«سلمان للإغاثة» يوزع 1100 سلة غذائية و1100 حقيبة صحية لمتضرري الزلزال بمحافظة الرقة السورية    جامعة أم القرى تحصد جائزة أفضل تجربة تعليمية على مستوى المملكة    وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية فرنسا    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    فلكية جدة : "القمر العملاق" يزين سماء المملكة اليوم    الذهب يواجه أسوأ أسبوع في 3 سنوات وسط رهانات على تباطؤ تخفيف "الفائدة"    النفط يتجه لتكبد خسارة أسبوعية مع استمرار ضعف الطلب الصيني    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    موقف ريال مدريد من ضم ثنائي منتخب ألمانيا    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    الاعلان عن شكل كأس العالم للأندية الجديد    بيهيتش: تجربة النصر كانت رائعة    القيادة تهنئ ملك مملكة بلجيكا بذكرى يوم الملك لبلاده    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    البثور.. قد تكون قاتلة    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمين الأمم المتحدة يؤكد في (كوب 29) أهمية الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية    إصابات بالاختناق خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي بلدة الخضر جنوب بيت لحم    هيئتا "السوق المالية" و"العقار " توقعان مذكرة تفاهم لتنظيم المساهمات العقارية    الحكم سلب فرحتنا    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الرياض تستضيف النسخة الرابعة لمنتدى مبادرة السعودية الخضراء    جرائم بلا دماء !    الخرائط الذهنية    احتفال أسرتي الصباح والحجاب بزواج خالد    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    علاقات حسن الجوار    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    6 ساعات من المنافسات على حلبة كورنيش جدة    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    عاد هيرفي رينارد    لماذا فاز ترمب؟    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    مركز صحي الحرجة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للسكري"    انطلاق فعاليات المؤتمر السعودي 16 لطب التخدير    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    استعادة التنوع الأحيائي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    مقياس سميث للحسد    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معرفة بعض لبنان طوائف وعائلات ، مناطق وأحزاباً سياسية 1
نشر في الحياة يوم 19 - 08 - 1999

قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب.
مع ذلك فالمادة الغنية التي وردت على ألسنة من قابلتهم تستحق النشر، لا سيما لما تحمله من معرفة اولية تطول تاريخ البنى والتشكيلات اللبنانية القديم منها والحديث. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ.
وكما هو واضح، تم البدء بذكر اسم الشخص المُقابَل، وايراد كلامه مع حذف الاسئلة. واذا كان واضحاً ان توحيد لغات الاجابات يملي قدراً من التعسف، الا ان الرغبة في اختصار المساحة والوقت قد تبرر التعسف هذا.
نهاد حشيشو: صيدا/ البعث/ الشيوعيون
المزاج العام في صيدا اواخر الخمسينات كان ناصرياً - بعثياً يلتف حول معروف سعد. البعثيون كانوا من ابناء العائلات والمثقفين وطلاب الجامعات في صيدا. كان منهم الدكتور محمد عطاالله، وآل عطاالله جب من آل حشاش المتواجدة في بيروت، وعطاالله في صيدا اسرة بورجوازية صغيرة قليلة العدد. وبين الرموز البعثية الاخرى كان الدكتور هشام البساط الذي درس في مصر بعد المقاصد، وهو ابن عائلة تجارية عريقة، وكذلك غازي البساط، المحامي الذي درس ايضا في المقاصد ثم القاهرة، ونبيه حشيشو، والنقابي حسيب عبدالجواد. والاخير خاله صلاح البزري، وهو من وسط عائلي كان قريبا من رياض الصلح، وكان صلاح مهما نظرا لدعم عائلته له ولكونه "شيخ شباب". كذلك كان منهم الدكتور مصطفى الدندشلي الذي درس في الازهر ثم في فرنسا. وهذا الجيل تتراوح اعمار ابنائه الآن بين ال50 وال60 سنة.
في 1959 كان حوالي 500 شاب بعثي في صيدا هم نخبة المدينة. لم يكن من وجود ملحوظ لحركة القوميين العرب. الحركة هناك بدأت مع الفلسطينيين: عبدالكريم حمدان ابو عدنان وصلاح صلاح. لقد بدأوا، في 1957 و1958، يستقطبون صيداويين كان ابرزهم عدنان الزيباوي وعدنان مارديني ورشيد الزعتري، وهم ايضا من ابناء العائلات مع ان عائلات البعثيين كانت اعلى كعباً، كما كان البعثيون اكثر تأثيرا كأفراد. وهذا فضلا عن ان الوجود البعثي كان اعرق: فهو بدأ في صيدا في حوالي 1952، مع محمد عطاالله حين كان يدرس في الجامعة الاميركية ببيروت مع سعدون حمادي وبعثيين عرب آخرين. في الستينات ظلت الحركة هامشية، رغم ضمور البعث بسبب خلافه مع عبدالناصر. وهذا مع ان رموزا للحركة ظهروا في حارة صيدا، اي في وسطها الشيعي، كالمحاميين مصطفى صالح وفؤاد الزين، الا ان الحارة كانت انتخابيا تتبع قضاء الزهراني.
قبل ذلك كان الانقسام التقليدي للمدينة بين نزيه البزري وجماعة رياض الصلح ممثلين بصلاح البزري. صلاح ونزيه ليسا من منشأ اجتماعي مهم في عائلتهما المهمة. الزعامة التقليدية للعشرينات كانت للحاج مصباح البرازي والحاج سعيد البرازي: ملكيات أرض ومواقع في البلدية. نزيه، في المقابل، ابن موظف صغير وامه خيّاطة، درس في الجامعة الاميركية بطريقة عصامية. صلاح نجل صاحب دكان صغير على البحر وهو ليس متعلما. هو واشقاؤه قبضايات هربوا في الحرب والتفوا حول رياض الصلح.
نزيه انتسب الى حزب النداء القومي الذي ضم، في صيدا، شباناً صلحيين لكنهم ليسوا في جهاز السلطة الصلحية. لاحقا تحرك نزيه ضد العائلية والتقليدية وخاض الانتخابات ضد رياض الصلح الذي خاض معركته الى جانب احمد الاسعد فيما خاضها نزيه مع عادل عسيران. كان ذلك في 1951 لكن اصوات صيدا اكتسحها نزيه بينما نجح رياض بالاصوات الشيعية. وبعد مقتله طرح آل الصلح اسم كاظم الصلح فانسحب له نزيه لأنه كان من ابرز قيادات حزبه، حزب النداء القومي.
المعركة، في 1953، جرت بين كاظم وصلاح البزري ففاز الثاني وحصد الصوت الشيعي. المعركة التالية كانت بين تقي الدين الصلح ونزيه البزري ونجح الثاني. يومها كان القبضاي معروف سعد مع تقي الدين. معروف عندما عاد الى صيدا بعد مشاركته في حرب 1948، عينه رياض مفوض الشرطة في صيدا، وحين وقف مع تقي الدين كان لا يزال مفوضا. المعركة بين تقي ونزيه قسّمت عائلات صيدا: عائلات كالجوهري والمجذوب ايّدت تقي، وفي تلك الاثناء من انقسام الحياة التقليدية بدأ العمل الحزبي يشق طريقه.
في 1957، جرت اتصالات بين شيوعيين وبعثيين واصدقاء لمعروف سعد من اجل ترشيحه للانتخابات، وقد كان لحظتها في دورة للشرطة في اميركا. نزيه يومها كان شمعونياً. وهكذا، عند عودة سعد جرى له في المطار استقبال جماهيري بمثابة التمهيد لترشيحه، ومن ثم لمعركته حيث كان بين قلة من المعارضين لشمعون تمكنوا من الفوز في انتخابات 1957.
معروف خاض معركته الاولى بشعارات ناصرية، ووقف معه البعث والشيوعيون والحركة. نزاع البعث ومعروف لاحقاً جاء تتمةً للخلاف الناصري - البعثي لكن الانحسار البعثي بدأ مذّاك، خصوصاً أن حسيب عبدالجواد والأكثرية وقفوا مع غسان شرارة وغالب ياغي المتعاطفين مع أكرم الحوراني أشدّ خصوم الناصرية حدةً في البعث. حتى 1960 كان البعثيون، ومن خلال غسان شرارة الذي انشق، مسيطرين على رابطة الطلبة اللبنانيين في القاهرة. هذا كله تغير لغير صالحهم. في انتخابات 1964 النيابية ايّد البعثيون، وكذلك المنشقون عنهم من جماعة عبدالجواد، نزيه ضد معروف.
العهدُ الشهابي قوّى معروف، فيما كان المكتب الثاني يزعج البعثيين. في 1963 جرت المعركة البلدية ففاز معروف على نزيه. الشارع الوسطاني وحي الدكرمان، اي مناطق الاغنياء والاحياء الجديدة التي نشأت مع توسع صيدا شرقاً، كانت اكثريتها تؤيد نزيه. في حي رجال الاربعين، الشيعي، انقسموا بينهما وكان فقراؤه مع معروف. المسيحيون في حي مار نقولا، وسط البلد، صوّت ثلثاهم لنزيه والثلث لمعروف: الموارنة هم اقلية المسيحيين الصيداويين والاكثرية كاثوليك. في الخمسينات نما الحزب القومي السوري بينهم لا سيما في مدرسة الاميركان في صيدا التي كان يقصدها تلامذة مسيحيون وشيعة من الجوار. المسيحيون عموماً تحفظوا وانكفأوا قليلا مع صعود المقاومة الفلسطينية رغم انضمام بعض افراد شبان منهم اليها. في طور لاحق انضم بعض شبانهم الى القوات اللبنانية.
الشيوعيون جاء نموّهم في سياق مختلف. في 1949 - 1950 كوّنوا مجموعات لهم في اوساط عمال النقل والمطابع والبساتين، ومدوا خيوطهم الى عدد من متعلمي ابناء العائلات هم ستة او سبعة اساتذة ابتدائيين وتكميليين بعضهم من مسيحيي صيدا. كان من الرموز الشيوعية للخمسينات استاذ المدرسة محيي الدين حشيشو، وهو الآن في اواسط خمسيناته، عائلته قوية وعلى مصاهرة مع آل البزري. كذلك كان هناك استاذ المدرسة الآخر خير الدين سنجر، ابن العائلة الصغيرة والبورجوازية الصغيرة، وسميح لطفي وهو استاذ مدرسة من عائلة بارزة، والمحامي عاكف عسيران وهو من عائلة عسيران نفسها اشتهر بتصدّيه، ذات مرة، لرياض الصلح. محيي الدين حشيشو كان سافر الى البحرين للتدريس في اواخر الاربعينات، وهناك على ما يبدو، تعرف الى الشيوعية.
النمو الشيوعي كانت تعيقه مسألة فلسطين واسرائيل، وهو ما كان استثمره البعث، ثم حاولت الحركة استثماره. ابان نزاع الشيوعيين مع الناصرية، كانت الروابط العائلية للشيوعيين ما يحميهم، ولأن معروف انضم مبكراً الى "انصار السلم" فهذا ساعدهم ايضا.
لقد وجد لون مسيحي نسبي للشيوعية في صيدا. فالثانوية التي نشأت اواخر الخمسينات كان يقصدها مسيحيون من قرى وبلدات جنوبية كدير ميماس وجزين وغيرهما، وبعض هؤلاء صار شيوعيا. لكنْ ابان ذروة النزاع مع الناصرية في 1958 - 1961 اقتصرت الشيوعية في صيدا على قراءة جريدة "النداء". كان الحزب الشيوعي اقوى واكثر شعورا بالحماية في المناطق الشيعية. في انتخابات 1960 رشحوا الدكتور طبيب ابراهيم المعلم منفرداً في قضاء النبطية ونال 2400 صوت. آنذاك كان الشيوعيون الشيعة، ومنهم فؤاد كحيل ابن النبطية، يساهمون في احياء عاشوراء.
سنياً، وفي بيروت، كان الحزب الشيوعي يقارب الصفر. ففي العاصمة وجدت الشيوعية بين عمال وطلاب شيعة ومسيحيين مهاجرين من الارياف، فضلا عن عناصر ارمنية. في 1964 صار للحزب وزن طلابي مهم في بيروت.
في 1959 انتسبت الى الحزب الشيوعي اللبناني. كنت يومها في صف البكالوريا، في صيدا، وعمري 18 سنة. في 1962، ذهبت مع جورج حاوي وعبدالرحمن يمّوت وجلال خوري وماري هبر ووداد الدبس وميشال حداد الى بولندا لحضور مؤتمر اتحاد الشباب الديموقراطي. هناك عرفنا بوجود خلاف روسي - صيني. بعد عودتنا بدأ النقاش وبدأت المطالبة بعقد مؤتمر. كان المطالبون طلابا ومعهم اعضاء في اللجنة المركزية. كان الصراع الخفي قد نشب والقاعدة لا تعرف به.
المطالبون بالمؤتمر دعوا الى تطوير الحزب على مستوى الجماهير، والانفتاح عليها، والتخلص من البكداشية، وكان الآخرون يقولون بأن لا ضرورة للمؤتمر كي لا ننكشف للسلطة. جورج حاوي كان يومها متمسكا بكل ما تقوله القيادة لأن المهم، في رأيه، ان نحافظ على قوتنا.
بين القيادات الطلابية الشيوعية في 1963 - 1964 ظهر سهيل طويلة وجوزيف ابو عقل والياس شاكر واقبال سابا وحنا يونس. في نيسان ابريل 1964 بدأت تتسرب قصص اختلاف نسيب نمر ونخلة المطران. الحزب بدأ يعمل على عزل المطران ومقاطعته. هنا راحت كتلة حاوي والشباب تتصرف وكأنها تنوي التخلص من الجميع بالتدريج. نسيب ونخلة وادمون عون واحمد الحسيني بدأوا معاً. نسيب اخذ مجلة "الى الأمام" وانفصل بها عن الجميع وراح يتبنى طروحات متطرفة. نخلة والآخرون فكروا بانشاء "اتحاد الشيوعيين اللبنانيين".
جورج حاوي ظل حتى 1967 يدافع عن القيادة، اي صوايا صوايا وحسن قريطم اللذين كانا الاقوى، لا سيما الاول. في اتحاد الشيوعيين ظل نخلة مشدوداً الى بكداش، فانشق عنه شبان ماركسيون انضموا الى تنظيمه من دون ان يكونوا، على الأرجح، قد مروا في الحزب الشيوعي، كسمير فرنجية وغسان فواز. كانت المسألة السياسية كما يطرحها المطران تقتصر على أزمة الحزب وجموده.
طلاب الحزب كان يتزايد ضيقهم بعدم انعقاد المؤتمر. في شتاء 1964 موظف في شركة ميدل ايست وأحد القيادات الوسطى في الحزب، اسمه جميل شاتيلا، اتصل، ومعه ستة عمال شيوعيين، بالصينيين في دمشق، ثم سافروا الى بكين. الوفد ضم اليهم آخرين بعضهم بسطاء خدعهم، وبعضهم صار قياديا في تنظيمه اللاحق: منهم فؤاد عوكي وهو مسيحي من سورية عاش طويلا في لبنان وعمل مترجما في وكالة نوفوستي السوفياتية، وحسيب مخايل وهو محام مسيحي، وحسن قبيسي وهو محام شيعي.
بقوا في بكين شهرا ونصف الشهر. شاتيلا بعد عودته، وقد حمل معه مساعدات صينية، انشأ "حزب الثورة الاشتراكية" ودارا للنشر يطبع فيها الاعمال الصينية، اسماها دار ابن سينا. وكان من اعمال هؤلاء قتل سائح اميركي سكران على المرفأ بصفته نشاطا مضادا للامبريالية.
التقينا بشاتيلا ومجموعته وكنا، فضلا عني، الياس رحيّم والياس حرب الاستاذ في مدرسة ابتدائية، وغالبيتنا كانت طلابا في الجامعة اللبنانية، يحرّكنا الانزعاج من وضع الحزب لا في لبنان فحسب، بل خصوصا في سورية. لم يدم شهر العسل بين مجموعتينا اكثر من خمسة اشهر.
محمد مشموشي: اقليم الخرّوب
ابناء برجا، في اقليم الخرّوب، تلقاهم يوميا في بيروت. القرب الشديد من الساحل وراء ذلك. انهم، في هذا، مثل ابناء الدامور والجيّة والسعديات. البرجاويون، في الواقع، ابناء مدن. هم غير قرويين او انهم ضعيفو الصلة بالارياف. النائب السابق محمد البرجاوي والده من سكان الغبيري. وهناك، بنتيجة هذا، عائلات بيروتية كثيرة اصلها من الاقليم: المزبودي وخالد ومنهم المفتي حسن خالد من قرية مزبود، والعانوتي من عانوت، والبعاصيري من بعاصير، فضلا عن البرجاوي من برجا.
ولدى البرجاويين شعور بالتنافس مع شحيم، القرية السنية مثلها. برجا اكبر عدديا لكن شحيم اكثر تعلما واكثر وظائف في الدولة، ومنها ظهر مدير عدلية ومدير قوى أمن داخلي وقائد درك. العائلات السياسية للاقليم، كالحجار وقبلان والخطيب وعويدات، من شحيم. الخطيب والحجار العائلتان الاكثر اساسية. فؤاد الخطيب كان في مطالع القرن سياسيا وشاعرا بارزا في سورية.
ابن برجا، في المقابل، كان يأتي الى بيروت ليبيع زيتا او يتسلى او يرتاد المقهى. ابن شحيم يتعلم ثم يتجه الى وظائف الدولة.
ايام الدستوريين والكتلويين انقسمت عائلات شحيم بين عويدات الكتلوية، والخطيب والحجار الدستوريتين، ولاحقاً صار آل الخطيب جنبلاطيين، وآل الحجار دستوريين يزبكيين. وابان النزاع الجنبلاطي - الشمعوني بات الحجار شمعونيين والخطيب جنبلاطيين. اما عويدات فيماشون الحجار، وكذلك قبلان حين يكون حجّاريٌ مرشح اللائحة المناهضة لجنبلاط. العائلات في الاقليم لا تنقسم داخليا بين شمعونية وجنبلاطية، بل تتجه واحدتها كُلاً الى هذا المعسكر او ذاك.
في برجا، عائلة البرجاوي هي الأهم، وهي تقليديا تتأرجح بين الجنبلاطية والشمعونية. واذا كانت شحيم، بسبب الوظيفة التي جلبت عليها كراهية باقي المنطقة، مصدر الوعي الموالي للدولة، فبرجا هي مصدر الوعي المعارض. وهناك مزرعة صغيرة قرب برجا هي بعاصير، وفيها عائلة القعقور الشمعونية المتواضعة والصغيرة العدد. وبين برجا وبعاصير هناك عائلة الحاج التي تتزعم العائلات الشمعونية في برجا، وقد برز منها الضابط الشهابي احمد الحاج، وهو ابن اخت حسن القعقور.
الاقليم ككل يمكن القول انه قاعدة للسلطة بسبب التعليم والوظيفة. مع هذا هو متخلف برغم قربه من العاصمة. من اسباب تخلفه ان الزعماء اللبنانيين السنة ابناء مدن ولهذا لا يهتمون به، في حين ان زعيمي الشوف الدرزي والماروني كانا ايضا لا يهتمان به لأنه سني. وهذا ما يفسر تعويل اهل الاقليم على الدولة لا على الزعماء.
والاقليم كناية عن ملكيات زراعية وسطى وصغرى اذ لا ملكيات ارض كبيرة فيه. لكن يبقى ان الوظيفة اساسية جداً. ففي الاقليم عائلات موظفين، كعائلة عثمان من قرية الزعرورية، ومنها عثمان عثمان الضابط الذي تولى مديرية قوى الأمن الداخلي ومديرية الغرفة المدنية في القصر الجمهوري. مدعيا عام التمييز سعيد البرجاوي ومنيف عويدات من الاقليم.
الحزب الشيوعي، في الاقليم، ارتبط اسمه باسم الدكتور علي سعد: مهندس زراعي وصديق للشيوعيين عائلته متوسطة ومتواضعة. لقد علّم سعد في الجزائر وساهم في حملة التعريب واصطحبه كمال جنبلاط على لائحته في احد المواسم الانتخابية للستينات. في تلك الفترة بدأ يُلحظ النمو الشيوعي في الاقليم وخاصة برجا. وفي السبعينات ظهرت في الاقليم "منظمة العمل الشيوعي".
حركة القوميين العرب كانت نمت في القرى العليا للاقليم، اي في شحيم وكترمايا وعانوت. كانوا شبانا ينزلون الى المدينة ويدخلون الجامعات ويتسيّسون. الناصرية استهوتهم.
هذه الموجة الحزبية لم تنفصل بالطبع عن الاقبال على العلم، لكنها لم تنفصل ايضا عن موجة نزع الشراويل في الخمسينات واعتماد الملابس الحديثة. آنذاك بدأت تظهر الحركة، وبدرجة اقل منها البعث.
في السبعينات بدأ يعود الاطباء المتخرجون في فرنسا والاتحاد السوفياتي ممن باع اهلهم قطع ارض لتعليمهم. لقد بدأ التوجه الى الطب يحل محل الاهتمام السابق بالحقوق والأدب والتاريخ. الأهل عموماً كانوا صارمين في العداء لتحزّب ابنائهم. كانوا يقولون لهم: ارسلناكم الى بيروت من اجل العلم، وغداً سنوظّفكم في الدولة فلا تسيئوا الى محاولتنا.
ورغم الاقبال العفوي والشعبي على الناصرية لم يحصل اقبال على التنظيمات الناصرية، بما في ذلك "المرابطون". ابراهيم قليلات أبرزَ دكتورا من الاقليم هو محمد شهاب الدين الا انه ما لبث ان ترك التنظيم لأنه احس بلا جدوى ذلك. الآخرون الذين صاروا من القيادات الحزبية هم عزالدين عويدات الذي بات في السبعينات من قيادات البعث العراقي، وكان سعيد مراد وجميل ملك من القيادات الوسطى في حركة القوميين العرب.
لم يظهر انتساب جدي للحزب التقدمي الاشتراكي. هذا ما لم يحصل في اي فترة سابقة. كذلك لم يظهر تاريخيا في الاقليم تيار ديني اصولي. وبفعل التداخل بين القرى المسلمة والقرى المسيحية، صار بعض القرى المسلمة يحتفل بعيد الصليب وبغيره من المناسبات المسيحية. وكانت هناك ايضاً اسباب فولكلورية وطقوس تتعلق بالمواسم وراء هذا التداخُل، كتغير العدّان مما يستدعي احراق العشب في البريّة.
التسامح الديني في العلاقة بالمسيحيين كان موجودا دائماً. لم ينقطع ابداً تبادل النعي في لحظات الوفاة. مع الدروز سادت علاقات باردة، او غير قائمة.
باسم السبع: الضاحية الجنوبية
ارتبط التقليد الدستوري في الضاحية، بين من ارتبط به، بآل فرحات من الشياح. عبدالكريم فرحات استمر سياسيا من خلال المحامي حسن فرحات الذي ظل يترشح حتى الستينات ضد محمود عمار، وعائلته من البرج. حسن فرحات كثر رسوبه وكافأه الرئيس فؤاد شهاب بتعيينه في منصب مهم في "مجلس الخدمة المدنية". هنا انتهى سياسياً. احمد السبع، والدي، كان يتبنى ترشيح حسن فرحات، فحين حل محله المحامي خضر حركة، وعائلته من البرج، في مواجهة محمود عمار تبناه احمد السبع ايضاً، وأدخله الى بيت الخوري والحزب الدستوري.
احمد وعلي ومحمود السبع اخوة وكلهم كانوا مخاتير. ابوهم المختار حسن السبع لُقّب بالمختار العدلوني نسبة الى امه وكانت من عدلون. كانت عائلتهم، فضلاً عن فرحات وحركة، يطغى عليها الميل الدستوري.
والواقع ان الارتباط الحزبي في الضاحية كان تقليديا ارتباطاً بالاحزاب في جبل لبنان: كتلويين ودستوريين ثم شماعنة. الدستوريون ظلوا اقوى من الكتلة، والكتائب لم تنم هناك ابداً. وحين انحصر التناقض بين خضر حركة ومحمود عمار كان الاول يأخذ 80 الى 90 في المئة من اصوات شيعة الضاحية. كذلك كان حال حسن فرحات من قبل.
وجهاء الضاحية كانوا يجمعون النقود لترشيح حسن فرحات، ورفاقه الموارنة والدروز في اللائحة كانوا يدفعون الاكلاف المترتبة عليه، بسبب قوته. الشيء نفسه يسري على خضر حركة. وكان سقوطهما يتسبب في مرارة سياسية موجهة ضد كميل شمعون حيث كان الصوت المسيحي المؤيد له في باقي المتن الجنوبي هو الذي يُنجح محمود عمّار.
وكانت المريجة والبرج تنتسبان الى بلدية موحدة، وفي اوائل الستينات فُصلتا. الشيعة ارادوا الفصل لأن المريجة المسيحية كانت تعدّل الكفّة لصالح عمّار الذي كان ايضا رئيس بلدية، وقبله كان عبدالكريم رحال، زوج عمّة محمود. المريجة كانت تشكّل ربع الاصوات والبرج ثلاثة ارباعها.
في الانتخابات البلدية كانت لوائح عمار تنال اكثر مما ينال هو في الانتخابات النيابية، وذاك لاسباب عائلية. حسين درويش عمار، كان نافذاً في عهد شمعون.
في ثورة 1958 حصل "اجتياح الرمول" اي التعمير عليها، وهي الارض المشاع. لكن مع العهد الشهابي، وبعد فصل المريجة، صار التيار الدستوري، لا محمود عمار، الاقدر على الامساك بالضاحية والبرج. قاسم منصور، مدير العاملية، جيء به بالأصل رئيساً للبلدية، رغم انقلاب على رئاسته حصل لاحقاً، كذلك صار الشيوعي البير فرحات عضوا فيها.
ومما كان سائداً لدى بعض قدامى اهل الضاحية تفضيلهم ابن الجنوب على ابن بعلبك، ربما لخوفهم من القيم العشائرية والثارات والدم. الهجرة البعلبكية بدأت في الخمسينات، وفي الستينات تعاظمت كثيراً. البعلبكيون سكنوا في الرمول الرمل العالي والاوزاعي وفي حي السلم في صحراء الشويفات. الجنوبيون ابكر هجرةً.
اما الحياة السياسية في العهد الاستقلالي فكان من محطاتها صعود عبدالله الحاج كشعبي وآدمي ونظيف. لكن الحاج لم يعد له وجود. انه يبدو اليوم بعيداً جداً يشبه صورة السياسيين القدامى. و"أصليو الضاحية" كما يسمّونهم اكثر انشدادا الى سياسة الجبل والمتن منهم الى السياسة الشيعية. النعرات الشمعونية والشهابية، والدستورية والكتلوية، لم تمت تماماً. في اوائل السبعينات اقيمت حفلة في مطعم السمكة للشيخ ميشال الخوري "العائد الى السياسة" حضرها وجهاء الضاحية وطغى عليها جو من الاحتفالية الدستورية.
اجتماعياً، تعرضت المنطقة لتحولات كبرى. الغبيري ذات الاكثرية الشيعية، وحارة حريك ذات الاكثرية المسيحية، شهدتا اواسط الستينات نهضة عمرانية وتجارية، وهذا مع العلم ان بناء المطار كان عطّل امكانات المشاريع في البرج. وفادة الرساميل الشيعية المهاجرة في اواخر الستينات، هي ما انشأ بير العبد وحي معوض والمعمورة: احياءٌ مستحدثة وبنايات قامت فوق حقول وبساتين من الليمون. حي معوض نموذج. انه حمرا الضاحية. بير العبد ظلت حتى اواخر الستينات حقول ليمون وحامض وصبّير. من العريس الى المريجة، هناك الآن كتلة بناء واحد ومتصل شرعت تنشأ مع بداية السبعينات.
المهاجرون البعلبكيون والجنوبيون، وخاصة الجنوبيون، كانوا عمال بناء المناطق المستحدثة، الى جانب العمال السوريين والفلسطينيين.
"أمل" ومن بعدها "حزب الله" استقطبا المؤيدين في اوساط الوافدين من البقاع والجنوب، لا سيما تجمعاتهم الاكثر حرماناً، كما استقطبا في المناطق المستحدثة كحي السلم وبير العبد والرمل العالي وحي ماضي. العائلات القديمة في الضاحية لم تدخل الا لماماً. افراد قلة منها فعلوا. في المقابل، فالمنشية والرويس اللتان تقيم فيهما العائلات الأقدم عهداً، سجّلتا انتسابا الى احزاب اليسار. القرب من المخيمات لعب، ايضاً، دوره في ذلك. وربما كان ابرز الشخصيات الحزبية من قدامى سكان الضاحية، الشيوعي البير فرحات الذي يحظى بالتفاف عائلته حوله. كذلك ظهر في البعث راضي فرحات، وربما فسّر النموَ النسبي للأحزاب في هذه العائلة الاحباط السياسي الناجم عن تجربة حسن فرحات. كذلك برز في منظمة العمل الشيوعي زهير رحّال، وعائلتا فرحات ورحال من المنشية. وظهر رياض رعد، من الشياح، في الحزب التقدمي الاشتراكي.
بين هذه الاحزاب كان الحزب الشيوعي ابرزها نمواً بالمعنى النسبي، وقد نما الحزب القومي السوري في عائلة الدرسا الصغيرة في التحويطة، كما انتسب الى الحزب مسيحيون من المريجة والحدث. لكن سكان الضاحية قمعوا نموه منذ وقوفه، في 1958، مع شمعون. آنذاك القوميون والجيش اقتحموا بيوتنا مرات عدة.
في بيت والدي، الصحافي والدستوري احمد السبع، رُفعت صورتا عبدالناصر وفؤاد شهاب. كانا لنا بمثابة النقيض لشمعون. الشيعي الشمعوني كان يومها يرفع صورة الملك حسين، الى جانب شمعون. الأسعديون، بين الجنوبيين، رفعوا صورة عبدالناصر. والخليليون والعسيرانيون صورة حسين.
يوسف الأشقر: المتن/ السوريون القوميون
الحزب السوري القومي الاجتماعي وُجد في المحيدثة، محيدثة بكفيا. وجد في عائلتي رومانوس وعقل وغيرهما من السكان الموارنة والكاثوليك. كذلك ظهر الحزب في بيت الشباب التي ربطتها علاقات سيئة تقليدياً ببكفيا. عند مطاردة الفرنسيين للحزب في الاربعينات كان لا يزال ضعيفاً في المنطقة، لكن بيوت الاهالي حمت اسد الاشقر.
الحس الطائفي ضعيف في المنطقة. قرية عينطورة، الواقعة فوق ضهور الشوير مثلاً، قرية مارونية: عائلة عازار قومية وعائلة الحاج كتائبية، لكن القوميين فيها اكثر من الكتائب. هناك تقاليد مبكرة للتعليم والهجرة الى افريقيا واميركا اللاتينية. ديك المحدي، القرية الصغيرة، كل سكانها من بيت الأشقر. في بيت شباب ايضاً عائلات حبشي الأشقر وجبر الأشقر. هناك علاقات قرابة بينها جميعاً. العائلة تفرّعت الى اجباب وحملت اسماء اخرى. الانتساب الحزبي، في ما بعد، عاد ليجمع الكثيرين منهم.
مع هذا ظهر انطون الاشقر، من ديك المحدي، وهو اشتراكي. وأشقر بيت شباب فيهم كتائب. وبيت شباب هي قرية الهجرة بامتياز، كما انها مركز حِرَفي عرف صناعة النسيج والاجراس والفخّار، ووجد فيها شيوعيون.
الحزب القومي امتد الى قرية النبي عثمان في البقاع. وراء ذاك كان عاملان: الاول، دور المهندس الزراعي علي نزهة الذي ترك رزقه وذهب يعلّم الناس الزراعة. لقد اكتشف تحسن المداخيل قياساً بما كان عليه الحال سابقاً في عهد سطوة الملاكين الكبار. هكذا بدأ في اواخر الاربعينات تمرده على الملاكين. والثاني، شعور الحزبيين بأن بعض أبناء بعض كبار زعماء العشائر أصبحوا أعضاء في مديريات حزبية يرأسونها هم. مثلاً، ركان ومشهور وحسن دندش، ابناء مصطفى طعّان، وكذلك أبناء عمّهم انتموا الى الحزب.
قبل الحرب كان في المتن حوالي 1500 عائلة شيعية كثيرون منهم قريبون من الحزب القومي. لقد عاشوا في الساحل: الزلقا، جل الديب، انطلياس، حارة الغوارنة. كذلك كان بينهم شيوعيون. كانوا ممتازين...
الحلقة الثانية: الاثنين المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.