفاعلين ومقالاتهم على مصادر الرواية والتأريخ الأخرى، مهما بدت الافعال والمقالات ردوداً هاذية وهاجرة، ومهما غلبت "العقلانية في ميزان القيم" العقلانيةَ في ميزان الوسائل والوسائط" ماكس فيبر. ولا ريب في ان وطأة الموتى على عقول الأحياء، وأخذ الميت بتلابيب الحي، على ما يقال احتساباً لثقل الماضي ولأثر الابنية الموروثة في افعال الحاضر وأفكاره، عاملان ثابتان في جري الحوادث على النحو الذي جرت عليه أو تجري. لكن الأثر هذا، وهو المتأتي من وطأة الماضي ومن دوام تراثه، ليس كلياً. فليس كل الماضي أو كل تراثه، مؤثِّرين، وعلى قدر واحد من التأثير. وما يؤثِّر في الحاضر من الماضي ومن تراثه، إنما ينتخبه الحاضر، ويقدمه على ما يطرح ويهمل. وعلى سبيل التمثيل، استعارت ثقافة حروب الأهل العربية لغة الحرب الاهلية السوفياتية، العالمية، من غير عسر. ثم بدلت بها لغة الحرب الاهلية الخمينية. ويسع المؤرخ ان يتتبع الأثر المنتخب والمستبقى، وربما علة انتخابه واستبقائه وإدراجه في آلات الفعل والمخاطبة الآنيين والظرفيين. ولا يؤدي هذا الى تأريخ يوسد الحوادث ثراها الأخير، أي معناها الناجز، على مثال الحياة التي يحيلها الموت الى قدر. فليس على المؤرخ ان ينتظر ختام ما يتناوله بالتأريخ ليسوغ له التأريخُ. فالحادثة، وعليها يوضع التأريخ، إنما هي عقدة العلاقات والافعال والمقالات، ويجوز بناؤها حين تتشابك خيوطها، وحيث تتشابك. فالفعل يحتمل أوجه الدلالة والتأويل، وعلى هذه الأوجه مبناه. وتناولُ فصل 1973 من فصول المنازعات اللبنانية والاقليمية بالتأريخ، مساغه الأول بلورة هذا الفصل عوامل الحرب الوشيكة وانفجارها، واستقرار مصطلح الحرب الآتية. ففي اثناء الاسابيع الستة التي دامتها الازمة كانت الاقنعة أقل صفاقة، والكلمات أقرب إلى مدلولاتها. وهذا الفصل يتوسط فصل ربيع وصيف 1969 والفصل الذي يؤرخ به انفجار الحروب المتناسلة في نيسان ابريل 1975. فمنزلته بين منزلة المفاجأة وبين منزلة الخطة أو التخطيط والادارة أو التدبير، وهي منزلة البيان الاوضح ربما، ومقام الخطر الداهم وغاشيةِ الآتي. * كاتب لبناني - والمقالة تستعيد بعض "تمهيد" كتاب الكاتب الموسوم ب"خروج الأهل على الدولة / ربيع 1973: فصل من تأريخ الحروب الملبننة"، دار المسار، بيروت، 1999