في البندقية أمس وفي تورنتو اليوم والمسافة ليست فقط ألوف الأميال، وقارة وبضعة بلدان، بل ايضاً ثقافة مهرجانين كل منهما يختلف عن الآخر في الشكل والمضمون والاهتمام تقريباً. بداية، لا يطرح "تورنتو" نفسه بديلاً او منافساً للبندقية. في الواقع لا يطرح نفسه بديلاً او منافساً لأحد لأن لا أحد مثله. تورنتو لا يكترث لمسابقة، وبالتالي يخلو من لجنة تحكيم ومن التوقعات والتحبيذات ثم الاحتجاجات. يتبلور "تورنتو" على انه "المهرجان الذي يحب السينما" في مقابل "المهرجانات التي تحب الفن" البندقية، سان سابستيان، برلين - ولو انها تعرض نسبة من أفلام الاستديوهات الأميركية ايضاً أو "المهرجانات التي تحب كل شيء" كان. اذا كانت كنديا هاويا للسينما، فإن ال319 فيلماً التي عرضها مهرجان "تورنتو" هذا العام هي مثل شلال من الأفلام. جاءت من 71 بلداً وشملت 171 فيلماً يعرض عالمياً لأول مرة او لأول مرة بالنسبة لشمالي اميركا كندا والولايات المتحدة. انه شلال يروي عطش الظمآن الى الأفلام المختلفة من كل حجم واهتمام وتقريباً من كل دولة تحقق افلاماً تعرض. باقي الأفلام سبق لها ان عرضت في برلين أو كان او البندقية او لوكارنو. لكن المشاهد الكندي لا يكترث لذلك لأنه لا ينتقل الى هذه المهرجانات لمشاهدة ما يعرض فيها، بل بات ينتظر هذه الرصة القيّمة لمشاهدة افضل ما جال المهرجانات، كما العدد الكبير من العروض التي يخصها المهرجان الكندي لنفسه. في دورته الرابعة والعشرين استقبل المهرجان مؤونته المطلوبة من افلام دول بعيدة وقليلة الظهور في المهرجانات الدولية، مثل سلوفانيا وطاجكستان وكينيا والنروج ونيوزيلنده وتركيا، وأخرى أكثر تعرضاً اليوم من أي وقت مضى للأضواء مثل ايران وصربيا واليونان وتشيلي والبرازيل والمكسيك وتايوان وكوريا الجنوبية، جنباً الى جنب مع السينمات ذات الحضور الدائم والقوي مثل الصين وبريطانيا وفرنساوكندا واسبانيا وايطاليا والولايات المتحدة الاميركية واليابان. والحاضرون بالمئات أيضاً: نجوم ومنتجون ومخرجون من كل هذه الدول، باستثناء يوسف شاهين الذي عرض له فيلم "الآخر" من دون حضوره. هذا على عكس رندة شهال صباغ التي حضرت وعرضت "تحضّر" وتساءلت عن غياب الصحافة العربية في "البندقية"! مقايضة "غالا" هو القسم الذي يعرض الأفلام عرضاً ليليا خاصاً برجال الصناعة، بينما تعرض معظم الأفلام المنتمية الى الأقسام الأخرى، عروضاً عامة ليلاً او نهاراً. و"غالا" هذا العام احتوى على افلام مثيرة للاهتمام من بينها فيلم برازيلي بعنوان "أورفيو" لكارلوس دييغوس يروي قصة حب بين بطليه: هو ملحن موسيقي مشهور ولديه معجبون ومعجبات كثيرون وهي من مواطني قبيلة امازونية معتادة على الحياة الحرة ولكنها تحمل في ذاتها روحاً بالغة الحساسية. التهديد ولا بد ان يكون هناك تهديد ما هو العالم الجشع الذي يدفع بصديق الموسيقار الى الاتجار بالمخدرات وتهديد البيئة التي يقطنانها. ليس فيلماً سيئاً، لكنه في بعض طروحاته ساذجاً ومليئاً بالتمنيات وحسن النوايا. والمخرج سكوت هيكس يقدم قصة حب اخرى، انما متجددة كثيراً، تحت عنوان "الثلج يهطل على الأرز". وهيكس هو المخرج الاسترالي الذي سبق له وأن قدم "تألق" حول عازف البيانو المجنون قطعاً الذي لا يمنعه جنونه من عزف باخ وبتهوفن وسواهما. من بعد ذلك الفيلم ونجاحه تجارياً ونيله اوسكارين على الأقل، انهارت العروض الاميركية على هيكس، لكن هذا تريث واختار مادته بتروّ: اختار فيلماً مأخوذاً عن رواية لديفيد غوترسون نشرت قبل اكثر من عشرة أعوام، حول ما آلت اليه حال الاميركيين من أصل ياباني بعدما قصفت اليابان بيرل هاربور الاميركي، وكيف قامت الحكومة بزج المواطنين في المعسكرات تحسباً لعدم اخلاصهم للبلد الذي هاجروا اليه. لكن الفيلم اذ يقدم هذا الاستعراض الشامل، يشير ان تعصباً شعبياً من بيض اميركا صوب اليابانيين صاحب هذا الموقف الحكومي. في ثنايا ذلك قصة حب بين ايثان هوك كان في الحادية عشر من عمره عندما لعب دور واحد من تلامذة روبين ويليامز في "جمعية الشعراء الموتى" لاسترالي آخر هو بيتر وير في العام 1989 ويابانية اميركية يوكي كودو ممنوع عليه التبلور بسبب هذا الموقف العام، ثم بسبب موقف التقاليد اليابانية التي كانت منغلقة آنذاك. تتزوج من ياباني يتهم بعد حين بجريمة قتل هو بريء منها، لكن في ظروف تلك الفترة لم يكن من السهل اثبات براءته. التقيت ومجموعة الفيلم مطولاً، بمن فيهم المنتجات كاثلين كندي وفرانك مارشال المتزوجان من 12 سنة وهما اللذان شاركا ستيفن سبيلبرغ شركته الانتاجية "امبلين". محور اللقاء لم يكن هذا الفيلم الذي له وعليه فقط بل فيلماً آخر لهما اصبح حديث هوليوود والعالم من حيث لم يتوقع احد. انه فيلم "الحاسة السادسة" للمخرج الهندي الأصل م. نايت شمليان وبطولة بروس ويليس، لكن الحديث عنه انطلق من فيلمهما الجديد: كيف ولماذا اخترتما سكوت هيكس لاخراج هذا الفيلم المختلف تماماً عن "تألق". - مارشال: في الحقيقة هو الذي اختارنا. المشروع كان له اساساً وقد سعى كثيراً لاتمامه لكنه كان يواجه بعقبات انتاجية. عندما اتينا الى المشروع كانت يونيفرسال راغبة في تمويله لكن حقوقه كانت بحوزة ديزني فقايضناها... فيلماً بفيلم. ماذا يعني ذلك؟ أي فيلم؟ - كندي: هذا الفيلم بفيلم "الحاسة السادسة". - مارشال: ذهبنا الى ديزني وعرضنا عليهم الافراج عن "الثلج يهطل على الأرز" لقاء حصولهم على فيلم كان بحوزتنا هو "الحاسة السادسة". لكن "الحاسة السادسة" كان بحوزة مخرجه على اساس انه فيلم صغير، كبر حينما وافق بروس ويليس على بطولته. - كندي: قبيل وصول بروس ويليس اليه اجتمعنا والمخرج شمليان وبدأنا العمل معاً. والميزانية كبرت ضعف ما كانت عليه. كان المخرج ينوي تحقيق فيلم بنحو 15 مليون دولار، لكن بوجود ويليس لا يمكن تحقيق هذا الفيلم بأقل من خمسين مليون دولار. ما رأيكما بالنجاح الكبير والمفاجئ الذي حققه "الحاسة السادسة" اذن: 200 مليون في ستة أسابيع؟ - مارشال: لا املك كلمات تصف رأيي. انه واحد من تلك الأمور التي تقع دون حسبان. هل تتوقعان ل"الثلج ينهمر..." اي نجاح تجاري على صعوبة موضوعه؟ - مارشال: نتوقع ان يثير اهتمام قطاع كبير من الباحثين عن الفيلم الفني وربما استطاع دخول الأوسكار وبالتالي لديه احتمالات تجارية مهمة. يهوديان في المحنة وقصص المعسكرات تكررت في تورنتو هذا العام. معسكر اعتقال ياباني للأميركيين المنحدرين من الامبراطورية الآسيوية، ومعسكران لليهود واحد في فيلم "نور الشمس" والآخر في فيلم بعنوان "يعقوب الكذاب". أقل هذين الفيلمين قيمة هو "يعقوب الكذاب" المقتبس عن رواية ليورك بيكر. في الأصل كتبها سيناريو لحلقات تلفزيونية في منتصف الستينات، لكن عندما لم يشترها أحد حوّلها الى رواية ومن الرواية تحولت في العام 1975 الى فيلم سينمائي من انتاج ألماني شرقي. الفيلم الجديد انتاج اميركي تم تصويره في بودابست حيث تم بناء حي يهودي يشبه الحي الذي وقعت فيه الاحداث في وارسو. بطله، يعقوب ويؤديه روبين ويليامز يهودي في الحي المغلق خلال الاحتلال النازي. وهو يبتدع مرة كذبة مفادها ان لديه راديو يستقي منه الاخبار التي تقول ان الجيش الروسي بات على مقربة من الحدود البولندية وانه في طريقه الى تحريرها. يهود الحي يصدقون ان لدى يعقوب جهاز راديو ممنوع حينها عند اليهود امتلاكه ويبنون آمالهم على أكاذيب يعقوب الذي يريد كشف الحقيقة، لكنه إزاء الآمال العالية المنصبة عليه يضطر الى مزيد من الكذب. هذا الى ان يعتقله النازيون طالبين منه الكشف عن مكان الجهاز. وحينما يدرك النازيون انه كذاب يطلبون منه اعلان ذلك على اليهود، لكنه يأنف عن ذلك فيقتله القائد الألماني امام مواطنيه عقاباً. رغم ان الانتاج اميركي، الا ان الفيلم لا يحمل طابع الاستديو، بل يبدو كما لو كان هو الآخر انتاجاً المانياً شرقياً. المخرج بيتر كازوفيتز والد المخرج الفرنسي الشاب ماثيو كازوفيتز صاحب "الحقد" ولد في المجر وحمل "النجمة الصفراء" في العام 1944 قبل ان يهرب وعائلته الى فرنسا ويختبئ فيها. حقق افلاماً تلفزيونية في الغالب، والسمة السائدة هنا تلفزيونية من حيث تحريك الكاميرا في افتعال ملحوظ في احيان كثيرة وتحديد حجم اللقطات. لكنه يقبض على الحس الانساني من حين لآخر. انه عن يهودي يكذب لكي يرفع من آمال باقي اليهود كما فعل بطل "الحياة حلوة" لروبرتو بنيني. والمقارنة بين الفيلمين لا يمكن مقاومتها وستنتهي لصالح فيلم بنيني الذي يتمتع بالمزج المثالي بين المادة التي هي مأساوية في أساسها والمعالجة الكوميدية. "يعقوب..." لديه القاعدة المأساوية بطبيعة الحال انما المشكلة في الكوميديا التي تأتي سمجة وثقيلة الوقع وغير مؤثرة. الفيلم الآخر هو "نور الشمس" وهو من مخرج مجري ايضاً انما اعلى شهرة وأمهر عملاً. انه اشتفان زابو احد مخضرمي السينما المجرية. هذا انتاج مجري - ألماني - كندي - نمسوي يبلغ طوله 180 دقيقة ويتخذ شكلاً ملحمياً. انه يحيط بحياة ثلاثة اجيال من عائلة واحدة. الممثل البريطاني رالف فاينس الذي لعب دور الضابط في "لائحة شيندلر" يؤدي دور الجد ثم الأب ثم الإبن في تعاقب مثير للاهتمام للحياة السياسية في المجر من مطلع العقد الى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ما يميز هذا الفيلم على صعيد حكايته هو نقده بعض اوجه الشخصية اليهودية التقليدية، لكنه نقد محدود يعود عنه الفيلم قبل النهاية، كما يعمل طوال الوقت على ابراز سمة العنصرية لدى غير اليهود وعلى تكرار اظهار الاضطهاد الذي لحق باليهود لا خلال الفترة النازية فقط، بل ايضاً - وحسب ادعاء الفيلم الذي كتبه ازرائيل هوروفيتز واشتفان زابو - خلال الفترة الشيوعية لاحقاً.