لعل اول ما يفاجئ زائر تورونتو للمرة الأولى، حين يطلّ عليها عند الصباح المشرق من علوّ ما، صحة اللقب الذي يطلقه كثيرون عليها: نيويورك الصغيرة. فالحال، هناك اشياء كثيرة في تضاريس المدينة وعمرانها يخلق لها روحاً عامة تعطيها سمات الحاضرة الأميركية الكبيرة. غير ان نظرة ثانية، ومعايشة اولى للمدينة الكندية ستكشفان ان الأمر ليس عمراناً وتضاريس فقط، بل هناك الروح ايضاً، الروح التي تجعل تورونتو مشاركة في امر آخر شديد الأهمية والعمق، مع نيويورك: اوروبية المدينتين. فحتى لو كان معظم ما يشاهده المرء او يعيشه من حداثة فاقعة في المدينتين معاً، ينتمي الى حداثة اميركية شمالية لا لبس فيها، من المؤكد ان ثمة تحت القشرة الخارجية روحاً اوروبية خالصة من الصعب ادراك تفاصيلها إلا بعد معايشة طويلة. لكنها هنا تحسّ بقوة، بل تحسّ الى درجة يبدو صادقاً معها من يقول ان تورونتو الآنغلوفونية تبدو اكثر اوروبيةً من مونتريال الكندية الفرنكوفونية. هذه الأخيرة ربما تعكس الأعلى الفرنسي لما قبل الطغيان الأوروبي المازج، أما تلك فإنها في صلب ذلك الطغيان. اما ذروة هذا التفكير فتخالج المرء في تورونتو امام مهرجانها السينمائي السنوي الذي بات منذ حقبة واحداً من اهمّ المهرجانات السينمائية في العالم، وهو بالتأكيد المهرجان السينمائي الرئيس في طول اوروبا الشمالية وعرضها. فهل يجب ان نقول انه انما حاز هذه المكانة بفضل اوروبيته تحديداً؟ الجمهور هو الحكم بالتأكيد... ولكن هنا لا ينبع هذا الحكم من حدس او احساس ما. بل من واقع المهرجان نفسه، هذا المهرجان الذي يختتم بعد يومين دورته الجديدة، ولكن من دون اي قدر من التشويق الذي يصاحب عادة توقعات الحفل الختامي. فهنا في تورونتو ليس ثمة جوائز ختامية او لجان تحكيم ضخمة من النوع الرائج في المسابقات الرسمية الأوروبية، ولئن كان ثمة سلّم تفضيلات في نهاية الأمر، فإنه سلّم يترك الى الجمهور أمر ترتيبه. صحيح انه يكون ذا اهمية في هذا المعنى ولكن ليس كما يحدث في بقية المهرجانات العالمية. الأهمية الأساسية في مهرجان تورونتو تعطى للأفلام نفسها. للعروض السينمائية. للتنوع. وفي هذا السياق تحديداً يمكن الحديث عن «اوروبية» تورونتو ومهرجانها. وهي اوروبية قد تتفوق في نظر كثر على اوروبية مهرجانات مثل «كان» و «البندقية» و «برلين» وتحديداً لأن من المعهود ان هذه كثيراً ما تسعى لكي تكون أميركية، على العكس من المهرجان الكندي الذي يجهد، وأحيانا اكثر من اللازم، لكي يبدو اوروبياً. والحقيقة اننا حين نتكلم هنا عن هذه النزعة الأوروبية نكاد نتكلم عن النزعة الكوزموبوليتية التي فرضتها المهرجانات الأوروبية على محبي السينما في العالم. وكوزموبوليتية تورونتو الأوروبية هذه، تكفي لاكتشاف حضورها الطاغي، نظرة على ما هو معروض من افلام في دورة هذا العام... فهي آتية من كل القارات ومن كل المناطق الجغرافية التي لا يزال فيها للإنتاج السينمائي حضور ما. وعدد الأفلام المعروضة في هذه الدورة يقترب من اربعمئة فيلم بين طويل وقصير، بين روائي وتسجيلي، بين محلي وعالمي... وحتى بين جديد وكلاسيكي. لكل صنف هنا مكانه وأفلامه ومحبّوه الى درجة اننا لو حاولنا ان نضع لائحة بالعروض وأسماء الأفلام وأسماء اصحابها لاحتجنا صفحات وصفحات. ومن هنا قد يكون من الأفضل ان نقول ان تورونتو عرض خلال الأيام التي مرّت حتى الآن على دورته هذه، كلّ ما كان سبق لمعظم المهرجانات الكبيرة في العالم أن عرضته، ناهيك بعشرات الأفلام التي تعرض هنا للمرة الأولى. ومن هنا قد لا يكون مجافياً للمنطق ان نسميه «مهرجان المهرجانات». ففي دورة هذا العام تحضر معظم الأفلام الكبيرة التي كانت عرضت في دورة «كان» الأخيرة، وتلك التي فاتت «كان» فعرضت في «البندقية»، ومنها ما كان قبل ذلك قد عرض في «برلين»... الخ. وعلى هذا النحو يتجاور هنا جديد تيرنس مالك «نحو الدهشة» مع جديد والتر ساليس «على الطريق» المأخوذ من رواية جاك كيرواك... ولئن كان هذان الفيلمان قد خيّبا آمال منتظريهما في «كان» و «البندقية» تباعاً، فإن استقبالهما هنا بدا اكثر تسامحاً، ولعله محق ذلك الناقد الذي قال تعليقاً على هذا، ان من يحب السينما لا يمكنه ان يتحدث عن خيبة امل الوهلة الأولى طالما نعرف ان الزمن والعروض والمشاهدات التالية تخفف عادة من الوطأة. وما نقوله هنا عن هذين العملين المستعيدين في تورونتو بعض بريق يستحقانه، لا ينطبق طبعاً على «السيّد» لبول توماس اندرسون الذي صفق له الهواة والنقاد هنا بقدر ما صفق له في «البندقية»... وهكذا حال فيلم اوليفييه السايس «بعد أيار» الذي يقابل هنا باستحسان. في المقابل، ابدى كثر حيرتهم امام فيلم «بييتا» الكوري الذي فاز بالجائزة الكبرى في البندقية فيما كان يعرض هنا في تورونتو (راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة). هوليوود تصوّر هنا هذا بالنسبة الى بعض الأفلام التي سبقتها الى تورونتو سمعة ما... اما تلك التي بدت كاكتشافات فكانت اكثر عدداً بكثير، ولا سيما في التظاهرات الرئيسة مثل: «المعلمون» و «عروض خاصة» و «مافريك» حيث عرض معظم الجديد الآتي من بلدان راسخة في الإنتاج كالولايات المتحدةوفرنسا وبريطانيا ناهيك بالأفلام الكندية نفسها والتي لفت ارتفاع عددها الأنظار، ولا سيما انظار الذين كانوا اعتادوا ان يعتقدوا الفيلم الكندي فيلماً اميركياً هوليوودياً لا اكثر ولا اقل. ولعل قولنا هذا مناسبة لإشارة هامة نبهنا اليها كثر من الأصدقاء هنا وفحواها ان تورونتو، خارج اطار مهرجانها، تعتبر مكاناً مفضلاً لتصوير الكثير من الأفلام الهوليوودية. وهذه ممارسة تتبعها الشركات الإنتاجية منذ سنوات، من ناحية لأن كلفة التصوير هنا ارخص، ثم وهذا اهم، لأن التصوير في تورونتو يخلّص المنتجين من ضوابط رقابية ونقابية كثيرة تكاد احياناً تدمر السينما الهوليوودية. غير ان هذه مسألة من الصعب ربطها بالمهرجان حتى ولو كان عدد الأفلام الكبيرة، والهوليوودية المعروضة فيه كبيراً. إذ حتى في هذا الإطار لا بد لنا من ملاحظة ان معظم الأفلام الأميركية المعروضة انما هي من النوع الذي يستهوي عادة الجمهور والمهرجانات الأوروبية، حتى وإن غاب جديد دافيد كروننبرغ او وودي آلان او تيم بورتون – وهم، طبعاً الأكثر اوروبيةً بين المخرجين الأميركيين والذين كان من شأن حضورهم ان يزيد من «الدوز» الأوروبي في تورونتو. غير ان هذه مهمة تمكّنت من انجازها مواهب سينمائية اخرى ومتعددة سواء اكانت آتية من هوليوود أم من اوروبا نفسها أم من غيرهما. فميشال هانيكي موجود بتحفته «الفرنسية» «حب»، وفرانسوا اوزون موجود بجديده والإيراني كياروستامي حاضر بجديده الياباني، وماتيو غاروني بفيلمه الفائز بإحدى جوائز «كان»، «الواقع»، والصيني شين كيغي حاضر بعد غياب طويل بفيلم صيني جديد له. وغير بعيد منه يحضر تاكيشي كيتانو بالجزء الثاني من فيلمه «هيجان»... والقضايا السياسية والاجتماعية التي تؤرق عالم اليوم حاضرة، من غضب الطبيعة (كما في «المستحيل») الى الأزمة الاقتصادية العالمية (كما في «رأس المال» للفرنسي العائد كوستا غافراس) والظلم اللاحق بالدول الفقيرة حاضر، وعلى الأقل من خلال تكريم خاص للراحل حديثاً، كريس ماركر. كما ان تاريخ التمثيل النسائي الرائع حاضر – الى جانب عابرات السجادة الحمراء من كبار نجمات زماننا – من خلال تكريم خاص للرائعة آنا مانياني وعرض عدد من افلامها الإيطالية القديمة.. فهل نتابع؟ .. وشرقنا الأوسط الحبيب ربما يكون هذا ضروريا... ومع ذلك قد يكون من المنطقي إرجاء الحديث عن مزيد من التفاصيل، الى مناسبات لاحقة للتوقف هنا، في ما يخصنا نحن العرب، عند ما هو حاضر يمثلنا في هذه الدورة من تورونتو. للوهلة الأولى قد يبدو الحضور العربي ضئيلاً من الناحية الكمية حيث اذا جمعنا الأفلام العربية مع الأفلام غير العربية الموقّعة من سينمائيين غير عرب لكنها تتناول قضايا عربية، سنجدنا امام ما لا يزيد عن دزينتين من الشرائط. غير ان ما يعزّي هنا، هو ان ما تم اختياره وعرض او سيعرض من افلام ذات علاقة بالقضايا والشعوب العربية يكاد يمثل مروحة عريضة كانت كافية لوضع العالم العربي والشرق الأوسطي في قلب هذه المناسبة السينمائية التي تقام على بعد آلاف الأميال من المنطقة العربية. فلماذا لا نضيف الى هذا واقع ان ثلاثة شرائط عربية – في شكل او في آخر – عرفت كيف تلفت الأنظار وتستجلب كتابات وضعت بعض النقاط على بعض الحروف؟ فيما يعنينا، من الواضح اننا سنتناول هذه الأعمال، ومراراً عدة لاحقاً، لكننا في انتظار ذلك لا بد من ان نشير الى ان الفيلم «العربي» الأكثر بروزاً وإثارة للسجال هنا – حتى كتابة هذه السطور على الأقل – هو الفيلم الجديد للمخرج اللبناني زياد دويري الذي كان سبق له ان حقق شهرة واسعة في عالم السينما العالمية بعملين لافتين على الأقل هما «بيروتالغربية» و «ليلي قالت هذا»، وهو اذا كان جعل الحرب اللبنانية موضوع فيلمه الأول والعمال العرب المهاجرين في فرنسا، موضوع الثاني، فإنه هنا، في جديده «الهجوم»، يدنو من القضية الأصعب، من القضية الفلسطينية، ولكن ليس من الزاوية التقليدية: انه هنا يقتبس رواية للكاتب الجزائري باللغة الفرنسية «ياسمين خضرا» ليطرح تساؤلات شائكة حول العمل الفلسطيني من خلال حكاية استاذ من عرب إسرائيل يكتشف فجأة مشاركة زوجته الشابة، وربّة البيت الهادئة، في عملية انتحارية اودت بحياة مدنيين اسرائيليين... فيتجاوز حزنه ليحقق في ما حدث. لقد اثار هذا الشريط القاسي، وفي الوقت نفسه، اعجاباً وسجالاً... كذلك حال فيلم آن- ماري جاسر «لما شفتك»... وهو بدوره عن فلسطين ولكن عبر نظرة اخرى... بهذين الفيلمين إذاً حضرت فلسطين في تورونتو لتحضر ايضاً في بضعة شرائط اخرى مثل «عالم ليس لنا» للبناني مهدي فليفل... ثم من خلال فيلم الأميركي دين سيتون «الدولة 194» ذي النيات السلمية الطيبة! اما القضية السورية التي باتت جرحاً جديداً تعبّر السينما عنه فحضرت من خلال اعمال كثيرة لعل ابرزها فيلم هالة العبد الله «كما لو اننا نمسك كوبرا» التسجيلي الذي يتناول مظاهر العنف والقمع في سورية. اما الكندية من اصل سوري ربى ندا فتناولت بدورها شأناً سورياً ولكن من خلال حكاية أب مستقر في كندا يعلم يوماً ان ابنته الشابة اختفت في دمشق فيبدأ رحلة للبحث عنها... تكون في النهاية رحلة في الزمان كما في المكان... وفي المقابل لا تغيب بلدان المغرب العربي التي تحضر منها الجزائر، مرتين على الأقل، مرة مع سعيد ولد خليفة بفيلم عن واحد من اول شهداء الثورة الجزائرية «زبانة» الملاكم البطل الذي قتله الفرنسيون العام 1959 حين شارك في الثورة ضدهم، والثاني «فدائي» للمخرج الفرنسي داميان اونوري وموضوعه محارب قديم يكشف بعض المعلومات التي كان مسكوتاً عنها حتى الآن، عن فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر. المخرج صار مخرجة مقابل هذا الغوص «الجزائري» في التاريخ، ثمة حاضر عربي وعربي مهاجر يطل برأسه... ولئن كان فيلم يسري نصر الله الأخير «بعد الموقعة»، الذي تجول في مناسبات ومهرحانات عدة حتى الآن، قد حاول ان يغوص في «بعض» الواقع المصري «الثوري» الراهن... فإن الفيلم لم يبد مثيراً للاهتمام اكثر مما ينبغي وربما لأن سمعته قد سبقته وسبق ان قيل عنه الكثير بحيث لم تعد هناك زيادة لمستزيد، او ربما لأن «تسارع ما يحدث في مصر وحولها جعل نياته الطيبة ونزعته التصالحية تبدو قديمة بعض الشيء» وفق تعليق سينمائي صديق! مهما يكن، لم يكن هذا كل السينما العربية المعروضة في تورونتو... فهناك اعمال عدة اخرى بعضها عرض وبعضه سيعرض خلال اليومين الباقيين، مثلها في هذا مثل عشرات الأفلام الآتية من بقية انحاء العالم ومن مختلف حساسيات الكون ومن احداث الراهن وعواطفه، تأتي كلها لتعطي مهرجان تورونتو نكهة استثنائية جاعلة منه،على الأقل، اهم حدث سينمائي في اميركا الشمالية – بعد جوائز الأوسكار التي سيحل أوانها بعد شهور قليلة، ويقال منذ الآن إن عدداً من الأفلام المرشحة لها هذه المرة، عرضت وتعرض في هذا المهرجان الكندي الطموح - وكل هذه الأفلام تأتي هنا مجتمعة متنوعة لتقول، من جديد، ان هذا الفن لن يموت بل انه يعرف كيف يجعل من نفسه حدثاً دائماً... حتى وإن كان يحدث في بعض الأحيان ان يسرق المشهد منه حدث آخر قد يكون في حد ذاته صغيراً... لكنه سرعان ما يرتدي ثوباً فضفاضاً يكبّره. وهذا النوع الأخير من الأحداث لم يفتقر اليه مهرجان تورونتو هذا العام: ففي وقت كان الحضور، اول ايام المهرجان منشغلين بإحصاء الأفلام وتحديد ما سيمكّنهم الوقت الضيق من مشاهدته منها، اعلن احد المخرجين الشقيقين واشفسكي (صاحبي «ماتريكس» بين تحف سينمائية اخرى) انه لم يعد لاري، بل صار اسمه من الآن وصاعداً لانا... وذلك «ببساطة» لأنه تحوّل من ذكر الى انثى وصار «الأخوان» واشفسكي أخاً وأختاً... نفهم ان هذا الخبر أثار اهل المهرجان حيث يعرض آخر افلامهما «كلاود اطلس»... لكن الإثارة لم تدم سوى يوم واحد عادت الأمور بعدها الى مجراها... أليس مهرجان تورونتو اوروبياً اكثر منه اميركياً بامتياز؟