حين تم افتتاح عروض فيلم "ممفورد" قبل اسبوعين في الولاياتالمتحدة، حل هذا الانجاز الجديد للمخرج لورنس كاسدان، في المركز التاسع مسجلاً اكثر بقليل من مليونين و500 الف دولار وعاكساً المستقبل الداكن لفيلم يختلف عن السائد، ولو ان هذا وحده ليس مبرراً لاعتباره منتمياً الى ماهو افضل أو أعمق. في الأسبوع ذاته بدأ عرض بضعة أفلام جديدة اخرى من بينها "يعقوب الكذاب" الذي حل في المركز الثامن بإيراد متقارب، ثم "خطر مزدوج" الذي تسلق القمة ولا يزال عليها مسجلاً حتى الآن نحو 70 مليون دولار. بالنسبة لفيلم لورنس كاسدان لا يمك تخطئة الجمهور الذي اقبل بحماسة اعلى على عدة افلام فنية من بينها "شكسبير عاشقا" 300 مليون دولار عالمياً و"عيون مغلقة على اتساعها" 121 مليون دولار عالمياً - حتى الآن. المشكلة في "ممفورد" هي انه رتيب والارجح انه - الى حد ما - قُصد منه ان يأتي كذلك. "ممفورد" في ممفورد "ممفورد" هو اسم طبيب نفسي الممثل الجديد لورين دين آت الى بلدة صغيرة اسمها ايضاً ممفورد حيث افتتح لنفسه عيادة ناجحة. انه يداوي رجلاً يعيش "فانتازيات" جنسية دائمة، وامرأة وحيدة، وفتاة لا تعرف ما تريد، وأخرى تشعر بضعف جسدي لا مبرر او تفسير له... كل هؤلاء سعيدون بما يتلقونه منه لكن احداً منهم لا يعلم حتى حين لاحق من الفيلم بأن هذا الطبيب لم يدرس العلم النفسي في اي معهد او جامعة، بل ينقله اولاً بأول عما يتاح له من معلومات، ويستخدم شيئاً بات نادراً في ايامنا هو "المنطق العام" Common Sense. انه يصغي جيداً وينال ثقة محدثه ولا يدّعي شيئاً في المقابل. أحد مرضاه ثري يملك ثلاثة بلايين دولار ليس له اي صديق. ممفورد يعرفه على جارته صاحبة المقهى في تلك البلدة ألفري وودارد ويحيك لهما هناء متوقعاً. في الوقت نفسه يقع الطبيب في حب الفتاة المنهكة القوى ويسعى طبيبان نافسهما ممفرود في نجاحهما لكشف حقيقته بناء على حالة ارتياب يزكيها محام كان ممفورد طرده من مكتبه مارتن شورت. هذا كل ما يحدث في الفيلم وهو ليس بالكثير. وإذا كان، فإن كاسدان لا يقدمه على اساس انه حبكة صالحة لأكثر من عمل صغير وهامشي، خصوصاً وان الشخصيات المشتركة فيه ليس عندها اكثر مما تبوح به الى ذلك الطبيب. والفيلم ذاته ينجلي عن مواقف خافتة غير متبلورة الى حد درامي مثير. لكن على نحو معين فإن هذا ما اراد لورنس كاسدان الذي حقق سابقاً بضعة أفلام جيدة منها "الرعشة الكبرى" و"غراند كانيون" انجازه هو فيلم عن الاصغاء والبوح بالأسرار وعدم القدرة على الاحتفاظ بها بل الاندفاع المتداول في أحاديث فرعية. لكن كاسدان مثله هنا مثل الذي أراد تعتيم مطعمه لفرض جو معين، فعتّمه اكثر مما يجب ما جعل تناول الطعام لدى الزبائن مشكلة. "يعقوب الكذاب" كذاب "يعقوب الكذاب" لديه مشكلة أخرى. في "الحياة حلوة" قطف الممثل/ المخرج روبرتو بنيني ما يمكن ان يكون الأصل وترك ورق "الكربون" لغيره. الأصل هو تقديم شخصية يهودية طريفة تقرر ان تكذب على ابنها وأترابها لكي تصور لهم عالماً وردياً باعثاً للأمل في المحنة التي يتعرضون اليها أيام المعسكرات التي كوّموا فيها. "يعقوب الكذاب"، الذي تم نقله عن فيلم الماني عمره أكثر من عشرين سنة، يتطرق الى الموضوع نفسه لكنه يقع في تلك الحفر التي نجح "الحياة حلوة" في تجنبها وأكبرها حفرة عدم اخذ الموضوع جدياً، وذلك للوصول الى رسالة بالغة الجدية. انه عن ذلك اليهودي روبين ويليامز الذي يسمع ذات مرة نبأ من على الراديو الموجود على مكتب ضابط الماني، بأن الجيش السوفياتي متجه الى الحدود البولندية. يحمل يعقوب النبأ الى الغيتو حيث اترابه غير المسموح لهم بامتلاك اجهزة راديو، ويدّعي بأنه سمعه من جهازه الخاص. غايته بث الأمل في قوم يجدون انفسهم مقطوعي الصلة بالعالم وتحت خطر التوجه في اي يوم الى قطارات تنقلهم الى معسكرات بعيدة. غايته تلك تصيب هدفها وأترابه من اليهود، ومنهم شاب متحمس وعجوز مرت عليه تجارب جعلته متهكماً، وممثل يأمل في ايام افضل، يصدقونه في تلك المرة الأولى وفي كل مرة لاحقة باستثناء، واحد يدرك انه يكذب لكنه يشاركه الشعور بأنه لن يستطيع التوقف عن هذا الكذب بعد كل هذا الأمل الذي بثه لديهم. وفي النهاية، يصدق الألمان ان يعقوب لديه جهاز معنى هذا ان واشياً يهودياً اوشى به لكن الفيلم لا يكترث لعرض هذا الجانب ويحققون معه. تحت الاهانة والتعذيب يعترف بأنه كذب على قومه، فيطلبون منه مصارحة باقي ابناء الغيتو بأنه كذاب. في المشهد الأخير هو لا يستطيع فعل ذلك حتى لا يهدم ذلك الأمل الذي بناه فيطلق عليه الضابط النار ويرديه. بيتر كازوفيتز يعتقد ان معالجة الفيلم بتفاصيل الاجواء البيئية يفيد فيلماً، كان الاجدى به ان يبقى متوارياً لأنه لا يضيف جديداً. ليس فقط انه يذكّر بفيلم "الحياة الحلوة" على الرغم من كل المحاولات التي يقوم بها الفيلم للابتعاد عن تلك المقارنة، بل ايضاً لا يضيف جديداً فوق ما طرحته افلام "الهولوكوست" مراراً وتكراراً من قبل. الى ذلك، فإن تمثيل روبين ويليامز بدا كنوع من استجداء التمثيل. حالة يشعر الممثل فيها بأنه يريد ان يضع امام التاريخ الدور الأفضل لمجرد ان الموضوع، بالنسبة اليه، انساني يتحدث عن مأساة مشهودة. على هذا الأساس يحاول الخروج عن جلده لكن من دون ان يجد ما يكفي من موهبة تتيح له ذلك. هنا يكبح جماحه المعتاد لخلق اوضاع كوميدية لكنه ايضاً غير مؤهل لملء الساحة الدرامية التي يريد العمل فيها. "شرق غرب" نظرة خارجية في "يعقوب الكذاب" الجيش السوفياتي هو المنقذ المنتظر. هذا على عكس ما يرد في فيلم "صنشاين" وما يرد في فيلم آخر هو "شرق - غرب" للفرنسي رجييس فورنييه. بذلك يكون التاريخ فعلاً ملك من يكتبه. في "شرق - غرب" قصة امرأة فرنسية ساندرين بونير متزوجة من روسي مهاجر اوليغ منشيكوف الذي اضطلع ببطولة "حلاق سايبيريا" لأندريه ميخالكوف يقرر العودة الى الوطن الأم بعدما اصدر ستالين والأحداث تنطلق في زمانه وتبقى فيه لما بعد منتصف الفيلم عفواً شاملاً عن كل من ترك البلاد مهاجراً او لاجئاً. لكن الزوجين من أول وصولهما وإبنهما الصغير الى البلاد، ادركا خطأ قرارهما. جواز سفر الزوجة مزق وهي اهينت وضربت والعائلة وجدت نفسها في بيت مقسم الى شقق وسط جيران بعضهم يعمل مخبراً على البعض الآخر. من هنا يتوسع السيناريو الذي كتبه ثلاثة من بينهم رستم ابراهيماكوف وسيرغي بدروف عملاً على "سجين الجبال" في محص وفحص حالات مختلفة من دون ان يفقد محوره. كقصة وككتابة سينمائية، السيناريو جيد وفيه الكثير من المفارقات المهمة والطروحات الذكية. لكن المرء يتساءل اذا ما كان المخرج الفرنسي هو المؤهل فعلياً للحديث عن الموضوع لأن نظرته الخارجية بقيت خارجية على الرغم من معطيات الفيلم المحلية والتاريخية والتفاصيل الكثيرة الموضوعة عبر السيناريو تحت تصرفه. فورنييه كمن يرسم معظم الشخصيات الروسية بفرشاة سوداء، لمجرد ان الفيلم يريد اظهار معاناة غير الروسيين في المحنة التي تعرضوا اليها. وبذلك يدخل في تنميط مرفوض بصرف النظر عن وجهة نظر المرء في التجربة السوفياتية/ الشيوعية بأسرها.