حين فحصه عما لا يجوز التسامح فيه يقع جون لوك، البريطاني - في "رسالة في التسامح" 1689 كتبها قبل استقرار الثورة الإنكليزية ونشرها بهولندا غداة استقرارها بعام واحد - على "الكنيسة"، أو الرابطة الدينية، التي تحمل أهلها وأصحاب اعتقادها على الولاء ل"أمير"، أو حاكم غير الحاكم الوطني، ومن غير تابعيته السياسية. فالقبول بمواطنين من هذا الضرب قرينة على رضا الوالي اقتحام سلطان غير سلطانه، وشرع غير شرعه، عليه عقر داره، دليل على رضوخه لتعبئة جنود يحاربون الدولة من بين مواطنيه. ويمثِّل لوك على ما يريده فيكتب إنه من المحال أن يكون المرء مسلماً محمدياً في ما يعود إلى الإعتقاد وحده، من وجه، ورعيةَ والٍ مسيحي في غيره من الشؤون، من وجه آخر. فإذا دان المسلم، إيماناً، لمفتي اسطنبول القسطنطينية ب"طاعة عمياء"، وأطاع المفتي السلطان العثماني، ورأى هذا رأيه في فتاوى المفتي، اضطر الرعية، أو المواطن، إلى الولاء لرئيسين سياسيين في آن. ولكن فيلسوف السياسة البريطاني لا يقصر على المسلم إيماناً والبريطاني تابعية وسياسة إخراجه من التسامح. فسبق "المسلم البريطاني" إلى النفي من السعة السياسية من يرسون السيطرة والسلطان على الإنعام الإلهي فهم يُحلّون لأنفسهم "مِلك كل شيء"، ومن يدعون إلى أعمال تخل بالإجتماع البشري وتهدم المجتمع المدني، ومن يزعمون أن الإيمان ينبغي أن يقضي في شؤون الحياة المدنية وهم يريدون إيمانهم هم. وغداة نيف وثلاثة قرون على "رسالة" لوك، تساءل أحد مفكري السياسة والحق الأميركيين البارزين، ميكائيل والْزِر "الجامع في التسامح"، 1997، عن جواز قبول أنظمة التسامح المعاصرة، الديموقراطية والليبرالية، جماعات دينية، أو جماعات قومية، تعلن على الملأ عزمها على معالجة ما تراه منكراً وخروجاً على سننها واعتقادها، بالقتل أو هدر الدم أو الحرم، إلخ. وقطع والْزِر بأن هذا غير جائز، ولا يسع دولة ديموقراطية وليبرالية الإذعان له. ولكن هذا القطع لا يستوفي الجواب أو المعالجة. فكثرة من المجتمعات الديموقراطية والليبرالية اليوم هي مجتمعات هجرة. وتتجدد في هذه المجتمعات حال الذين سبق للوك أن تشكك في صدق ولائهم السياسي إذا حملهم ولاؤهم "الكنسي" على موالاة سلطة أجنبية. فهل يسع هذه المجتمعات، أي دولها، القول للمهاجرين، أو لدعاة قوميات محلية دخلت في صلب الدولة الوطنية كرهاً وعنوة في معظم الأحيان: لن يقبل هذا، أي القتل أو هدر الدم، منكم هنا، فمن شاء الإقامة على "تراثه" فما عليه إلا العود من حيث أتى! وفي الحالين، تلك التي افترضها لوك افتراضاً وتلك التي تدخل اليوم في شهود واختبار الناس كلهم وسلمان رشدي مثال الشهود والإختبار هذين، ينهض توحيد الإعتقاد والإيمان في السياسة والحكم، وجمعُ الدين والتدبير في واحد، مَعْلماً على نظام ينسب حياد الدولة الملي والمذهبي إلى ضعف الايمان وتراخي السياسة. وليس "الشرق" - العثماني في تمثيل الإنكليزي "القديم" والإيراني الخميني في تمثيل الأميركي المعاصر - إلا التشخيص الفظ والخارجي على علة داخلية، خبيثة ومميتة، هي الحروب الأهلية، الدينية أو القومية الإثنية، الأوروبية والأميركية. وإذا نأت المجتمعات الديموقراطية والليبرالية بنفسها، قبل أن تستقر على هذه الهيئة الكثيرة الوجوه، وبعد ان استقرت عن مبنى سياسي يلد لا محالة الإقتتال الأهلي، ويجدد دواعيه، لم تكل نأيها بنفسها عنه إلى عمل الفكر والمشاعر، ولا إلى تمجيد النفس ومديح "الطريق الخاص"، أو "العبقرية القومية" والتاريخية. فالمبنى السياسي الذي ينكره لوك ووالْزر، على بعد شقتي الزمن والإختبار بينهما. إنما ينكران عليه النتائج التي تترتب عليه وعلى منطقه المحكم. فإخراج "الكنيسة"، أي الجسم الإجتماعي الذي يرعى أحكام الإعتقاد العملية والنفسية، من الدولة، والفصل بينهما، يصدر عن افتراض "واقعي" يظن في كل "الكنائس" نازعاً مستبداً إلى فرض اعتقاد واحد، وتبديع كل ما خالفه وعداه. وطالما توسل هذا النازع بالحجاج والإقناع والدعوة، ولم يتوسل بإكراه القوة المادية الذي ينبغي ان يعود إلى الدولة وحدها، ضعف خطره على أمن الأفراد وعامل الدولة. وإخراج وسائل القسر المادية والسياسية من يد الجماعات، الدينية أو القومية، لا يؤدي بالضرورة إلى اضمحلال معتقداتها. ولا ترمي الدول الحديثة إلى مثل هذا الإضمحلال، ولا ينبغي لها أن ترمي إليه في مجتمعات الهجرة أو المجتمعات "الكثيرة الثقافات" مثلما هي معظم المجتمعات الأوروبية والأميركية منذ بعض الوقت. فهي لا تتستر على سعيها في تقوية النزعات الفردية في صفوف الجماعات المقيمة والمهاجرة أخيراً، ولا على إرادتها مساندة "الدين المدني" الذي يشرك المواطنين كافة، على اختلاف منابتهم ومشاربهم القومية والدينية، في قيم وطنية ودستورية واحدة. ولكنها لا ترى ضيراً، على ما تذهب إليه آيمي غوتمان في تقديم محاضرات تشارلز تايلُر في "التعددية الثقافية، الفرق والديموقراطية"، 1992، في استناد المهاجرين إلى هويات جماعاتهم، وتماسكهم من طريق هذا السند المعنوي والرمزي القوي. بل يحسن بمثل هذه المجتمعات، وبدولها، رعاية هذا السند. فهو وحده يحول بين مهاجري الجيل الأول، وربما مهاجري الجيل الثاني، وبين الإرتكاس الى "أصولية" الأصل الأهلي أو الوقوع في براثن يأس مدمر. ولا يقتصر الإخراج، أو الفصل، على "الكنيسة" والسلطة العامة، بل يتطاول إلى إخراج القوم من الدولة، والسيطرة عليها، وألحاقها بمصالح القوم الخاصة. فالقوم ليسوا أكثر تسامحاً من الملة أو المذهب، ولا أقل استتباعاً للدولة من "الطائفة"، الدينية أو المذهبية. والدولة "القومية" قد تكون أشد اضطهاداً للأقوام الآخرين، ووطأة عليهم، من الدولة "الدينية"، ولو كان القوم الآخرون من ملة من هم عصبية الدولة. ولا تستقيم ديموقراطية، من وجه ثالث، إلا بفصل السياسة، وأحزابها وتياراتها ومنظماتها، من الدولة، وفكها منها. فالحزب المنتصر، إذا تولى مقاليد الحكم والتدبير وسعى في إنفاذ برنامجه وأفكاره بواسطة القوانين والتشريع والتعيينات الإدارية، جاز له ذلك. أما ما لم يجز له فهو أن يجعل إيديولوجيته الخاصة، وشعائره وتاريخه ونظامه الداخلي، مذهباً رسمياً للدولة، فلا يصحّ، على سبيل المثل، أن يرسم تاريخ إنشائه عيداً وطنياً، ولا أن يدير منهاج تعليم التاريخ على حوادث تاريخه الخاص، أو أن يحظر على أحزاب المعارضة نشر آرائها، وجمع أنصارها وحشدهم في تظاهرات عامة. والحق أن السياسة الحديثة، أو المحدثة، لم تتبلور إلا نتيجة الفصل المثلث هذا، وإخراج السلطة المدنية العامة من تسلط كل ما يسعى في دمجها فيه، "كنيسة" مذهباً أو قوماً أو حزباً. ولكن الحداثة السياسية لم تبتدىء كل وجوه الفصل هذه، ولم تبتكر التسامح تالياً، وإن هي أرسته على هيئات ملزمة وموجبة أحلتها محل "القوانين الأساسية" والناظمة الإجتماع السياسي ووحداته الوطنية والسياسية. فالإمبراطوريات الكبيرة والسلطنات العريضة، قديمها و"معاصرها" وهذه أَفَلت مع نهاية الحرب الأولى. ويقصد بها السلطنة العثمانية وإمبراطورية النمسا، ألَّفت بين أقوام وبلدان وديانات متباينة، وأقرت لها بتدبير شؤونها وسياساتها الداخلية من غير قسر ثقيل، ولقاء تسليمها للإدارة الإمبراطورية أو السلطانية بالطاعة والولاء والجباية. والتسامح الإمبراطوري أو السلطاني يترتب على كون الحاكم، وجهازه، مستبداً في كل رعاياه، في جماعاتهم. فهو، على قول والْزِر وكأنه يقرأ صحف بعض بلدان المشرق، "على مسافة سواء واحدة من الناس جميعاً كل الأفرقاء". وتصريف الحاكم السلطة في الجماعات، دينية كانت أو قومية، يحفظ عليها هيئاتها المتوارثة، ومُسْكاتها التقليدية، وهوياتها التاريخية والثقافية. ونظير هذا ينحاز الحاكم إلى أعيان الجماعات ورؤسائها، وهم يقونه شرَّ انتقاض الجماعات عليه وخروجها. وينجم عن السياسة السلطانية هذه إضعاف النزعات الفردية وأصناف الخروج والبدع، ولجمُ نازعها إلى مزج الأعراق والمعتقدات. فشرط التسامح، في الأطر الإمبراطورية، هو إقامة الجماعات على تفرقها. فإذا امتزجت الجماعات على نحو امتزاجها في اسكندرية البطالسة خلفاء الاسكندر المقدوني، دام التعايش ما دامت المساواة بين الجماعات، ولم تقدم السلطة جماعة على جماعة. فلما انحاز الرومان، خلفاء البطالسة، إلى الشطر اليوناني من الفسيفساء الإسكندرانية على الشطرين المصري واليهودي، انفجرت الحركات الخلاصية الدينية، ووقعت الفتنة الأهلية. وأرست السلطنة العثمانية سياستها القومية والدينية، وهي سياسة فتوحاتها، على نظام الملل. فأقرت الأقوام الذين استولت عليهم على رئاساتهم ومراتبهم الاهلية وعلى نظمهم الدينية و"كنائسهم". فلما نشبت في الجماعات نفسها بدع قوية وثابتة، أو حركات انفصالية، لم تتردد السلطنة كثيراً في الإعتراف بها، وإقرارها على نظام الملل، وساوتها بالملة الأم. وقامت الإمبراطوريات الكبيرة، والرومانية أنموذجها إلى يومنا "الأميركي"، من مجتمع الدول مقام المثال والقدوة. فإذا نجح قوم، أو جماعة دينية، في إنشاء دولة، أوسع لها مجتمع الدول والأمم مكاناً، وأقرَّ بها كياناً سياسياً، واعترف بسيادة الدولة على رعاياها وإقليمها. والسيادة هي عنوان انفصال الكيان السياسي عن غيره، وقيام دولته به وحدها دون سائر الدول. فإذا أجازت دولة أخرى لنفسها، بواسطة ذراعها العسكرية أو موفدها وممثلها أو بعض رعاياها، التدخل في شؤون دولة أخرى عنوة، انتهكت سيادتها. ولا يخلو إلزام مبدأ السيادة من التباسات كثيرة. وتتعاظم هذه الإلتباسات مع تقارب المجتمعات بعضها من بعض، وتعاظم مبادلاتها، بما فيها مبادلتها الأخبار والمعلومات. فبعض هذه المجتمعات لا ترى ضيراً في ضروب كثيرة من الأفعال والآراء التي توقعها على جماعات منها تختلف عن "الجمهور"، وتفارقه إما بالقوم، أو بالإعتقاد، أو بالرأي، أو بالجنس، أو بالمرتبة، أو بإدانة القضاء. وعلى رغم إنكار الدول الديموقراطية والليبرالية، وإليها تعود صدارة مجتمع الدول قوةً وعمومَ قيم، هذه الضروب من التفريق والمعاملات، تحجم عن التنديد بها، أو عن اشتراط الإقلاع عنها شرطاً لعلاقات خارجية سوية. وذريعة هذا الإحجام لا تعدم قوة على الإقناع. فإيكال التغيير إلى العمل بقيم عامة، أو تنزع إلى العموم على ما هو شأن المعايير الديموقراطية والليبرالية، إلى القوة، على افتراض توفرها، يجعل من بقاع كثيرة من العالم ساحات حرب لا تهدأ، وينتهك حق الأمان الطبيعي ولو في ظل سيادة لا تتورع عن الانتهاك والاغتصاب. ومن وجه آخر، يغلب ما يشبه إجماع، تؤيده التجربة، على أن إصلاحاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً لا يتولاه أهل المجتمعات والدول أنفسهم، لا يرجى منه تأصيل المعايير الثقافية والسياسية والإجتماعية في علاقات أهل المجتمعات. فلا يُخلَص من هذا إلى مبدأ أو أصل سياسي موجب، يدعو إلى عمل بعينه، بل يخلص الى أصلين سالبين: فلا يسع البربرية الإعتصام بالسيادة والإستقلال من حَكَم المجتمع الدولي فيها، ولا يُلزم أحد، ولو كان هيئة أمم، باستعمال القوة، وليست العقوبات الإقتصادية، أو الحظر على العلاقات السياسية والعسكرية والتجارية المباشرة، إلا صيغة للتخلص من الترجح بين أحكام السيادة وهي أحكام المجتمع الدولي في التسامح وأحكام مجتمع مدني دولي أو كوسموبوليتي، على ما سمّاه كانط قبل قرنين من الزمن. وإلى الإمبراطوريات والمجتمع الدولي يقوم التسامح وجهاً من نظام المجتمعات التوافقية، على ما يترجم بعض اللبنانيين، ويلازم الدولة - الأمة منذ استتبابها على الهيئة الدستورية المعروفة. وتتشارك جماعات، دينية أو قومية أو محلية، مختلفة في تصريف الدولة التوافقية، المؤتلفة من مثل هذه الجماعات. وتنشأ الدولة التوافقية من جماعات سبق لها ان أقامت الواحدة بجوار غيرها من الجماعات، وقتاً طويلاً قبل تكريس هذا الجوار والبناء عليه. وغالباً ما يلحم بين الجماعات مقاومة مشتركة لتسلط حكم إمبراطوري أو سلطاني، خارجي على أنحاء مختلفة ديناً وقوماً، ديناً أو قوماً. فإذا استتبت اللحمة السياسية، قبل نشأة حركات قومية في صفوف الجماعات المختلفة، آذن ذلك بدوامها وقوتها. وكذلك الأمر، إذا لم تطرأ على الجماعات، كل جماعة بمفردها، تغيرات تباعد بين الجماعات، وتفرق بين مبانيها الإقتصادية والإجتماعية والسكانية عدداً وفئات. فاذا أفلحت "المفاوضة" بين الجماعات تحولت الدولة التوافقية إلى دولة - أمة، وإذا أخفقت انفجرت الحروب الداخلية، وأنشأ المنتصر دولة يصفها والْزِر، وهو يستشهد حال لبنان على قوله، ب"ما قبل إيديولوجية"، وعلى مثال كلياني توتاليتاري ضعيف. * كاتب لبناني.