كلّما اقتربت انتخابات نيابيّة، أو شاعت بصددها التكهّنات، زارتني أيّام قديمة ومحزنة. فقد عشت الانتخابات عن قرب بين دورة 1957، وكان لي من العمر 6 سنوات، ودورة 1968، وكان لي منه 17 سنة. كلّ واحدة منها بدأت لعباً وانتهت بكاءً. التوقّعات ترتفع، تزيدها الأجواء الاحتفاليّة ارتفاعاً. تظهر النتائج فنسقط من مكان شاهق. وخالي كان يهوى خوضها على نحو لا تردعه عنه الهزائم. لقد ترشّح في 1957 و1960 و1964 و1968 و1972 (ولم أكن حينذاك في لبنان)، ورسب فيها جميعاً، منفرداً وعضواً في لائحة أو على رأس لائحة. مرّةً ضدّ «الإقطاع» ومرّة بالتحالف معه. مرّة بعباءة ناصريّة ومرّة ضدّ نفوذها. وأظنّ أنّه لو لم يُقتل في 1974 لخاض المزيد منها ولرسب فيها. وراء ذلك كان السبب الأبرز بسيطاً: إنّه مرشّح «مسلم» يسعى لتمثيل الروم الأرثوذكس. وهذا، في نظام طائفيّ محكم وعميق، وصفة لخسارة على الطرفين. العطلة الطويلة والعنف القليل... أمّا أنا، فانتخاباتي كان أوّلها العطلة. ذاك أنّ انشغال الأهل بها يشغلهم عنّي، فلا يعودون يعرفون ما إذا كنت أذهب إلى المدرسة أو لا. وبما أنّ الحملة الانتخابيّة تستغرق أسابيع، بمهرجاناتها وزيارات القرى العكّاريّة الكثيرة في مواكب تضمّ عشرات السيّارات، كنت أرفل طويلاً بنعمة الغياب عن المدرسة. العلم نور؟ ربّما. لكنّ الجهل بدا أنور. في هذه الغضون تُستعرض الحماسات في عرس مفتوح، ومعها تُستعرض الحزازات: فهذا «لا يحلب صافياً معنا»، وذاك «خائن» ولو كان جاراً. وحين يتبيّن أنّ ثمّة «بروتوس» بيننا، يروح الهجّاؤون يتبارون: واحد يقول إنّه «كشفه من زمان ولم يبح بالأمر كرمى لأهله»، وآخر يقول إنّ عائلته «لئيمة من أصلها» ويستشهد بأخبار تُنسب إلى جدّه. أمّا لُعَب الاحتفال فبعضها زمامير ترفع معنويّاتنا وتستفزّ الخصوم، وبعضها هتافات مسجّعة، لكنّ أشدّها حميميّة تلك الصور الملوّنة لخالي التي تتكوّم في غرف البيت قبل أن يتولّى «الشباب» تعليق بعضها على جدران القرية وإرسال بعضها إلى قرى مجاورة. وحتّى اليوم لا تزال رائحة ورقها تقيم في جزء صغير من أنفي الكبير. لكنْ، لئن خلت الانتخابات من العنف، فالقليل من هذا العنف كان يحصل إبّان تعليق الصور، حيث تُحتلّ مساحات لا يُسأل أصحابها عن رغبتهم، فيروحون يردّون الاعتداء عن انتهاك مجالهم الحميم، أو تُحتلّ جدران عامّة للبلديّة فيستنفر الخصوم من أهل البلديّة نفسها كي لا يُحسبوا تابعين لمن يكرهون. وكان للانتخابات اقتصادها بالطبع، وإن كان أشدّ أوجهها سرّيّةً، لا تصل أخباره إلّا عبر تنصّت الصغار على أهلهم، أو من خلال زلّةٍ زلّتها ألسنة الكبار. فهناك أكلاف اللائحة، ما يعني توفير المبلغ الذي يطلبه «القطب» رشوةً له، وهناك أكلاف السيّارات التي يتشكّل منها الموكب، وكذلك الولائم التي لا بدّ أن تولَم للّائحة وجمهورها المتنقّل. ولم يخل الأمر من مبالغ صغرى تُدسّ في جيب «فقير» له «دالّة» على أصوات أقارب وجيران كثيرين. 1957 علاقتي بالانتخابات تبدأ في 1957. عامذاك، ولم يكن خالي قد بلغ الثلاثين، خاضها في عكّار مرشّحاً عن مقعد الأرثوذكس. قبل عامين كان قد عاد من واشنطن حاملاً شهادة دكتوراه في الحقوق، بعد تخرّجه في دمشق، فأقام مكتبه للمحاماة في طرابلس وبدا مُصرّاً إصراراً حديديّاً على «خدمة الشعب». جدّي وباقي الأقارب لم يستطيعوا إقناعه بالتوقّف عن «خدمة الشعب»، وبأنّ الشعب يستطيع أن يتدبّر أمره بنفسه. نصحوه بأن يقيم مكتبه في بيروت وأن يحاول الحصول على تمثيل بعض الوكالات التجاريّة، لكنّه لم يعبأ. يومذاك كان الأرثوذكس في عكّار يتمثّلون بنائب من أربعة، أمّا الثلاثة الآخرون فمارونيّ وسنّيّان أحدهما زعيم المنطقة. ذاك أنّ الزعامة انقسمت بين «قطبين» هما رئيسا اللائحتين المتنافستين: سليمان العلي وبشير العثمان الذي خلف محمّد العبّود في الزعامة، والثلاثة ينتمون إلى عشيرة آل المرعبيّ ذات الأصول الكرديّة. يومها كان بعض العكّاريّين حين يقارنون العلي بالعثمان يقولون إنّ الثاني «آدميّ وما بيأذي» فيما الأوّل «مجرم»، ما يحملهم على التصويت له من غير تردّد. وبدورهم، توزّع الأرثوذكس على حزبيّتين، واحدة توالي رؤوف حنّا والأخرى توالي يعقوب الصرّاف. والمذكوران يمثّلان عائلتين كبريين في قريتيهما اللتين عُدّتا من أكبر قرى عكّار: رحبة ومنيارة. لقد صدرا عن أسرتين مالكتين للأرض، والأرجح أنّ أموال الهجرة ما أتاح ذلك لحنّا، فيما الوظيفة الإداريّة في عهد الانتداب وفّرتها للصرّاف. لكنّ رؤوف كان أمّيّاً، ارتبطت باسمه دعابة ربّما نُسبت إلى زملاء آخرين له حلّوا نوّاباً في برلمانات الخمسينات ولم يفوقوه علماً أو ذكاء. فقد شاع أنّه كان يغفو في جلسات البرلمان فلا يُسمع صوته إلّا حين يحتجّ لأنّ الشمس المتسلّلة من النافذة يشتدّ وهجها عليه: «أزيحوا الستارة في ذاك الاتّجاه، لا في هذا»، كان يصرخ محتجّاً. الصرّاف، في المقابل، كان طبيباً. لكنْ لم يُعرف عنه الكثير. أبرز صفاته التي تردّدت شعبيّاً أنّه «مع الدولة»، لكنّه في أواخر العهد الشمعونيّ لم يعد «مع الدولة» لأنّ «الدولة» لم تعد «معه». فهو لا يستسيغ التطرّف المنسوب إلى كميل شمعون، لإدراكه أنّ أكثريّة المقترعين في عكّار سنّة يعارضونه. وهذا فضلاً عن أنّ خصمه رؤوف حنّا كان مقرّباً جدّاً من الرئيس الراحل. هكذا انضمّ الصرّاف إلى «أنصار السلم» وبات الشيوعيّون يحسبونه صديقاً ويصنّفونه، بطريقتهم، «شخصيّةً ديموقراطيّةً». وكان الرائج عنه أنّه يملك «الشرعيّة الطائفيّة» لأنّ مطران الأرثوذكس يؤيّده ظالماً أو مظلوماً، وأنّه «قصير اللسان» لا يهاجم أحداً في القرية أو المنطقة أو لبنان. مع هذا كان الصرّاف في بعض مجالسه القرويّة يهاجم «الحلف الأطلسيّ»، فيتأكّد الشيوعيّون، وهم كثيرون نسبيّاً بين الروم، أنّهم وضعوا ثقتهم في أيدٍ أمينة، ويصوّتون له بحماسة. أفراد عائلة الصرّاف كانوا يوصفون بمهارة استثنائيّة في استمالة الخصوم أو تحييدهم. فكان يُقال أنّهم حين يسمعون الشتيمة توجّه إليهم يتظاهرون بالطرش. وعلى عكس خالي الذي كان لسانه يلعلع في الاتّجاهات كلّها، نُسب إلى الصرّاف وعائلته أنّهم ممّن يجيدون السياسة، تبعاً لقدرتهم على إخفاء آرائهم وانفعالاتهم. فهم، بسبب ألسنتهم، يحوّلون أعداءهم أصدقاءً، فيما نحن، وفقاً لأحد أقاربنا «الواقعيّين»، نحوّل الأصدقاء أعداءً بسبب لسان خالي المدعوم بألسنتنا النشطة. لقد كان سلوكهم أرثوذكسيّاً نموذجيّاً في منطقة لا يزيد أرثوذكسها عن ربع السكّان، يُرضون الجميع مسوقين بحدّة إحساسهم بالعدد وتوازناته. أمّا خالي، فعمل وفق فلسفة أخرى: صحيح أنّ قريته بينو أصغر من قريتي رحبة ومنيارة، فيما عائلته نفسها من أصغر عائلات بينو، بحيث إنّ الذين كانوا يؤيّدونه في القرية لم يتجاوزوا ثلث سكّانها. مع ذلك، كان يتصرّف كما لو أنّه يملك قوّة تعادل قوّة أيّ زعيم مسلم، الأمر الذي عاد جزئيّاً إلى تضخّم في الأنا، وجزئيّاً إلى نزعته العروبيّة المناهضة لشمعون. هكذا لم يتصرّف تصرّف المسيحيّ الذميّ المُطالَب بإرضاء القطب المسلم في كلّ شيء. عبد الناصر كان قطبه الضمنيّ الأعلى. اللوائح الثلاث... على أيّة حال تشكّلت لوائح ثلاث في عكّار عام 1957. الأولى، التي أسماها الناس «لائحة الدولة» وفازت، كان على رأسها بشير العثمان وضمّت عبد الكريم القدّور ورؤوف حنّا وميشال الضاهر. لقد وُصف الأربعة الفائزون بالشمعونيّة. أمّا اللائحة الثانية فضمّت جود الإبراهيم وعبد الكريم مراد ويعقوب الصرّاف وألبير الحاجّ، ممّن لم يكونوا مناهضين لشمعون، إلّا أنّ الأخير فضّل اعتماد اللائحة الأولى لأنّ أعضاءها، خصوصاً حنّا والضاهر، مجاهرون في شمعونيّتهم. وبدورها، فاللائحة الثالثة التي كان في عدادها خالي، عانت من نقط ضعف أساسيّة: رئيسها المفترض سليمان العلي موضوعٌ رهن الإقامة الجبريّة في «فندق ريجنت» في بيروت، حيث جريدة «النهار» اليوم. ذاك أنّ العلي وشقيقه مالك حُكما بالتحريض على اغتيال الزعيم العكّاريّ المنافس محمّد العبّود. وبالفعل ففي صيف 1953 اغتيل العبّود أمام مدخل القصر الجمهوريّ. وعلى رغم العلاقة الوثيقة بين العلي وشمعون، كان من المُحرج تجاهل ما فعله الأوّل، فأُنزلت به عقوبة مخفّفة، ما ألجأ عائلته إلى ترشيح الأخ الثالث، ناصر. لكنّ الشيء الوحيد الذي عُرف به الأخير أنّه يفرق شَعره في منتصف رأسه، ما لم يكن مألوفاً بتاتاً. أمّا حين يتحدّث فيغمزه رجل مسنّ، كلّفه سليمان بالوصاية على أخيه الأصغر، بأن يصمت. وبدورهم كان الثلاثة الآخرون علي عبد الكريم وميشال عبّود وخالي. والحال أنّ المرشّحين السنّة الستّة على اللوائح الثلاث كانوا ملّاكي أراضٍ، خمسة منهم من المراعبة الذين شكّلوا ثلث مجموع السنّة العكّاريّين، فيما السادس، عبد الكريم مراد، ينتمي إلى البيت الوحيد في عكّار الذي لُقّب بالبكويّة من دون أن يكون مرعبيّاً. وإذ انقسم المرشّحون الأرثوذكس الثلاثة إلى مَلّاك أراض وطبيب ومحامٍ، فالموارنة الثلاثة كانوا طبيباً ومحامياً وملّاكاً. هكذا عبّرت خريطة التمثيل الاجتماعيّ عن واقع الطوائف، حيث تُرك ثلثا السنّة من فلّاحين ومزارعين مبعدين تماماً عن السياسة. ولأنّ سليمان العلي كان رهن الإقامة الجبريّة، فهذا ما أتاح لخالي، العضو في لائحة «بيت العلي»، أن يتمادى في مناهضته لشمعون، علماً بأنّ أسبابه لا صلة لها بمشكلة شمعون مع العلي. لكنّ الخال ذهب أبعد: فقد راح يهاجم «الإقطاع» بضراوة ويردّد أنّ «الأرض لمن يفلحها». ولتأثّره بأصداء صينيّة بعيدة، وبأكرم الحوراني وتجربته في ريف حماة، أصدر كرّاساً صغيراً أراده، على عكس المألوف، برنامجاً انتخابيّاً. لقد حضّ برنامجُه على توزيع ملكيّات الأرض الكبرى على الفلّاحين. لكنْ حين كان يسأله أحد النبهاء القليلين عن عضويّته في «لائحة بيت العلي»، وهم أكبر «الإقطاعيّين»، كان يخرج بفتوى لا تُقنع إلّا الضالعين في ريفيّة ذاك الزمن: البكوات «أوادم» و «زعران»، وآل العلي «أوادم». ولم يكن البرنامجُ الانتخابيّ الجديدَ الوحيد في انتخابات 1957. ذاك أنّ الخال، واسمه خالد، كتب في أسفل صورته بيتي شعر لعمر أبو ريشة ينحاز فيهما إلى خالد بن الوليد في نزاعه مع عمر بن الخطّاب: «لا تقلْ ذلّتِ الرجولةُ يا خالدُ واستسلمتْ إلى الخذلانِ إنّما قادةُ القطيعِ إلى المرعى رعاةٌ جريحةُ الوجدانِ» أمّا أنا الذي حفظت البيتين، فكانت مهمّتي الانتخابيّة أن ألقيهما كلّما رأيت عشرة أشخاص متجمّعين. واليوم، لا أشكّ في أنّ كثيرين ممّن عبّروا عن استحسانهم، كانوا في سرّهم يستهجنون ثقل الدم الذي انطوى عليه ذاك الولد المتبجّح الذي كنتُه. ما كان ممتعاً هو الهتافات المسجّعة التي كان يهتفها أنصار المرشّحين، بلهجة عكّاريّة حادّة تطحن الألف وتحوّله واواً. فالذين يهتفون لخالي، مثلاً، كانوا يقولون: خولد بيكْ لا تهتمّْ/ عندك زلمْ بتشرب دمّْ وكان الأكثر تفاؤلاً بينهم يهتفون: خولد بيكْ خولد بيكْ/ والنِيَابي لعينيك 1958-1960 لكنْ قبل أن تمرّ سنة على الانتخابات التي عُرفت بتزويرها، اندلعت التظاهرات التي سبقت حرب 1958 الأهليّة. خالي الذي حُكم بالإعدام وفرّ إلى سوريّة، أقام في حمص، ومنها راح يرسل أسلحة إلى عكّار أو يستقبل فيها شبّاناً عكّاريّين يقصدونه عُزّلاً ويعودون مسلّحين. هكذا صرنا نتعثّر بالرصاص في ممرّات بيت جدّي، ولم يكن من غير العاديّ أن يلمّ واحدنا «مشط رصاص» عن الأرض ليضعه في مكان أعلى. لكنّ المدهش أنّ بعض السلاح والرصاص المرسلَين كانا يصبّان في خزائن بيت العلي المناوئين ل «الثورة». هذا السلوك لم يُفهم سببه إلّا بعد عامين. ففي 1960، وكانت «الثورة انتهت فيما انتُخب فؤاد شهاب رئيساً، أجريت انتخابات عامّة أخرى. وقد بدا يومذاك أنّ خالي سيكون عضواً في لائحة العلي الذي طالت حيرته وتردّده بين اختياره واختيار الصرّاف. فالخال زوّده بالسلاح قبل عامين، واكتسب شعبيّة معتبرة بين المسلمين بسبب دوره في «الثورة»، كما بسبب صورة وُزّعت تظهره وهو يصافح عبد الناصر في دمشق. لكنْ إذا كانت الشهابيّة تهضم عروبيّاً في منطقة غير حدوديّة، فهي لا تهضمه في منطقة تبعد أميالاً من سوريّة. لقد أدرك العلي أنّ اصطحاب الصرّاف على لائحته يؤمّن له «عطف الدولة» الذي يخسره باصطحاب خالي. هكذا ضمّت اللائحة، فضلاً عنه وعن الصرّاف، علي عبد الكريم ورشدي فخر الذي كان ضابطاً سابقاً تجمعه صداقة متينة بقائد الجيش الذي كانه شهاب. أمّا اللائحة المقابلة التي شكّلها بشير العثمان فضمّت بهيج القدّور ورؤوف حنّا وميشال الضاهر. وبدوره، خاض الخال الانتخابات منفرداً. ومن دون أن تردعها، هذه المرّة، أيّة عضويّة في لائحة يرأسها «إقطاعيّ»، انطلقت الحملة على «الإقطاع». وإلى الحملة، كان يتواصل، في القرى المسلمة، دون المسيحيّة، التذكير بأمجاد «ثورة 58» والشراكة، من موقعين مختلفين، فيها. على أنّ البهجة لم تطل. فما كادت تنقضي ساعتان على بدء الاقتراع حتّى أعلن المرشّحون جميعاً، ما خلا لائحة العلي، عن مقاطعة الانتخابات. لقد طالبوا مؤيّديهم بالامتناع عن التصويت احتجاجاً على ما يمارسه «المكتب الثاني» من تزوير لمصلحة «سليمان بيك» ولائحته. يومذاك تداول بعض العكّاريّين قصصاً شتّى عن طائرات هيليكوبتر، وكانت الكلمة جديدة على أسماعنا، تنقل الصناديق من القرى النائية إلى حلبا، مركز القضاء، كي تُفرز الأصوات فيها. أمّا العبارة الذائعة، فهي أنّ ناقلي الصناديق من العسكريّين كانوا يُتلفون كلّ ورقة إن لم تكن تحمل أسماء العلي ولائحته. وبالفعل حلّ الأخيرون في البرلمان الشهابيّ الأوّل فيما تولّى سليمان العلي وزارة الاقتصاد في الحكومة الموسّعة التي شكّلها صائب سلام. لكنّ القطب العكّاريّ ما لبث أن انضمّ إلى المعارضة، ما أفقده حظوة الشهابيّة وأجهزتها. هكذا استُعيد الغزل بينه وبين خالي الذي أطلّ عليه العام 1963 إطلالة مشرقة. ففيه استولى البعثيّون على السلطة في سوريّة وشكّل صلاح الدين البيطار حكومة ضمّت عدداً من أصدقائه وزملاء صفّه أيّام الدراسة في دمشق. ولمّا كان قد انحاز إلى البعث بعد انفجار خلافه مع الناصريّة، حليفة الشهابيّة، باتت مساحة التلاقي مع العلي أوسع وأعرض. في تلك الأثناء اعتقل ضابط سوريّ اسمه جلال مرهج، اتّهمته الدولة اللبنانيّة بأنّه تسلّل للقيام بأعمال تخريبيّة في لبنان. ووفقاً للاتّهام، كان شريكه في هذه الأعمال قحطان حمادة، السياسيّ الشوفيّ المقرّب من كميل شمعون، والذي حلّ إبّان عهده، في انتخابات 1957، في المقعد الذي حُرم منه كمال جنبلاط. وإذ تولّى الخال الدفاع عن مرهج واتّهام «المكتب الثاني» الشهابيّ والسفارة المصريّة في بيروت باختلاق المسألة، ضاقت المسافة التي تفصله عن شمعون وبات ممكناً طيّ صفحة ال58 وخصومتها. وبتأثير سليمان العلي ومحسن سليم، النائب المعارض يومذاك عن دائرة بيروت الثانية، والمحامي البارز الذي كان خالي يعتبره زميلاً وصديقاً كبيراً، بات يحضر اجتماعات المعارضة التي يتصدّرها شمعون. وقد فهمت لاحقاً أنّ دمشق كانت مرحّبة بهذه الخطوة يخطوها «صديق الحزب»، ومتمهّلة في قيام صديقه عبد المجيد الرافعي بمثلها. فالأخير حزبيّ، لقاؤه المعلن بشمعون لا بدّ أن يستخدمه الناصريّون للتشهير بالبعث ونظامه الجديد. 1964 في هذا المناخ، أجريت انتخابات 1964 التي قرّر فيها شهاب سحق المعارضة المسيحيّة التي بات العلي محسوباً عليها. وبالجذريّة نفسها التي اعتمدها شمعون في سحقه المعارضة المسلمة في 1957، حين رسّب صائب سلام وأحمد الأسعد وكمال جنبلاط، تمّ ترسيب كميل شمعون وريمون إدّه. أمّا في عكّار فتشكّلت ثلاث لوائح، أولاها، وهي التي فازت، ضمّت بشير العثمان وبهيج القدّور ويعقوب الصرّاف وفخر فخر الذي حلّ محلّ أخيه المتوفّى رشدي. وبدورها ضمّت الثانية، إلى العلي وخالي، كلاًّ من علي عبد الكريم والمحامي مخايل الضاهر، فيما ترشّح، في اللائحة الثالثة، محمّد الأسعد، قريب الراحل محمّد العبّود، وجود الإبراهيم ورؤوف حنّا وميشال الضاهر. أمّا التمثيل الاجتماعيّ فلم يتغيّر عمّا كان. ذاك أنّ المرشّحين الستّة من السنّة مراعبة وملّاكو أراضٍ، فيما تتزيّن كلّ واحدة من اللوائح بمحام أو طبيب مسيحيّ، أو ثريّ جنى ثروته في المهجر، كرؤوف حنّا وميشال الضاهر. لكنّ لائحة العلي ضمّت محاميين كلّ منهما مشكلة، حتّى قيل أنّ معرفة العلي المسبقة بأنّ شهاب لن يسمح بفوزه هي التي حملته على هذا الضرب الانتحاريّ باصطحابه هذين المحاميين. فالخال كان متّهماً بالبعثيّة وكان غالباً ما يُذكّر بدفاعه عن جلال مرهج، فيما اتُّهم مخايل الضاهر بالقوميّة السوريّة لدفاعه عن فؤاد عوض، أحد الضبّاط الثلاثة الذين نفّذوا محاولة الانقلاب القوميّ في ليلة رأس السنة 1961-1962. ولتأكيد الإصرار على إسقاط لائحة العلي، شاعت رواية تفيد بأنّ «المكتب الثاني» هو الذي شكّل اللائحة الثالثة كلائحة «تفطيس»، تنتزع من لائحة العلي أصواتاً «تفطّسها» وتفضي إلى فوز لائحة العثمان. لكنْ في إبّان الحملة الانتخابيّة، وفي يوم استضافة اللائحة في بيتنا في بينو، وجدتُ خالي يجذبني من يدي إلى الغرفة التي عُزل فيها العلي وأفراد اللائحة عن الجمهور المحتشد في الخارج. لقد أراد أن يُسمعه من خلالي – أنا ابن الثالثة عشرة الذي لا يؤاخذ على كلامه – شيئاً لا يسعه هو نفسه أن يقوله مباشرة. وحين أصبحت وجهاً لوجه أمام البيك، طلب منّي الخال أن أتلو قصيدة عن «الإقطاع»، فألقيت قصيدة لسليمان العيسى تتوعّده بمزابل التاريخ. لقد صفّقوا، وللتوّ ضحكوا لي وضحكوا عليّ في الوقت عينه، ثمّ ناداني البيك وقبّلني على خدّي، فيما قال خالي، هازّاً رأسه هزّة توحي معاني متضاربة: «يا عمّي، كيف طالع هالجيل!»، طالباً منّي أن أغادر الغرفة. 1968 لم تلبث العلاقة بين العلي والخال أن تردّت بعد انتخابات 1964. فنهاية العهد الشهابيّ واختيار شارل حلو رئيساً جعلا البيك العكّاريّ يعتدل. ذاك أنّ معارضي الشهابيّة بدأوا يراهنون على انزياح بطيء عنها يُحدثه الرئيس الجديد. ورهانهم كان في محلّه، إذ حلّت في تلك الغضون هزيمة الناصريّة في 1967 وتسلّم سليمان فرنجيّة وزارة الداخليّة التي أجرت الانتخابات بعد عام، مسجّلة الفوز الساحق ل «الحلف الثلاثيّ» في الجبل. أمّا الخال فاختلفت حساباته. ذاك أنّ دمشق، خصوصاً بعد انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966، راحت تتطرّف أكثر فأكثر. لقد صار تحالفه كمتّهم بالبعثيّة مع «البيك الشمعونيّ» سليمان العلي موضع استبعاد الطرفين، وهو ما راحت الأيّام تخصّب العداوة التي فيه. هكذا خيضت الانتخابات بلوائح ثلاث، اثنتان منها ترأّسهما البيكان التقليديّان، العلي والعثمان. بيد أنّ الأوّل لم ينجح في أن يحقّق، في عكّار، ما حقّقه زملاؤه في جبل لبنان. هكذا رسب العلي، ومعه على لائحته، جود الإبراهيم ورؤوف حنّا ومخايل الضاهر، فيما فاز العثمان، مصحوباً ببهيج القدّور ويعقوب الصرّاف وفخر فخر. أمّا اللائحة الثالثة فضمّت إلى خالي بيكين ثانويّين هما عبد الكريم مراد ومحمّد عبد الكريم، والمارونيّ ميشال الضاهر. يومذاك قال لفيف آل العلي إنّ هذه الأخيرة هي «لائحة التفطيس» التي اعتمدها «مكتب ثانٍ» يترنّح. في تلك الانتخابات ذبح العمّ نسيم ديكاً داخل سيّارته «التَونس» وراح يجوب القرى المسلمة والمسيحيّة، فيقول في الأولى إنّ «جماعة العلي ذبحوا شيخاً في سيّارته، وهذا دمه»، ثمّ يقول في القرى الثانية إنّ الجماعة نفسها ذبحت كاهناً. ولئن لم تتسبّب حملة العمّ نسيم بأيّ تحوّل نوعيّ في نتائج الانتخابات، وكان هذا شهادة لمصلحة الوعي والحصافة، فإنّ ما لم يكن كذلك إقدام أحمد على التلويح بعصاه حين التقى موكبا اللائحتين المتخاصمتين في طريق ضيّق من طرقات بلدة عكّاريّة نائية. في تلك اللحظة، وقعت على أحمد عين الخال فطلب منه بحدّة وعصبيّة أن يرمي عصاه وألّا يضرب بها أحداً ممّن تطلّ رؤوسهم من سيّارات الموكب الآخر. لكنّ أحمد الذي يؤمن بأنّ العصا التي تُرفع ينبغي أن تُستعمل، شاء، منعاً للعار، أن يخبط بها رأس أخيه. يومذاك نُقل أخوه إلى المستشفى، ومنه إلى المصحّ، وبعد ذاك انقطعت أخباره. إلى الدم... في مقابل ما كان يحصل في دمشق، أواخر الستينات، بدأ أغنياء بيروتيّون ومقيمون في بيروت يستثمرون في سهل عكّار. وهم استثمروا بوسائل أرقى وأحدث من التي كانت سائدة ومتوارثة جيلاً عن جيل. هكذا راحت تتجمّع علامات تصدّع اجتماعيّ وتذمّرات فلّاحيّة وجدت في البكوات المحليّين أعداءها المباشرين. وما بين 1969 و1971 كان خالي محامي الفلّاحين، كما بات مكتبه في طرابلس خليّة نحل لمطالبهم. قضيّةٌ محقّة أخرى ومتفجّرة أيضاً تولّى الدفاع عنها آنذاك، هي تجنيس «عرب وادي خالد» الذين لم تؤدّ إقامتهم المديدة في «الوادي» إلى منحهم الجنسيّة اللبنانيّة. لكنّ طرق الدفاع عمّا هو مُحقّ ليست بالضرورة مُحقّة دوماً. فآنذاك كانت الأسلحة التي يهرّبها «الشباب» من سوريّة تتكدّس في القبو الواسع وراء مطبخ بيت جدّي. وكانت «دبّابات صلاح جديد»، كما كان البعض يسمّونها، تخترق الحدود اللبنانيّة بإيقاع أسبوعيّ تهتف له أرواحنا لأنّها «تخيف حكّامنا» و «تهدّد البكوات». وتحت طبقات الضجيج كانت تتردّد ثرثرات تفيد بأنّ حركة «فتح» الفلسطينيّة تسلّح «الإقطاعيّين» السنّة، فيما تسلّح «الصاعقة» السوريّة فلّاحي السهل، لا سيّما منهم العلويّين المقيمين فيه والمهاجرين إليه حديثاً. في هذه الأجواء الحادّة والمحتقنة أجريت انتخابات 1972 التي لم أشهدها. بيد أنّ أخبارها كانت تصلني تفصيلاً تفصيلاً، ليس لسبب بيتيّ فحسب، بل أيضاً لأنّني كنت أسمّي نفسي «ماركسيّاً لينينيّاً» معنيّاً بالأمر، وحين أُسأل عن علاقتي بخالي أقول متفاصحاً إنّها «تأييد نقديّ». ذاك أنّه، وفقاً للغة ذاك الزمن، «بورجوازيّ صغير» بجميع المثالب التي حمّلتها الماركسيّة لحاملي هذه التسمية. إلّا أنّه، مع هذا، خاض مغامرة وكسر مألوفاً. ففي تلك الانتخابات ترك كلّ من العلي والعثمان مقعد الروم الأرثوذكس شاغراً على لائحتيهما. أمّا السبب فأنّ سليمان فرنجيّة، الذي فاز برئاسة الجمهوريّة قبل عامين، رشّح صهره المهاجر عبد الله الراسي للمقعد الأرثوذكسيّ في عكّار. وإرضاءً للرئيس، تشاركت اللائحتان المتنافستان في ترشيح الصهر الذي أجمع عليه البيكان. ردّاً على ذلك، لم يكتف الخال بالترشّح، بل شكّل لائحة ضمّت، للمرّة الأولى في تاريخ عكّار، مرشّحين سنّيّين هما موظّفان بسيطان في التعليم وفي وزارة الزراعة، استقالا من عملهما كي يخوضا المعركة. أهمّ من ذلك أنّ هذين الشريكين، محمّد أحمد البعريني ومعن ملحم، لم يكونا مرعبيّين، فيما ترشّح النقيب فؤاد عوض، صاحب الانقلاب الستينيّ، عن المقعد المارونيّ. في تلك الانتخابات، كان التذكير ب«ثورة الفلّاحين» في سهل عكّار قويّاً ويوميّاً، وما كادت تنتهي الانتخابات التي فازت فيها لائحة العلي، كما فاز الراسي بأصوات لائحتين، حتّى بدأ الاقتراع بالدم. اغتيالات ومحاولات اغتيال تلاحقت، توّجها مصرع الخال في واحد من أيّام 1974. آنذاك كانت الانتخابات، في لبنان كلّه، تسلّم عرشها للدم.