(إلى فادي الأمين) في أواخر الأربعينات، بعد عام على «النكبة» الفلسطينية وفيما المشرق يبحث عن معناه، ظهر «حزب البعث العربي الاشتراكي» في لبنان. كان ذلك بعد سنتين على التأسيس الرسمي ل «حزب البعث العربي» في سورية، حزب ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وقبل أربع سنوات على الاندماج مع «الحزب العربي الاشتراكي» لأكرم الحوراني. وكان علي جابر، المولود في 1923، أول المقبلين على الدعوة وأول الأمناء القُطريين، وفق القاموس العقائدي والتنظيمي للحزب. وجابر ابن عائلة من التجار والأعيان المتوسطين في مدينة النبطية، درس الطب في دمشق، وبصفته هذه حضر مؤتمر 1947 التأسيسي. فحين عاد إلى لبنان، أقام عيادته في النبطية واستقطب إلى البعث فلاحين شباناً منها ومن قرى محيطها المجاور. ولما كانت الجامعة الأميركية في بيروت مقصداً لطلاب عرب، بينهم بعثيون كالعراقي سعدون حمادي الذي اضطلع بدور نشط في نشر الدعوة في لبنان، والبحريني علي فخرو، والأردني جمال الشاعر، والسوري عاطف دانيال، فقد انجذب إليهم اللبناني الصيداوي وطالب الاقتصاد، ثم الاقتصادي، محمد عطاالله، وكلهم ولدوا على ضفاف 1930. والحال أن الجامعة الأميركية كانت، بعد دمشق، المهد الأول للبعث اللبناني، وإن قل دورها هذا عن دورها في انبثاق «حركة القوميين العرب». ففي وقت يرقى إلى 1952، دعا بعثيو الأميركية إلى «مهرجان جماهيري» بمناسبة «عيد الشهداء» في السادس من أيار (مايو)، على أن يقام في مدرسة المقاصد الإسلامية في صيدا تحت عنوان «شهداء العرب». هناك رُفعت شعارات الحزب الوليد وكان الخطباء هم طلاب الجامعة الأميركية البعثيون إياهم. وغدت مقاصد صيدا، بعد المهرجان المذكور، مهداً آخر. ففي المقاصد انتمى طلاب كمصطفى الدندشلي من صيدا، وعاصم قانصوه من بعلبك، وفؤاد ذبيان من مزرعة الشوف، ورياض رعد من ضاحية بيروت الجنوبية. لكن لولب البعث في المقاصد كان الصحافي والمحامي اللاحق غسان شرارة من بنت جبيل. وبعثية الأخير، المولود في 1933، جاءت ثمرة البيت أيضاً. فوالده الشاعر موسى الزين شرارة الذي عُرف بقصائده المنددة بعهود الاستقلال، كان يرعى في منزله حلقات ذات طابع أدبي وسياسي ينسجم مع توجهاته العروبية. هكذا مال غسان إلى الرسالة العفلقية، ومثله فعل ابن عمه طلال، المحامي ورجل الأعمال اللاحق، ومعهما آخرون من الأقارب، حتى عُد البعث، في بنت جبيل، حزب آل شرارة. لكنْ، إذا كانت الجامعة الأميركية وسمت البعث بميسم طبقي وثقافي ما، فإن عالم المدارس التي كان يكثر تلامذتها كما يتضاعف معلموها، وسمه بميسم طبقي وثقافي آخر. وهذا ما لم يُعدم مضموناه الطبقي والطائفي اللذان خرجا لاحقاً إلى النور، ولو بمقدار من التحوير والمداورة. وقد يجوز القول أن تاريخ البعث اللبناني هو تاريخ محاولات التوفيق بين مصالح ورؤى متضاربة لم يكن البعث، بخطابته العروبية والوحدوية البسيطة، كافياً لتذويب تضاربها. أما قيام نظامين بعثيين في سورية والعراق، ابتداء ب1963، وتناحر البعثين المتروبوليين ابتداء ب1966، فلم يتأتَّ عنه سوى تفجير ما تبقى من وحدوية الحزب الوحدوي، بل من وجوده ذاته. طلاب وأساتذة على أية حال، فمنذ البدايات الأولى راح الوزن الذي يشكله المعلمون الرسميون وتلامذتهم يتنامى. وقد نشط إنعام الجندي في مجال نشر الدعوة في الوسط هذا، وهو الكاتب البعثي السوري المقيم في لبنان، والعامل في التدريس والصحافة معاً. كذلك حضر أساتذة البعث الكبار. فقد جاء انتقال عفلق والبيطار والحوراني إلى بيروت، أوائل الخمسينات، هرباً من ديكتاتورية أديب الشيشكلي، بمثابة تأسيس لمحطة مرجعية يحج إليها المحازبون الأوائل ويسألونها فتاواها. وعلى مدى سنوات لاحقة، استُخدمت بيروت مطبعةً للبعث في سورية، ومكاناً للقاء «الأساتذة» بالصحافيين الأجانب، فضلاً عن توفيرها البيت والفندق والمقهى لبعثييها حين يهربون من حكامهم العسكريين. وهذا ما جعل عفلق وصحبه يتباهون بفهم الخصوصية اللبنانية، ويحرصون على توكيد المرونة في معاملتها. على أن هذا الطور التأسيسي نفسه سجل استقبال الحزب قياديين شابين وفدا من «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الجنبلاطي، هما المحامي البيروتي جبران مجدلاني، المولود في 1928 لأبرز العائلات السياسية الأرثوذكسية في منطقة المزرعة، والذي كان ابن عمه نسيم مجدلاني يتهيأ لوراثة حبيب أبو شهلا وتزعم مسيحيي بيروت الغربية، وموريس صقر، الكاتب الصادر عن الجرود الوسطى لجبيل المارونية، والذي امتهن الصحافة وعمل في «الأوريون» الناطقة بالفرنسية. فهذان، ومعهما كلوفيس مقصود، اعتبروا أن عروبة كمال جنبلاط أقل من المطلوب فيما لبنانيته أكثر من المرغوب، فانشقوا عنه واتجهوا بعثاً. مراتب وطاقم حكم وفي مناخ شكله الصعود الناصري عربياً ما بين حرب السويس في 1956 والوحدة المصرية – السورية في 1958، معطوفاً على الافتقار التقليدي إلى حزب يلتف حوله مسلمو لبنان، ولا تلبيه «النجادة» و «الطلائع» وما يماثلهما من أحزاب حانوتية، حضر البعث في معظم مناطق لبنان المسلمة ولم يُعدم الوجود في طوائفه المسيحية. هكذا، ظهر في بيروتوطرابلس وصور وبنت جبيل والنبطية وبعلبك، كما ضم مئات الشبان الصيداويين ممن عبروا مطهر المقاصد، وخاطب شبكة واسعة من أساتذة التعليم الرسمي، ليس في صيدا فحسب، بل في الجنوب كله. وكان ممن انتسبوا من طرابلس الطبيب العائد من سويسرا عبدالمجيد الرافعي، وهو من مواليد 1927، ومن بيروت الجامعي عبدالوهاب شميطلي، الذي تخرج في اليسوعية وكان يصغر الرافعي بثلاث سنوات فيما يشاركه الانتماء إلى عائلة مشايخ دينيين. كذلك انتسب من بعلبك الوجيه والمحامي وابن العائلة السياسية غالب ياغي، المجايل لشميطلي، ومن صور طالب العلوم السياسية العائد من الولاياتالمتحدة علي الخليل، المولود في 1933، وهو قريب الزعيم الصوري كاظم الخليل وخصيمه، وكذلك المحامي خالد العلي من عكار، المولود في السنة ذاتها لأسرة أعيان قرويين صغار. أما في صيدا، بعد محمد عطاالله، فقد استقطب البعث وجوهاً من عائلاتها السياسية والتجارية المؤثرة، كالمحامي خالد لطفي، نجل شفيق لطفي، أحد مؤسسي «حزب النداء القومي» وصديق آل الصلح، والاقتصادي هشام البساط، وكذلك النقابي حسيب عبدالجواد، المولود في 1935 لأب فلسطيني الأصل وأم هي أخت صلاح البزري، أحد أبرز وجهاء صيدا عهدذاك. وكان مما يُلاحَظ في نسبة عالية من الصيداويين البعثيين أنهم درسوا في مصر بعد المقاصد الإسلامية، جرياً على تقليد تملكَ المسلمين، السنّة والشيعة، الحداثيين والقوميين في الخمسينات. وبالفعل، ومن خلال غسان شرارة، سيطر البعثيون، حتى 1960، على رابطة الطلاب اللبنانيين في القاهرة. وجعل الحزب يضوي أفراداً من ذوي الخلفيات الأهلية والعائلية المتينة، على تعددها واختلافها، كالدكتور بشير الداعوق، سليل العائلة البيروتية المعروفة ومؤسس «دار الطليعة» للنشر وصاحبها، والطالب ثم المحامي فايز قزي، ابن العائلة الكبيرة في الدامور والجية، وجهاد كرم، من حامات المحيرة بين الكورة والبترون، المولود في 1935، والذي تخرج أيضاً في الجامعة الأميركية. وبمجدلاني وصقر وكرم وقزي، غدا للبعث، فضلاً عن وجوهه المسلمة، وجوه مسيحية. وإلى فؤاد ذبيان، انضم وجه درزي آخر هو عصام نعمان، المحامي والوزير اللاحق، المولود في 1937، والذي درس في الجامعة الأميركية أواخر الخمسينات، مثله مثل ليلى بقسماطي، التي اقترنت لاحقاً بالرافعي، وباسل عطاالله ونقولا الفرزلي، المهندس المدني المولود في 1938، والذي أكمل دراسته في أميركا، وابن العائلة الأرثوذكسية الموزعة على الفرزل والقرعون وجب جنين. ولئن غدا شقيقه الياس الفرزلي أقرب المقربين إلى عفلق، فابن عمهما المحامي أديب الفرزلي ما لبث أن دخل البرلمان نائباً عن البقاع الغربي، وصار بعد ذلك نائباً لرئيسه. كذلك انتسب طالب الاقتصاد السياسي في الجامعة الأميركية، ثم أستاذه، زيد حيدر، المولود في بعلبك في 1934. وفي عداد المنضوين المبكرين كان المهندس الفلسطيني – اللبناني خالد يشرطي، ابن الأسرة المشيخية والشاذلية المعروفة وخريج الجامعة الأميركية. فحين انعقد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب في لبنان، عام 1956، والذي هيأت له قيادة مركزية موقتة على رأسها علي جابر، كان أكبر البعثيين في أوائل ثلاثيناتهم وأصغرهم على تخوم العشرين. وقد انبثقت من المؤتمر المذكور قيادةٌ كان جابر أمين سرها، فيما الأعضاء شميطلي وياغي ومجدلاني والسوري إنعام الجندي والطرابلسي حسان مولوي. وكان الكثيرون من البعثيين من أبناء أعيان ووجهاء ومشايخ باتوا أصحاب مهن حديثة، لا سيما محامين، يليهم المهندسون والأطباء. وقد توزع هؤلاء الجامعون بين «الأصالة» و «الحداثة» ريفيين ومدينيين، سنّةً وشيعةً، مع قليل من المسيحيين ذوي المنابت الاجتماعية الوسطى والوسطى - العليا، معظمهم من خارج جبل لبنان ومن أطرافه. وبفعل هذه الخلفية الطبقية، ولكنْ أيضاً بسبب تقديم البعثيين أنفسهم ورثةً ل «عصبة العمل القومي» ول «حزب النداء القومي» معاً، نموا على مقربة من مواقع ومؤسسات ووجوه ليسوا عديمي الصلة بالنظام السياسي واحتمالاته ولا بالمراتب العائلية وفُرصها. فقد رعاهم واحتضنهم آل الصلح، حتى عُد الكاتب والسياسي منح الصلح واحداً منهم، يقترح عليهم ويتتلمذون عليه. وكانوا في بنت جبيل وثيقي الصلة بالنائب علي بزي، صديق موسى الزين شرارة، يتجندون لحملاته الانتخابية، وهي العلاقة نفسها التي ربطتهم في صور بالنائب جعفر شرف الدين، نجل المرجع الشيعي البارز عبد الحسين شرف الدين، والذي عُدت مدرسته «الجعفرية» معقلاً بعثياً منيعاً بدأ، مطالع الستينات، يحل محل مدرسة المقاصد في صيدا التي غزتها «حركة القوميين العرب». ومثلما كان تلامذة المقاصد من غير الصيداويين ينقلون الدعوة إلى أريافهم في الإجازات وفرص الصيف، غدا تلامذة الجعفرية غير الصوريين يفعلون الشيء نفسه فيشع نور «الرسالة الخالدة» في قرى قلقة على غدها المُسرع والملتبس. وكمثل العلاقة ببزي وشرف الدين، مُدت، في منطقة النبطية، جسور أخرى بين البعثيين والشيخ علي الزين، المؤرخ الحِرَفي وابن العائلة الموزعة على شحور وجبشيت وكفر رمان، حيث زعامة يوسف الزين وأنجاله، فتعاطف معهم وحض المدرسين والمتعلمين الجدد على اعتناق عقيدتهم. وفي الحزب انضوى المحامي الجنوبي المتخرج في دمشق مالك الأمين، سليل الأسرة الدينية ذات الملكيات الزراعية، فضلاً عن توزع إقامتها على قرى شقرا والصوانة ومجدل سلم ودير كيفا. وبسبب زيد حيدر وصل البعث مبكراً إلى بيوت من آل حيدر البقاعيين، الموزعين على بدنايل وبعلبك واللبوة، وكانت للعائلة المذكورة زعامة سياسية بدأت بإبراهيم حيدر ثم توّجها على صعيد القضاء النائب والوزير سليم حيدر. وبين بقاعيين، أعيان وأشباه أعيان، وفدوا إلى الحزب، كان عبدالله سكرية من الفاكهة في البقاع الشمالي، وحسين دلول من شمسطار، وما لبث أن سلك طريقهم حسين عثمان الذي رأس لاحقاً المجلس البلدي في مدينته بعلبك، وألبير منصور المولود في 1939، والذي مارس التعليم الجامعي والوظيفة قبل أن يغدو نائباً ووزيراً، وهو من جهة الأم حفيد لفارس غنام، أحد وجهاء بلدته رأس بعلبك وجوارها. ولم تنقص البعثيين الصداقاتُ المتينة مع طامحين سياسيين جاؤوا من خلفيات طبقية مشابهة، كأحمد سويد في حاصبيا، وخالد صاغية في عكار، وشكيب جابر في عاليه. ولئن كان الثلاثة محامين، فإن نقيب المحامين التاريخي في الشمال، شوقي الدندشي، الصادر عن منطقة حدودية في عكار، رعى البعث هو الآخر. وليس من المبالغة القول، في نظرة إجمالية، أن الحزب العفلقي امتلك، حتى مطالع الستينات، ما يشبه الطاقم الحديث مهنياً والمرشح مبدئياً أن يكون بديلاً عن الطاقم الحاكم، وكان في عداده الكثيرون من أبناء العائلات السياسية المقصية عن السلطة، ومن الأشخاص في العائلات المتربعة في السلطة أو الزعامة. وكما في حالات الخليل وحيدر والفرزلي ومجدلاني وسواها، ظهر الحزب بين عشائر البقاع، حيث انتسب إليه ابنا العم مفلح ومفضل علو، وهما نجلا وجيهين يحلان في المرتبة الثانية بعد وجيه العائلة الأول حسين محمد علو. والشيء نفسه يقال عن الخيام، حيث انتسب محمد العبدالله، نجل المفتي، وهو حفيد الزعيم السياسي لعائلته قبل أن يبدد نجله ووالد محمد، المنصرف إلى الدين والإفتاء، هذه الزعامة التي استقرت في بيت آخر من بيوت آل العبدالله. ويُلاحَظ في نمو البعث أمر آخر. فالأفراد الذين انتموا إليه يشملون بعضاً من الصادرين عن عائلات تعددت مراكز إقامتها، كعائلات حيدر والأمين والزين والفرزلي وقزي. وربما في شَبَهٍ ما مع تجربة آل الأشقر المتنيين و «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، تراءى لهؤلاء، على نحو غير واع بالضرورة، أن الحزب إنما يوحد أطراف العائلة المشتتة السكن ويمكنها كقوة سياسية. أما أيديولوجياً، ففي هذه البيئات جميعاً وعلى أطرافها، زود البعثيون المحافظين المناهضين للشيوعية مادةً سجالية «تقدمية» بات المحافظون في أمس الحاجة إليها. فالشيوعيون، المطعونون أصلاً في عدائهم لإسرائيل، ما لبثوا أن انتهكوا المحرم الثاني حين عارضوا وحدة 1958 المصرية – السورية، ثم تحالفوا مع عبدالكريم قاسم في العراق، خصم عبدالناصر وعموم القوميين العرب. عبدالمجيد الرافعي عهدذاك، في أواخر الخمسينات، كان التحالف مع الناصرية يُغني عن قاعدة جماهيرية اقتصرت على آلاف قليلة بدت كافية لأن تفيض عن قدرة الحزب على التأطير. وهؤلاء استمدوا تثقيفَهم البسيط من كتب عفلق ومن صحيفتين عابرتين حملتا اسمي «صوت الطليعة» و «الأمان»، قبل أن يصدر البعث في 1958 صحيفة أسبوعية سمّاها «الصحافة»، كان مجدلاني وشميطلي صاحبي امتيازها، وصقر رئيس تحريرها. وقد درجت «الصحافة» على تعريف نفسها، على جاري اللغة المستعارة من القاموس الشيوعي، بأنها «جريدة الطليعة العربية». وبالفعل شارك الحزب في سائر النشاطات السياسية والعنفية في الخمسينات بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الكتلة الناصرية العريضة. فبالصفة هذه تظاهر أفراده ضد حلف بغداد ومشروع آيزنهاور، وبالصفة ذاتها سقط لهم جلال نشوئي في طرابلس في مواجهات 1958. وعموماً، عج الحزب بوجوه شابة ومتعلمة وطامحة تبوأت زعامته ولم يَفد أيٌّ منها تقريباً من شرائح الهرم الاجتماعي الدنيا. وبين هؤلاء الشبان حظي عبدالمجيد الرافعي بوضع مميز. فهو طبيب إنساني يقدم الخدمات لفقراء الأحياء الشعبية، وسليل عائلة دينية وثقافية في مدينة طرابلس التي كانت تغلي ضد كميل شمعون وعهده، رافعةً عالياً رايات العروبة واسم جمال عبدالناصر. فوق هذا، أوحت زعامة آل كرامي، وهو إيحاءٌ لا يلبث في الوهلة الثانية أن يبدو مضلِّلاً، أن عِتقها آيلٌ بها إلى موت وشيك، ما شجع الطامحين على التجرؤ عليها. وقد رشح البعثيون الرافعي لانتخابات 1957، فعاد بنتيجة متواضعة، إلا أنه في انتخابات 1960، ولم يكن الخلاف مع عبدالناصر قد ظهر إلى العلن، هدد بخرق لائحة رشيد كرامي في سابقة طرابلسية. وقد تردد يومذاك أن الطبيب البعثي فاز بالنيابة فعلاً، كما هنأه محافظ الشمال بفوزه، إلا أن تدخل «المكتب الثاني» لدى فرز الأصوات أدى إلى إسقاطه. بيد أن المنافع التي درها على البعثيين تحالفهم مع عبدالناصر ما لبثت أن انقلبت أكلافاً باهظة بسبب الخلاف بين زعيم العروبة الذي كان يحكم سورية إبان الوحدة في 1958 - 1961 وحزب العروبة في دمشق. وثمة أساس صلب للجدل بأن النزاع مع الزعيم المصري بدأ يحد من النمو البعثي بين السنّة فيما يوسعه بين الشيعة، الأمر الذي أحل جعفرية صور محل مقاصد صيدا، مؤدياً في منتصف الستينات إلى رجحان الوزن الشيعي في الحزب على ذاك السنّي. أما على جبهة أخرى، فكان للخلاف مع عبدالناصر أن فتح الباب لبعض شبان البعث كي يُبدوا تأثرهم بخلائط انتقائية من الأفكار الماركسية واللينينية. وهذا ما سبق أن مهدت له مقدمتان سوريتان: ذاك أن خروج جلال السيد «الرجعي» والمعتد ب «القبيلة العربية» من الحزب، وحلول أكرم الحوراني «الاشتراكي» والزعيم الفلاحي محله، أطلق تعاطفاً غامضاً مع يساريةٍ كان الحزب يكتفي بزعمها لفظياً. ثم وجه انفصال 1961 السوري عن دولة الوحدة ضربة للصوفية القومية والوحدوية الفقيرة، فتسلل إلى خطاب «الأمة الواحدة» البعثي تركيب وتعقيد نسبيان تستوقفهما طبيعة النظام وانحيازات السلطة وتضارب المصالح. وبالفعل أصدر البعث اللبناني في 1961 نشرة سمّاها «الاشتراكي»، كما تعاظم اهتمامه بالمسائل المطلبية لقطاعات اجتماعية تقيم في النصف الأدنى من الهرم الاجتماعي. لكنْ في ذاك العام نفسه، ووفق «إحصاءات جزئية» جمعها «مكتب العمل القُطْري بالاستناد إلى تقارير مكاتب العمل»، تبين أن الطلاب لا يزالون أكثر من نصف أعضاء الحزب. ولئن شكل «العمال» ما بين الربع والثلث، بقي أن تعبير «عمال»، في استخدامه البعثي، شمل المستخدمين في المحال التجارية والأُجراء في المكاتب.