الجدل الذي سبق إقرار قانون الانتخابات البلدية والإختيارية في لبنان وحسم لمصلحة قانون انتخابي لا يلحظ اي ضوابط او توزيع طائفي، عكس بعض المخاوف من ان تأتي نتائج الإنتخابات غير مراعية للتوازن الطائفي خصوصاً في المدن الكبرى. ولبيروت تجارب في الانتخاب والتعيين في المجال البلدي في العامين 1952 و1961، وقبلها ايضاً كان لتأسيس بلديتها أدوار عدة في حياة أهلها. حين استقبل وجهاء بيروت في العام 1918 رستم باشا موفداً من الأمير فيصل، وكان عمر الداعوق في حينه رئىساً لبلديتها، قرأ رستم على مسامعهم رسالة موجهة من الأمير الى رئىس البلدية ونصّها: "بناء على انسحاب الحكومة التركية فقد أسست الحكومة العربية الهاشمية على دعائم الشرف. طمئنوا الجميع وأعلنوا الحكومة باسم الحكومة العربية". وحين استقبل الرئىس كميل شمعون رئىس بلدية بيروت عادل الصلح الذي انتخبه مجلسها المنتخب نصفه والمعيّن نصفه الآخر في العام 1952، بادره بعبارة "اهلاً وسهلاً بوالي بيروت". ولما استدعى الرئىس صائب سلام عادل الصلح لإبلاغه خبر سحب ترشيح جميع منافسيه الى رئاسة البلدية واعتباره مرشحاً توافقياً لها كانت الغصة واضحة على وجهه، فهو كان يقدم الى خصوم سياسيين آل الصلح منصباً يدرك قيمته في نفوس البيروتيين. ويقول احد افراد العائلة الصلحية ان فرحة آل الصلح في تبوؤ احدهم رئاسة البلدية فاقت فرحتهم في وصول رياض الصلح الى رئاسة الحكومة. اما محمد المشنوق، نجل الشخصية البيروتية عبدالله المشنوق ووزير داخلية الحكومة التي اصدرت في العام 1961 مرسوم تعيين المجلس البلدي لمدينة بيروت فهو اختار لكتابه عن بلدية بيروت عنواناً كبيراً "حكومة بيروت" وذيّله بعبارة بخطٍ صغير "اشكاليات القيادة العصرية لبلدية العاصمة". انها روايات عدة طالما رغب بيروتيون كثر في سردها، قبل ولوجهم في الحديث عن بلديتهم. وتشير هذه الروايات، اضافة الى احداث ومواقف اخرى، الى رغبة عارمة لدى ابناء بيروت في الاستقلال بشؤون مدينتهم، هذه الرغبة التي لم تتحقق ما دامت استمرت اكثر من مدينة لهم. فما يحدد السياسات الاسكانية والخدماتية والمخططات التوجيهية والمشاريع البلدية في المدينة، ليس فقط حاجات اهلها، بل ايضاً وظيفة هذه المدينة ودورها المتعاظم في الجمهوريات والعهود المتعاقبة. وهذه الوظيفة أخضعتها لمتغيرات لا يمكن لقوانين الانتخابات البلدية ولا وظائف هذه القوانين ان تلحظه او ان تستجيبه. ومن معاني ذلك عبارة أوردها الرئىس السابق لبلدية بيروت شفيق السردوك في محاضرة هي "ان الهجرة من الريف الى المدينة كانت تسبق البلديات وتجعلها تعجز عن تلبية الحاجات البلدية". ورغبة ابناء بيروت في الإمساك بزمام مدينتهم يفسّر في بعض وجوهه هذا التجاذب المستمر منذ ما قبل الاستقلال الى اليوم، بين صلاحيات رئىس البلدية وصلاحيات محافظ المدينة. فهم الى كون محافظ بيروت يعيّن عرفاً من غير أبنائها، ومن طائفة لا تشكل غالبية فيها، يعتبرون ان امساك رئىس البلدية الذي يختارونه او يُختار من بينهم، بصلاحيات الادارة البلدية للمدينة، يعني عدم المغالاة في نزع ملامحهم عنها. فبيروت في عرفهم أحد قطبي المعادلة اللبنانية "بيروت - جبل لبنان"، وان من أنشأ لبنان كان يفكر ببيروت ايضاً وليس بجبل لبنان فقط. وطالما عبّرت شخصيات سياسية واجتماعية بيروتية متفاوتة الواقع عن اعتبارها ان وراء تهميش دور رئىس البلدية إرادات تريد لبيروت هوية اخرى. فيقول احد الرواة نقلاً عن عادل الصلح ان سبب إلغاء دور رئيس البلدية هو انه من طائفة معيّنة، وهذا ما يؤكده ايضاً محمد المشنوق في كتابه عن البلدية وإن بأساليب مختلفة وغير مباشرة. اما شفيق السردوك فكان اكثر بلاغة في ايصال هذا المعنى عندما قال "ان رؤساء البلديات السابقين من عادل الصلح الى عبدالكريم السباعي الى أمين بيهم وغيرهم كانوا مسنّين، وكان الى جانبهم احياناً محافظون شبان مغرورون، فشاع الاعتقاد ان المحافظ في بيروت هو المرجعية، وهو الرقابة وهو الأعلى فأخذ يتصرف خطأ". والمقارنة هنا بين رئىس البلدية والمحافظ تتضمن مقارنة بين شيخوخة رئىس البلدية الهادئة والحكيمة وحداثة سن المحافظ المغرورة. وهي ايضاً بين رئيس للبلدية من أبناء المدينة ومحافظ من غير أهلها ومللها. والمجلس البلدي في بيروت كان دائماً مرآة حقيقية قدر الإمكان، لواقع شبكة العلاقات العائلية والطائفية، ومرآة ايضاً لمتغيراتها. فالمجالس البلدية المنتخبة في المدينة والمعيّنة بمراسيم جمهورية، جاءت مشابهة لما يُعقد تحتها من احلاف عائلية، ومن رغبة في عدم إلغاء الغالبية للقلّة، ومن مراعاة للطائفة والعائلة والمنطقة والمهنة، ومشابهة لما يتم فوقها ايضاً من تسويات سياسية تراعي حصص الجميع، كل بحسب حجمه وموقعه. فالانتخاب الذي حصل لنصف اعضاء البلدية في العام 1952، ولم يلحظ قانونه التمثيل الطائفي، استوقفت نتائجه فاعليات بيروت وعقلاءها كما يسمّيهم الرواة، فهو لم يأتِ إلا بممثلين مسلمين، فتداعى هؤلاء "العقلاء" الى بيت الهيئة الوطنية التي كان يترأسها الدكتور محمد خالد وقرروا ترشيح ارثوذكسيين هما ميشال دعيبس وبشارة دهّان في الدورة الثانية لهذه الانتخابات. وعاد مرسوم التعيين للنصف الثاني من اعضاء المجلس البلدي ليكرّس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في هذا المجلس. والأعضاء المعيّنون في هذا المرسوم هم: عبدالكريم السباعي، فوزي الداعوق، عادل الصلح، ميشال دعيبس، الدكتور جادجيان، محمود صفا، ابتهاج قدورة، لور ثابت، ايلين ريحاني، جورج الشويري، جوزف خاشو، أنيس روضة. ثم انتخب هذا المجلس عادل الصلح رئىساً له بالتفاهم مع الأعضاء المنتخبين والمعيّنين. اما التوزيع الطائفي للأعضاء فكان تسعة للسنّة وخمسة للروم الارثوذكس وثلاثة للأرمن وإثنين للشيعة وإثنين للموارنة وعضواً درزياً وعضواً كاثوليكياً وعضواً للأقلّيات. انه المجلس البلدي الاول لمدينة بيروت في عهد الجمهورية اللبنانية التي كان مضى على استقلالها تسع سنوات، لم يلتفت خلالها عهد الرئىس بشارة الخوري الى موضوع أهمية البلديات. لكن الرئىس كميل شمعون الذي تسلم العهد الثاني في هذه الجمهورية وشغل سابقاً منصب وزير مفوّض في لندن، كان يكرر القول ان من اسرار هيبة الادارة الانكليزية وعظمتها، وجود منصب "لورد ماير اوف لندن" وهو باشر فور انتخابه رئىساً للجمهورية إعداد قانون جديد للبلديات اصبح بموجبه للمدينة مجلس بلدي يترأسه عرفاً احد اعضائه السنّة، ويستقل في قراراته عن المحافظ. ولأسماء اعضاء مجلس العام 1952 البلدي، المنتخب منهم والمعيّن دلالات تفيض معاني بأشكال التجاذبات والتغيرات التي تشهدها مدينة بيروت. فإلى جانب محمد كنيعو وراشد الحوري البيروتيين التقليديين، اللذين ناديا بنزع اسماء القادة الفرنسيين والأنكليز من الشوارع واستبدال اسماء قادة مسلمين بها، كانت تجلس سيدات شجّع الرئيس كميل شمعون على تعيينهن في المجلس البلدي وهن: لور ثابت زوجة نائب بيروت جورج ثابت، وابتهاج قدورة رئيسة اتحاد النساء العربيات، وألن زيدان ابنة جرجي زيدان التي انتخبتها البلدية لاحقاً رئىسة لوفد منها الى مصر لتسليم الرئىس جمال عبدالناصر مفاتيح المدينة. ومن الأسماء ايضاً الكتائبي وليم حاوي الذي اصبح مع بداية الحرب اللبنانية مسؤولاً عسكرياً للحزب، وعن الشيعة محسن بيضون زعيم آل بيضون ومحمود صفا وهو من بلدة زبدين ومن اوائل الجنوبيين الذين وفدوا الى بيروت وازدهرت تجارتهم فيها. كان التمثيل البلدي اكثر تعبيراً عما يدور في المدينة، من هدوء البنى العائلية السنّية واستقرارها وانتقالها الى اطوار اخرى، الى الاضطراب الذي رافق النزوح الماروني اولاً ثم الشيعي على اختلافهما الى المدينة، وتمثل ايضاً انقلاب الحداثة الزاحفة الى المدينة من كل حدب وصوب عبر التمثيل النسائي، وعبر الاختصاصات العلمية لأعضائها، اذ كان بينهم ما لا يقل عن ثمانية اعضاء نالوا شهادة دكتوراه في ميادين مختلفة، وثلاثة مهندسين وصيدلي ومحاميان. استمر عمل هذا المجلس البلدي من سنة 1952 حتى سنة 1961، حين اصدر الرئىس فؤاد شهاب، وكان عبدالله المشنوق وزيراً للداخلية قراراً بحل هذا المجلس وتعيين بديل منه. وكان من اهم ما انجزه هو المخطط التوجيهي للشوارع، والأوتوستراد الدائري الذي يلف المدينة بدءاً من كورنيش النهر الى المنارة فالروشة، وكذلك انجز مشروع "الزونينغ" وهو تصنيف المناطق، سكنية وتجارية وصناعية. وحصلت خلال عهد هذه البلدية تجاذبات حول اسماء الشوارع، حين وُجد فيها من يدعو الى تغييرها ومن تمسّك ببقائها، وانتهى الاتفاق بأن يبقى منها الأسماء ذات الطابع الانساني كشارع مدام كوري وفلورانس وباستور، وإزالة اسماء القادة العسكريين كأللنبي وغورو، التي يبدو انها كانت اشد التصاقاً بالشوارع فبقيت محتفظة بأسمائها على رغم قرار إزالتها. اما تمثال الجنود الفرنسيين الذين قتلوا اثناء دخولهم لبنان، وكان ينتصب في منطقة الزيتونة، فقد حطمه اكثر من مرة متظاهرون بيروتيون مؤيدون للثوار في الجزائر اثناء اندلاع ثورتها في الخمسينات. ثم عاد عادل الصلح وأقنع السفير الفرنسي بضرورة نقل هذا التمثال الى حرم السفارة الفرنسية، حفاظاً على كرامة فرنسا. وفي تعدادهم المشاريع التي انجزها مجلس العام 1952 البلدي في بيروت، يورد معظم ناقلي اخباره، ان المجلس، الى المشاريع البلدية والخدماتية، مارس تمثيله للمدينة امام زائري لبنان من وفود وشخصات، كانوا يقصدون رئىس البلدية بعد زيارتهم الرؤساء الثلاثة، وأطلق احدهم على رئيس البلدية اسم الرئىس الرابع. لم يستطع الرئىس فؤاد شهاب التفلت من هذا التركيب العائلي والطائفي والمهني والمناطقي المعقد للمجلس البلدي حين اراد اصدار مرسوم يلغي السابق ويعيّن بموجبه لجنة للقيام بأعمال مجلس بلدية بيروت وهي اللجنة التي ما زال اعضاؤها الأحياء يشكلون المجلس البلدي لمدينة بيروت الى اليوم. لم يتمكن فؤاد شهاب من اختراق البلدية عبر نخب جديدة، كما سبق ان فعل في مؤسسات سياسية واجتماعية اخرى، وكما فعل ذلك لاحقاً في البرلمان. وظهرت التبدلات في اسماء اعضاء المجلس البلدي، وكأنها جزء من حراك اجتماعي طبيعي كان بدأ يصيب المدينة، فمن عُيّنوا اختلط تمثيلهم العائلي والطائفي بحداثة التعليم والمهنة، كان جميعهم من حملة الشهادات العليا، والاختصاصات التي تحتاج لها البلدية. لكنهم ايضاً ابناء عائلات: بيهم وخالد وشاتيلا والنصولي وطبارة والشعار وأبي شهلا وداغر ونقاش وبيضون والعم ...الخ، وكان صائب سلام هو الناخب الأكبر. يقول منح الصلح ل"الحياة" "ان انشاء بلدية بيروت كان اقوى مظهر من مظاهر حداثة المدينة، وعندما صدر قرار دولي بانشاء المدينة او تقويتها بعد احتلال ابراهيم باشا لها وفتحها للبعثات الاجنبية والتجارة، انشئت البلدية. ثم تلا ذلك صعود موجة اللامركزية وحزب اللامركزية في الادارة العثمانية، وكانت مدينة بيروت ومتصرفية جبل لبنان حقلي اختبار لفكرة اللامركزية هذه". والحداثة التي تكلم عليها منح الصلح كانت بدأت تترجم في النصف الاول من القرن الجاري تعليماً وانتخاباً وتجارة واتصالاً بشرائع وقوانين وقيم ستجد من يبحث عنها في لبنان وفي بيروت تحديداً. وما رافق هذه الحداثة من صعود اجتماعي نقل الكثير من العائلات البيروتية الى اوضاع جديدة، وبدأت تظهر ثمار ذلك في المجالس البلدية، خصوصاً في مجلسي العامين 1952 و1961. فدخل الى الاول فوزي العيتاني، وهو ابن عائلة كبيرة، لكنها من "عائلات العدد" لا من "عائلات الحكم". وعيّن في المجلس الثاني الدكتور عبدالسلام شاتيلا، وعائلته ثاني اكبر عائلة بيروتية، لم يتسن لأبنائها من قبل ترجمة عددهم، تمثيلاً في البلدية. وغاب عن هذين المجلسين اسماء "عائلات الحكم" كالداعوق وحمادة ورمضان والنحاس، اذ تحول بعضها نخباً هامشية ينزه نفسه عن خوض غمار الشأن العام، بعدما تحول الاختيار الى المناصب البلدية من انتقاء وتكليف الى انتخاب. ولعل ما اصاب العائلات البيروتية الارثوذكسية كان ابلغ دلالة ووضوحاً، فهذه الطائفة التي كانت تتصدرها عائلتا سرسق وبسترس، انتقل الى واجهة تمثيلها في البلديات كما في البرلمانات عائلات ازدهرت اوضاعها مع ازدهار التعليم والتجارة والاتصال بأوروبا، كعائلات طراد ومجدلاني وغلام والعم وأبي شهلا والتويني. اما زعماء عائلتي بسترس وسرسق فجلسوا في قصورهم واحتفظوا بحنينهم الى الزمن العثماني، وإلى النكهة العثمانية للمدينة، وعاد معظمهم وغادر الى أوروبا. وتقول الليدي ايفون سرسق زوجة اللورد الآرلندي كوكرن ل"الحياة" ان المدن "تصنعها العائلات لا الحكومات او البرلمانات. وأن بيروت كفت عن ان تكون جميلة منذ الخمسينات، ففي الخمسينات بدأت الانتخابات التي صار بعدها المسؤولون محتاجين الى تأييد ناخبيهم، وأوكل امر تنظيم المدينة الى شباب جدد لم يعرفهم احد ولم يسمع بهم قبلاً".