قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. مع ذلك فالمادة الغنية التي وردت على ألسنة من قابلتهم تستحق النشر، لا سيما لما تحمله من معرفة اولية تطول تاريخ البنى والتشكيلات اللبنانية القديم منها والحديث. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. بالأمس نُشرت مقابلات مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر. مصطفى بيضون: بيروت/ صائب سلام آل بيضون يقترعون في الدائرة الأولى من بيروت. عائلة قديمة ربما كان أصلها من المغرب. عائلة تجار وأصحاب دكاكين امتلكت أراضي كثيرة في ضهور الأشرفية والناصرة، وتكاثرَ الورثة وبات على الجد ان يدفع بدلاً لاعفائهم من التجنيد، فتفتت ملكيتهم. التزاوج كان يحصل داخل العائلة. وقد وفد الى لبنان فرعهم الدمشقي - الشيعي فسكن في البداية بجوار آل بيضون في ضهور الاشرفية. كانوا تجارا وكان محمد يوسف بيضون الوجه الابرز لهجرتهم، ومن ابنائه رشيد، السياسي اللاحق، ومحسن، التاجر والناشط في الوسط الاغترابي. وفيما ظل بيضون السنّيون الأكثريةَ في الاشرفية، انتقل رشيد بيضون في الخمسينات الى راس النبع. فآل بيضون عموماً لم يتوغّلوا في بيروت بل عاشوا في الاشرفية ومناطق الحدود بين المنطقتين المسلمة والمسيحية. لكن رشيد حين اضحى نائباً، اواخر الخمسينات، اوحى للبيضونيين السنّة، او هكذا قال بعضهم، انه لن يقدم لهم خدمات وان عليهم التوجه الى زعمائهم الطائفيين. وآل بيضون وقفوا مع العملية الاستقلالية ورياض الصلح، ووثّقوا الصلة بالرموز الاستقلالية المسيحية كهنري فرعون وبشارة الخوري. لكن مع ظهور التناقض بين رياض والشيخ سليم الخوري، بدا الإشكال مطروحاً عليهم للمرة الاولى. وبعد مقتل رياض شعروا بالضياع، وجرّبوا الكثيرين ثم التفتوا الى صائب سلام، غير ان علاقتهم به ظلت مداً وجزراً الى ان حصل صدام 1970 - 1971 بسبب قصة القبضاي درويش بيضون المؤيد لعبدالله اليافي، على عكس مواقف البيضونيين. هكذا أُلصقت بهم تهمة العمل لاغتيال سلام، وزُرعت فعلاً رزمة ديناميت وسُجن درويش في اواخر عمره، وبعد قليل على اطلاق سراحه توفي. هذا لم يؤد الى تدمير العلاقة بصائب بقدر ما اساء الى علاقات البيضونيين بجبّ درويش. والحال ان لقرابات العائلة امتدادات في ميناء طرابلس، مع بيضونيين سنّة. وهناك فخذ منهم انتقل الى الطريق الجديدة، وآخر نزح الى القدس، وعاد الكثيرون منهم الى بيروت، فيما توجد مجموعة كبيرة في مجدل عنجر. ولو بقي رياض الصلح حياً لكانت بيروت كلها وراءه. فبعد رحيله ومع صعود سامي الصلح، ابتعدت العائلات عنه فذهب بعضها الى سلام وبعضها الى عبدالله اليافي الذي تعود عائلته الى راس النبع. وعلى ذكر العائلات البيروتية فان عيتاني اكبرها وربما كانت اكبر عائلات لبنان. فآل يمّوت، مثلاً، جيب على اطراف آل العيتاني ومنهم. لهذا كان السياسيون يتوددون اليهم، فتقرّب منهم وصاهرهم زكي المزبودي مثلاً، وهو صاحب خدمات شخصية ويملك قاعدة مهمة في راس بيروت التي صوّتت كلها له لأنه اول سياسي مسلم من راس بيروت. اما عائلتا شاتيلا وشهاب فتكادان تكونان عائلة واحدة، يُستدل على ذلك بالزيجات والمواقف الواحدة. وآل شاتيلا ليسوا بالضرورة مع كمال شاتيلا، الا ان ضربته، في 1972، بترشيح نجاح واكيم، كانت ضربة ذكية جداً. على اي حال فبعد ثورة 1958 صعد نجم صائب، وكان شمعون قد اسقطه قبل عام بعدما حوّل بيروت دائرة انتخابية واحدة. وهكذا جيء بدلاً من الزعامات المعروفة بجميل مكاوي ابن العائلة الصغيرة والمتواضعة. وصارت بيروت كلها، بعد الانتخابات ثم بعد الثورة، مع صائب. باقي الزعامات انعزلت وصار الشارع له. كان اهم رموزه منطقة البسطة وعائلة شهاب الدين التي عُرفت بقبضاياتها. والقبضايات لا يمكن ان يغفلهم الكلام عن بيروت. هم لم يلتحقوا بالمقاومة اذ وجدوا فيها منافساً يضرّ بهم. انهم جيل انقرض كانت العائلات الكبرى، لا سيما شهاب الدين وشاتيلا، تفرزه على الدوام. والقبضاي كان الكسّاب الوهّاب، يتبادل الخدمات مع الاقطاع السياسي، ويستفيد من خدمات الدولة وحمايتها كما حصل مع شمعون وادارته، ثم خصوصاً مع المكتب الثاني الشهابي. صائب سلام كان حاضراً على الدوام في هذا التاريخ البيروتي. لكن مع الموجة الناصرية وتوتر العلاقات بينه وبين الناصرية والشهابية، حصل انفضاض عنه طال الجميع. ولم يعد صائب للصعود الا مع استفحال اعمال المكتب الثاني في عهد شارل حلو فتجرأ عليه في خطاب الكارلتون. وعندما تحول كمال جنبلاط وجاهر بنقده، بدأت تقوى عناصر الردة على النهج الشهابي. وكان من محاور الصراع يومها معركة المقاصد: رشيد الصلح وعثمان الدنا كانا قريبين من السلطة واطاحهما صائب في انتخابات 1968. وكان من شعاراته آنذاك مكافحة الفساد وسيطرة المكتب الثاني على المقاصد. لقد صعّد المعركة وحوّلها الى معركة بيروت كلها، ولعبت هذه المعركة دورها في وصول حليفه سليمان فرنجية الى الرئاسة عام 1970. حينها كانت حركة القوميين العرب بحاجة الى واجهة فجيء بجميل كبي ليكون رئيس نادي متخرجي المقاصد. ودخل كبي جمعية البر والاحسان والتحق بجامعة بيروت العربية ليصير اعلى موظف لبناني فيها، ثم ليتولى امانتها العامة. وفي 1970 اقمنا تجمعا شبابيا على اطراف المقاصد، فتداولنا مع صائب في الانتخابات وطُرحت فكرة تجديد الحياة النيابية والحكومية التي انبثقت منها لاحقاً فكرة "حكومة الشباب". وقد طرحنا عليه آنذاك اسمين من التجمع ليتمثلا في الحكومة: منير حمدان، الشيعي الذي كان رئيس خريجي الجامعة العربية، وجميل كبي، فأدخلهما فعلاً في "حكومة الشباب". بعد ذلك وفي الانتخابات العامة في 1972، اراد صائب الاتيان بكتلة له فتحالف مع زكي مزبودي ومحمد يوسف بيضون ونزيه البزري في صيدا، كما جاء بكبي. لكن الكتلة ما لبثت ان تفككت، بينما ارتمى منير حمدان في احضان كامل الأسعد فغضب عليه صائب وتخلى عنه. وكان ملحوظاً في سياسة سلام البيروتية أنه لم يأت مطلقاً بأي شخص من عائلة العيتاني على لوائحه، نظراً لضخامة العائلة وحاجته الى ابقائها خارج النادي السياسي ومنعاً لتشكّلها كعصبية سياسية. والشيء نفسه يصح في علاقته بآل شاتيلا. فهو كان يرضي العائلات الكبرى بالخدمات والتنفيعات. لقد اوصل عثمان الدنا، وهو "شيخ شباب" في الطريق الجديدة، خَدوم مثل المخاتير وكريم بنى ثروته من اليانصيب الوطني حين كان شركة خاصة يملك حصة فيها. لكن عائلة الدنا صغيرة، وكذلك عائلة شفيق الوزّان في البسطة التحتا. وحين تحالف صائب مع عدنان الحكيم ظل تحالفهما عابراً وموقتاً. فعندما مشى عدنان في الناصرية، اشتغل صائب على فرط حزبه، النجادة، من الداخل عن طريق محمد كنيعو ومحمد علي الرز، مستغلا هشاشة الحكيم. وبدوره حاول رشيد الصلح التقرّب من العائلات فتزوج من آل شاتيلا الذين دعموه وجعلوا منه نائباً، ولبيت شاتيلا امتداد في أُسَر عين المريسة. اما اليافي فكان دوماً النقطة التي يلتقي عليها خصوم صائب. وعند كل انتخابات نيابية كان خصوم اليافي يوزّعون منشوراً يتحدثون فيه عن اطروحته التي اعدّها لشهادة الدكتوراه في باريس وعُدّت مسيئة للرسول. واما الذين انفتحوا على الجنبلاطية من البيروتيين فكانت تجمعهم احاسيس ليبرالية معطوفة على ميل ناصري وتضرر من الزعامة السلامية. وبينما ظل الشيوعيون افرادا هامشيين فيها، تعرضت العاصمة، بين 1948 و1951، لموجة قومية سورية ارتبطت بحصول النكبة، وبوجود تنظيم قومي مُحكَم وصارم. لقد امتلك الحزب قاعدة معقولة شملت مدراء في مدرسة المقاصد الاسلامية كزكي النقّاش، الا ان الموجة انحسرت مع مقتل رياض الصلح، ثم بفعل التناقض مع العروبة والناصرية. وكانت الحياة الحزبية شهدت مطالع الستينات ظهور فكر اصلاحي شبه ليبرالي في حركة القوميين العرب. كانت بنية الحركة بالأساس مبسّطة، وبمعنى ما، لغوية: لتكن "العودة" محل "الثأر" مثلاً، او النقاش حول "اليهودي" و"الصهيوني". المجموعة اللبنانية كانت رأس الحربة في العملية الاصلاحية ممثلةً بمحسن ابراهيم ومحمد كشلي وأنا. وكان يتحالف معنا نايف حواتمة الذي كان متأثراً بتجربته في العراق، وجماعة اليمن الجنوبي، وبصورة خجولة الحكم دروزة وبعض شبان دمشق. جورج حبش كان الوجه المناهض والداعي للتركيز على الوحدة والتحرير، ومعه فرع العراق باسل الكبيسي والكويتيون احمد الخطيب والفلسطينيون. بعد ذلك، وبين 1963 و1965، راح محسن وكشلي ينكبّان على دراسة الماركسية ويتمركسان، وعندها انفجرت الحركة من الداخل. لقد انتسب الى الحركة افراد من عائلات اساسية في طرابلس، ككرامي والمسقاوي، وقد برز منهم المحامي رشيد فهمي كرامي، وبرهان غلاييني، وحسان مسقاوي، ومصطفى زيادة واخوه عبدالله، ومعن زيادة. لكن الاهم كانت معركة محمد الزيات الانتخابية في صور عام 1960، حيث نال 4 آلاف صوت وفاز الفائزون ب6 آلاف. والحال ان الحركة اتبعت موقفا انتقائيا من الانتخابات، فكانت احيانا تصوّت كما فعلت في العام نفسه في بيروت، اذ ايدت صائب ورشيد الصلح الذي كان يعتبر نفسه تقدميا، فيما لم تصوّت اطلاقاً لأحد في 1964. اما معروف سعد فكانت على الدوام تخوض معاركه بحماسة. ومن معطيات بيروت ان المفتي فيها، وبصورة دائمة، يحاول ان يكون بطريركاً. ومع انه لا بطريرك عند السنة، ظهر عدد من المفتين الاقوياء كتوفيق خالد ومصطفى نجا اللذين جمعا بين الناس وبين دار الفتوى وجمعية المقاصد والاوقاف، اي وضعوا المؤسسات كلها تحت اجنحتهم. والمعروف انه بعدما كان المفتي هو رئيس المقاصد، ونائبه مدنياً، حصل انفصال المقاصد عن الفتوى في الثلاثينات عن طريق تحويل المفتي رئيساً فخريا للمقاصد. وفي اواخر السبعينات، مع صائب سلام، لم يعد ثمة رئيس فخري. وهذا التداخل بين الفتوى والسياسة ليس استثنائياً. فقبل المفتي حسن خالد كان المفتي محمد علايا ضعيفاً. وقيل في تفسير قوة خالد، وهو ابن اسرة عريقة اصلا، ان رغبة القاهرة وسفيرها عبدالحميد غالب بتحطيم سلام، وراء ذلك. وعلى اي حال فحين عاد المفتي الجديد من زيارته القاهرة، استُقبل في بيروت استقبال الفاتحين. كذلك فمن مواصفات الحياة السياسية البيروتية فرصها المفتوحة لأفراد خرجوا من بيئات اجتماعية متواضعة. فسليم الحص فقير ويتيم، ربّته زوجة عثمان الدنا الاولى، وهي خالة الحص او عمّته. وشفيق الوزان من عائلة متواضعة جداً، كان والده فرّاناً، ثم درس المحاماة ودرّس في المقاصد. وجميل كبي من عائلة صغيرة، ربي يتيماً وحضنه اخوه وهو تاجر صينيات وخزف في سوق القزاز. وقد انجز جميل دراسته الثانوية في المقاصد ثم في القاهرة حيث نال الماجيستير. وقبل القاهرة وبعدها كان في حركة القوميين العرب حيث غدا في مرتبة وسطى بين كوادرها القيادية. وكانت سياسة بيروت منفتحة ايضاً على ما عداها. فرياض الصلح، مثلاً، حتى حين كان نائباً عن صيدا شجّع على اقامة "الهيئة الوطنية" كمنبر بيروتي مؤيد له، كما كان وراء حزب النداء القومي، ووراء حزب النجادة في بداياته وقبل ان تؤول قيادته الى عدنان الحكيم. وبدوره وفد عبدالله المشنوق من سورية كأستاذ مقاصدي، ولعب دور "ابو الفقير". كان نشيطاً ودائم الحركة، عمل مع آل النصولي ثم اسس "بيروت المساء" وطالب بحقوق المسلمين، وبعدما صعد نجمه في 1958 اصطحبه صائب على لائحته. لكن المشنوق كوزير للبلديات طالب ببيروت الكبرى فعلا الصراخ: تريد ادخال الشيعة والمسيحيين! واحترق عبدالله. اما معين حمّود فكان ضابطاً متقاعداً في الجيش، تبنّاه عبدالناصر ويقال انه سلّمه وكالة الشركة الخديوية، وهي شركة بحرية كانت وكالتها سابقاً لآل بيهم. وقد بنى حمود زعامته من خلال طرح نفسه امتداداً لعبدالناصر. وفي المقابل كان العلم الديني والثقافة من اسباب زعامة رفيق نجا وصبحي المحمصاني الذي قدمت عائلته شهيداً في 1916. اما نسيب البربير فمن اسرة عريقة وفيها علم، وهي شديدة التداخل قرابيا مع آل سلام. لقد عمل نسيب في الخليج حيث جمع ثروة ثم فتح مستشفاه في بيروت. ومن باب الهواية دخل النادي السياسي متحالفا مع صائب، الا ان الاخير اعتبره يحاول الدوبلة من خلال مستشفاه واطبائه، فيما رأى نسيب ان صائب طعنه واخرجه من المقاصد، ومن هنا كان عنف معارضته له. نجلا حمادة: الهرمل/ صبري حمادة في آل حمادة كانت الزيجات تتم داخل العائلة، والا فمع الأمراء الحرافشة المقيمين حول بعلبك، والذين قلّ عددهم وتردّت أوضاعهم في السنوات الماضية. كان والدي، صبري، اول من تزوج من خارج العائلة والحرافشة. وبزواجه من جنوبية أسعدية، حصل احتكاك بين عالمين ونظامي قيم: فالطبقية في الجنوب امتن منها في الهرمل بما لا يقاس. أي راعٍ من الجرد كان ينادي والدي: يا صبري، وكثيراً ما كان صاحب البيت والخادم ينتميان الى العائلة نفسها. جدتي لوالدي هي ابنة الباشا محمد سعيد حمادة، والحماديون جاؤوا أساساً من العراق، ومع الحمادي الاول الذي وصل، وصلت حاشية مؤلفة من عشائر دندش وعلّو وناصر الدين وغيرها. آل حمادة كانوا عددياً أصغر بكثير من هذه العشائر. في شبابه لم يكن رياض طه بعيداً عن بيتنا. وقد استطاع والدي، بالاتفاق مع رياض الصلح، ان يؤمّن له رخصة لاصدار جريدة لم تكن شروطها متوافرة فيه. أما سهيل حمادة فابن خال صبري، وهو من جبّ ربما كان ارفع من جبّنا اذ يتفرّع عن نسل محمد سعيد حمادة، فضلاً عن كونه الأكبر عدداً في العائلة. وقبل صعود هؤلاء، واجهت صبري منافسةٌ تقليدية مع عمّ سهيل، فضل الله حمادة، الذي لم يوفّق في دخول البرلمان الا حين تحالف مع الوالد في الخمسينات. بهذا يبدو صعود صبري الذي لا ينتمي الى جبّ محمد سعيد، كأنه انقلاب على الجبّ المذكور. فسعدون حمادة، جدي لأبي، كان قبضاياً، وهو ابن اخ محمد سعيد. ومن السياسات البقاعية لصبري، انه احبّ ابراهيم حيدر وشفيق مرتضى وحبيب المطران، كما كان يحب السيد علي الحسيني، والد حسين. فضل الله دندش انطلق في السياسة مع الوالد، لكن فؤاد شهاب قوّاه بالدعم السياسي والالتزامات وغيرها، الا انه لم يطرح في النهاية منافسة جدية. وصبري لم يكن متعصباً دينياً. درس في عينطورة حتى اواخر المرحلة التكميلية، قبل ان يدرس، في وقت لاحق، سنةً في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية. مسيحيو المنطقة كانوا يؤيدونه وكان قوياً بينهم. وفي بعلبك - الهرمل، تقليدياً، تعالٍ حضاري يمارسه السنّة، بصفتهم ابناء مدن، على الشيعة. مع مجيء السيد موسى الصدر، وعلى رغم وقوف الوالد مع المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، بل على رغم اعجابه بالصدر، لم يشعر بالارتياح الى الاجواء الجديدة، والى يقظة الطوائف على ذاتها. لقد حصل شيء من الخلاف مع الصدر لم يقلل الاعجاب والاحترام ولا أخلّ بالشكليات. وكان الوالد يحترم فؤاد شهاب الى ابعد الحدود، ويحب كثيراً حميد فرنجية، الا انه لم يرتح الى شمعون. في 1969 كان موقفه بادي التحفّظ من اتفاق القاهرة. وفي انتخابات 1972 عمل على احلال شبان ومثقفين على لائحته محل ممثلي العشائر. مسعود ضاهر: عكار/ الشيوعيون كان العامل الثقافي وراء انتساب بعض الشبان الى الشيوعية في منطقة الشفَت من عكار. الشفت ارثوذكسي بصورة عامة، رغم وجود جيب كاثوليكي في قرية الشيخ محمد، وآخر ماروني في النفيسة. في الاربعينات وقف الشيوعيون ضد يعقوب الصرّاف، ربما لدستوريته. في العهد الشهابي تحالفوا معه. والشيوعية في عكار موجودة منذ الثلاثينات، لكنها شهدت نموّها الكبير في الستينات حيث جاء الجيل الشيوعي عن طريق بيروت والجامعة، بعدما كانت عكار نفسها مصدر شيوعية الجيل الاول، المحلي. آنذاك، وفي القرى، كان الشيوعي منبوذاً، مسكيناً، "يحب روسيا". قريتي، الشيخ طابا، معظمها من آل الراسي التي تقع فيها الزعامة التقليدية. الشبيبة التي بدأت تنتسب الى الحزب الشيوعي في الستينات ترجع الى عائلات اخرى. وقد اتخذ التنافس على الجمعية التي تأسست في اوائل الستينات باسم "جمعية الانعاش القروي" طابع المجابهة مع آل الراسي، واقامت الجمعية مستوصفا ومكتبة وحفلات غنائية. وعلى عكس قرى ارثوذكسية عكارية عدة، لم يحصل في الشيخ طابا انتساب الى الحزب القومي. في عدبل عائلة دياب انتسبت، وفي تلعباس عائلة جمّال، بينما اتجهت عائلة الضهر الى الحزب الشيوعي. في الشيخ محمد لم ينم الحزب الشيوعي في العائلتين الأساسيتين، الخوري ورحّال، بل في العائلات الأصغر. في رحبة، نما الحزب الشيوعي في عائلات سابا وبرهوم الصغرى، ونما القومي في آل الخوري، العائلة المهجرية المنافسة تقليدياً لزعامة آل حنا، والحزبان وُجدا في هوامش آل البايع وهي العائلة الثالثة عدداً. في منيارة ظهر الشيوعيون في بيت الصبّاغ وهم فلاحون وموظفون، كما في عائلتي سكر وابراهيم. وفي حلبا كان لهم وجود في حي الزوق الواقع في الوادي بين حلبا والشيخ محمد. لقد لعب فريد الاشقر الذي قضى عليه الاقطاعيون، دوراً كبيراً في ذلك. عبدالله الأمين: الجنوب/ البعث تأسس البعث في لبنان مطالع الخمسينات. القيادي التاريخي الاول كان علي جابر، من عائلة تجار ووجهاء في النبطية، وهو طالب الطب في دمشق الذي حضر المؤتمر التأسيسي للحزب وربما كان اللبناني الوحيد. هو الآن في مطالع ستيناته. هذه البداية هي ما حكمت ان تكون بداية البعث في لبنان جنوبيةً. الخلية الاولى كانت من الفلاحين الجنوبيين في منطقة بنت جبيل حيث اقام جابر عيادته للطب العام، وقد ضمت شبانا من قرى عيناتا وبليدا فضلا عن بنت جبيل. كلهم ابناء فلاحين. بعد ذاك بدأ العمل مع معلّمي المدارس. في الجنوب بدا البعث حالة جديدة. بدأت الحالة الثقافية تتجدد معه، لأن الجنوب عاش انقطاعاً في تطوره الثقافي. كان البعث استئنافاً لمسار انقطع، وهذا ما ساعد على انتشاره. وقوي البعث في جبل عامل. الشيوعيون كان لهم وجود فتراجع كثيرا بعد النكبة وبسببها. والحق ان الحالة الشيعية كانت بدأت وعيها لذاتها بعد 1943: لقد ساد في العشرينات ارتباط عاطفي بفيصل الاول في دمشق كابن آل البيت. عائلاتٌ عاملية رحلت مع فيصل وذهبت الى الاردن حيث الأمير عبدالله، ومنهم ظهر عدة ضباط شديدي الولاء بينهم الثائر صادق حمزة، الذي كان يؤدّب قبائل المتمردين بمن فيهم قبيلة كردية. حمزة الذي انتقل الى الحدود الاردنية - السورية قرب درعا، كان بين وقت وآخر يعود الى لبنان ويغير على الفرنسيين من خصوم عبدالله. ومن شيعة الأردن اليوم آل حرب من قرية تولين في قضاء مرجعيون. الشيعة اكتشفوا، في 1943، انهم بقوا على هامش المسألة اللبنانية. بدأ عقلهم الباطن يفكّر في كيفية العودة الى الضوء. وهذا سر امتداد البعث بينهم. البعث قال بالتمرد على الحدود التي دفعوا ثمن قيامها. مع هذا الشعار عاد طيف فيصل الاول. اسرتنا احتفظت بالكثير من هذه التوجهات القومية. عائلة الأمين معارضة للاقطاع الاسعدي، وهي ربما بسبب تناثرها الى قرى عدة، وجدت في شعارات الوحدة والتوحيد ما يزيد في مخاطبتها. لكن اهم من هذا تجربة السيد محسن الامين الذي عاش في دمشق، ووقف ضد الفرنسيين وفي الوقت نفسه ضد الاعمال العنفية الموجهة الى المسيحيين. وهو لم يتردد، كرجل دين شيعي بارز، ان يأكل عند مسيحي في مناسبة شهيرة في الجنوب، كما كان مكروهاً من الايرانيين اذ حرّم الندب في عاشوراء وسارت ضده تظاهرات في العراق فشتمه الايرانيون في شوارع النجف. عدد من البعثيين الشيعة الجنوبيين ولدوا في بيوت فيها صور الملك حسين. هذا سر عدم اقبالهم على الناصرية السنية المعادية لحسين ولهاشميي العراق. مجزرة قصر الرحاب في 1958 كانت تُروى في بعض البيوت الشيعية كأنها كربلاء اخرى. في الخمسينات والستينات لعبت مدرسة الجعفرية في صور للنائب السابق جعفر شرف الدين، وهو نجل المرجع الشيعي عبدالحسين شرف الدين، دوراً ملحوظاً. الطلاب البعثيون فيها كانوا يتوزعون في القرى صيفاً وينقلون دعوتهم. حتى عند المحافظين الشيعة كان للبعث ظلٌ محبّب. وكان اقبال بعض التقليديين على البعث من مصادر خصومته مع الشيوعيين. الرجعيون صار بامكانهم ان يهاجموا الشيوعيين من موقع تقدمي هو موقع البعث الذي كان قريبا من كافة اعداء الأسعد التقليديين ما خلا الزين والخليل: اي جعفر شرف الدين ومحمد صفي الدين وعلي بزي وسعيد فواز ممن كان البعثيون يصوّتون لهم دائماً. الشيوعيون، في المقابل، استقطبوا افراداً في بعض العائلات التقليدية لكنهم لم يحظوا، كالبعث، برعاية هذه العائلات. وفي تاريخ البعث في لبنان ظهر المحامي جبران مجدلاني، وهو من جيل علي جابر. كانت علاقته بميشيل عفلق مصدر بعثيته، وظل بين الاكثر امانة له. لكن في 1963 - 1964 كان جو البعثيين الجنوبيين يخالف الاجواء التقليدية للقيادات، فتعاطف مع علي صالح السعدي وطروحاته في العراق. ثم كاد جميع البعثيين في الجنوب ان يلتزموا ب23 شباط فبراير 1966 لأنهم حزب فقراء، فيما القيادات البيروتية تنتمي الى عائلات اغنياء كمجدلاني والصلح والداعوق. وفي ذاك المناخ انفتح مثقفو الحزب الشيعة والجنوبيون على الماركسية، وكان بينهم علي يوسف الذي ترشح في انتخابات 1972 عن بنت جبيل، والمحامي محمود بيضون، ودرويش الشام من صور. تنظيم بيروت كان ضد 23 شباط، وحصلت افتراقات بين الحزبيين من طلبة الجامعة اللبنانية. في الجامعتين الاميركية والعربية كان الطلاب العرب هم الذين انضموا الى 23 شباط. في الشمال، وبسبب شخص عبدالمجيد الرافعي كطبيب محبوب، لم تنضم الى 23 شباط الا قلة محدودة، وفي عكار اتجهت الاكثرية الى تأييدها، والشيء نفسه يصح في بعلبك - الهرمل. بعد 23 شباط اعتُمد برنامج تثقيفي لا صلة له بالماضي. مُنعت كتابات عفلق، ودخل في بنود البرنامج التثقيفي البيان الشيوعي والمادية الجدلية والتاريخية وكتاب "بعض المنطلقات النظرية للحزب"، وهو التقرير العقائدي الذي صدر عن المؤتمر القومي السادس ورفض عفلق الاعتراف به كما منع تداوله. وقد اعتُبر قراره هذا احد اسباب القيام ب23 شباط. القيادة التاريخية للبعث كان طموح افرادها الوصول الى النيابة. بعد ذاك صعدت قيادة اخرى كان في عدادها المهندس عاصم قانصوه وعبدالله الشهّال والمحامي سهيل سكرية وانا وآخرون، ممن تتفاوت اعمارهم الآن بين الاربعين والخمسين. قانصوه شيعي من بعلبك، درس الهندسة في يوغوسلافيا وابوه كان مهاجراً في البرازيل. وسكرية سني من قرية الفاكهة في بعلبك، درس المحاماة في الجامعة اللبنانية، وابوه كان مختار الفاكهة. والشهّال سني طرابلسي وتاجر ادوية متوسط الاحوال. وانا من قرية الصوّانة عملت في التعليم والصحافة، وابي كان موظفا متوسط الحال في المحاكم الجعفرية. نقولا طعمة: طرابلس منطقة باب التبّانة في شمال طرابلس، تشكّلت من هجرات ابناء عكار والضنيّة الذين اول ما يصلون الى المدينة يصلون اليها. اما القبّة، الى الشرق، فشكّلتها هجرات زغرتا وعكار والضنية. قوة رشيد كرامي عامة ومنتشرة، مع تركّز في ابو سمرا، في الشرق الجنوبي، وفي التبانة. اما قوة عبدالمجيد الرافعي ففي ابو سمرا، التي هو منها، وفي باب الرمل في الوسط، والخنّاق الذي يتفرّع من باب الرمل جنوباً. لقد قدّم الرافعي خدمات صحية للكادحين، كما قدم حزبه، حزب البعث، عدداً من الخدمات من خلال مستوصفات اقامها. مع هذا ظل عبدالمجيد ضعيفا في التبانة، احدى اكثر مناطق طرابلس فقراً. آل الزعبي هم العائلة الأبرز في التبانة، ومعهم آل صبح. وهم دافعوا عنها الى جانب علي وخليل عكاوي، لكن ولاء المنطقة الانتخابي ظل لرشيد كرامي. وقد نمت قوة فاروق المقدّم في الأسواق، شرقي التل وداخل العمق المديني والاسلامي، كما في الجزء الغربي من القبّة الذي هو امتداد الأسواق، ويُعرف بالقبة التحتانية التي تضم ضهر المغر وعقبة البحصة. انها من افقر المناطق واشدها بطالةً ورفضاً للدولة. ونمت الاحزاب اليسارية في القبة الفوقا، قريباً من مصبّ الهجرة الزغرتاوية والهجرة العكارية المحظوظة نسبياً، وحيث البناء الحديث والبنية الاجتماعية المختلطة طائفياً ومناطقياً. جزءٌ كبير من سكان هذه المنطقة عسكر، نظراً الى قربها من ثكنة بهجت غانم. والأحزاب التي نمت هناك، لا سيما مع الحرب، هي الشيوعي الذي يملك وجوداً عريقاً في ميناء طرابلس المختلطة طائفياً، ومنظمة العمل الشيوعي. الحزب الشيوعي له وجود قديم ايضاً بين علويي المدينة، في بعل محسن. المسائل المطلبية هي التي جذبتهم اليه. كذلك نما الحزب سنياً في الاوساط النقابية، لا سيما النقابات الغنية والمتعلمة كالمهندسين والاطباء. الشيوعيون من هؤلاء كلهم تخصصوا في الخارج، وربما كانوا متذمرين من النفوذ السياسي لكرامي على المدينة، مع انهم غالبا ما صوّتوا له في الانتخابات. الاسواق، باستثناء التربيعة، لم يدخلها الحزب الشيوعي. والتربيعة فقيرة ومختلطة طائفياً فيها سنّة وروم ارثوذكس من السكان "الأصليين". حارة النصارى كانت مدخل التربيعة قبل ان يحصل اندماج وتداخل في البناء والسكن، ومثل هذا الاختلاط غير قائم في باقي الأسواق. جمهور الضواحي منقسم، عموماً، بين رشيد وعبدالمجيد وفاروق. اما بورجوازية طرابلس، اي عائلات علم الدين وكبارة ومنلا وبيسار وغيرها، فيمكن القول انهم، الى حد بعيد، موحدون وراء كرامي. آل الرافعي عائلة دينية كبيرة ومهمة، لكن كثيرين منهم ينتخبون كرامي. اما آل المقدّم فعدم قدرتهم تاريخياً على دخول الحياة السياسية، أبقاهم في محطة وسطى بين السياسة والمعارضة الملتهبة في الشارع. في العقود الاخيرة شهدت طرابلس نزوحا متعاظما من ابو سمرا والتبانة والاسواق غرباً، اي نحو المناطق الحديثة كشوارع المئتين والثقافة وعزمي. انها هجرة من كانوا يثرون في المناطق الاولى فيهجرونها. أسرتا الرافعي والمولوي حافظتا على تماسك اقامتهما في ابو سمرا، بينما باقي العائلات تصدّعت وحدة اقامتها. اما الروم الارثوذكس التقليديون، كعائلتي الفاضل وخلاط الغنيتين، فكراميون. وفي وسط ارثوذكس طرابلس، وبين عائلات كعائلة حيدر، نمت "حركة الشبيبة الارثوذكسية"، كما ظهرت ميول تتأرجح بين العروبة العلمانية والقومية السورية. وعلى وجه الاجمال فهذه البيئة اقل كرامية من باقي الارثوذكس. وبدورهم فان اغنياء الارثوذكس وبورجوازييهم يكرهون الشيوعيين الذين ظهروا بين طبقاتهم الوسطى والدنيا. الحلقة الثالثة: الخميس المقبل.