كتب المعلق الصحافي اليميني النزعة المعروف دانيال بايبس في مقال في مجلة "نيو ريببليك" الاميركية منذ ايام، ان مفاوضات سرية مكثفة جرت بين بنيامين نتانياهو والرئيس السوري حافظ الاسد خلال شهري آب اغسطس وأيلول سبتمبر العام 1998. جرت هذه المفاوضات بشكل غير مباشر من خلال وسطاء اميركيين غير رسميين، من دون علم ادارة الرئيس بيل كلينتون. عقد هؤلاء الوسطاء تسعة اجتماعات مع الرئيس الاسد شخصياً، وعدداً مماثلاً من الاجتماعات مع نتانياهو ومعه وزير الدفاع اسحق موردخاي وعدد محدود من المساعدين. ولم تسفر المفاوضات عن نتيجة. وكان أول خيط كُشف عن هذه المفاوضات التي أحيطت بكتمان شديد، هو تحدي موردخاي لنتانياهو خلال مواجهة انتخابية جرت بين رئيس وزراء اسرائيل السابق ووزير دفاعه بعد ان خرج هذا الاخير على الائتلاف الحكومي، وأنشأ حزباً وسطياً، وتحدى زعيم "ليكود" خلال هذه المواجهة عندما صرح نتانياهو بأنه "لن يعطي الاسد ما ينوي باراك ان يتنازل له عنه". فقال له موردخاي ساخراً: "هل تجرؤ، يا بيبي، أن تقول ما تقوله وأنت تنظر اليّ في عيني؟". نقّب بايبس عن الاسباب التي دعت موردخاي الى التفوه بهذه العبارة، واكتشف فعلاً ان مفاوضات سرية جرت بين نتانياهو والاسد. بل اكتشف ان نتانياهو قدم الى الاسد تنازلات فاقت - على حد قول بايبس - كل ما وافق عليه رابين وبيريز في هذا المضمار، بل وكل ما هو متصور ان يقبله باراك. ولكن الصفقة لم تُنجز. والذي شغل بايبس بالذات هو لماذا أقدم نتانياهو اصلاً على هذه المغامرة المتناقضة تمام التناقض مع صورته كحاكم بالغ التشدد. وحصل بايبس من مقربين الى زعيم "ليكود" على تفسيرات أرجعت تصرف نتانياهو الى سبيين: أولهما خشيته ان "يبلّغه" كلينتون صفقة مع الفلسطينيين على غرار ما حدث فعلاً بعد ذلك في اتفاقية واي ريفر وتصور انه لا بد من صفقة مع الاسد لرد أي ضغط قد يأتيه من الجانب الاميركي. أما السبب الثاني فكان طموح نتانياهو في ان يصبح له مكان بارز في التاريخ بفضل اتفاق سلام مع سورية يليه اتفاق مع لبنان، وذلك بعد استنفاد كل الفرص المتاحة الاخرى: أي اتفاقية مع مصر، أو مع الفلسطينيين، أو مع الاردن. وهذه صورة لنتانياهو قد تراها اطراف كثيرة يعنيها الصراع متعارضة مع صورته كزعيم ممعن في التشدد. ولكن اعتقد نتانياهو- على حد قول بايبس - ان انجاز الاتفاق مع سورية سيحقق له نتائج باهرة في الانتخابات ودورة جديدة كرئيس للحكومة. والجدير بالملاحظة في هذه القصة - التي لم تعد سراً - انه يثبت مرة اخرى ان الاتفاقات كلها التي ابرمتها الاطراف العربية مع اسرائيل، انما ابرمتها بمنأى عن الاطراف الاخرى، ومن دون مشاركتها وحتى علمها. هكذا تصرفت مصر- السادات، وهكذا كانت اتفاقات اوسلو، وكذلك المعاهدة التي عقدها الملك حسين مع اسرائيل في عهد رابين - بيريز. وأخيراً المحاولة الفاشلة بين نتانياهو والرئيس الاسد. ولحدوث ذلك بصفة منتظمة - ومن دون استثناء - دلالات كثيرة، لا تقتصر على ان الاطراف العربية عاجزة عن التحرك بأي قدر من التنسيق والتضامن في ما بينها، وعاجزة عن تغليب التناقض مع العدو على التناقضات بين الاشقاء. وانما للظاهرة أبعاد ودلالات اخرى. فالاتفاقات كافة التي أبرمت هي اتفاقات "فوقية" لم يشارك فيها لا الرأي العام ولا النخب السياسية، ولم تتسم بأية صفة ديموقراطية، لدرجة ان ثمة سؤالاً بات يُطرح بعد ان فوجئت الادارة الاميركية باتفاق اوسلو، والآن بما كاد يكون اتفاقاً بين نتانياهو والاسد: هل دور الوسيط الاميركي في عملية السلام في سبيله الى التعاظم، أم التقلص؟ بعبارة أخرى، هل آلية التفاوض بشأن الصراع العربي - الاسرائيلي بصدد أن تندمج في الآلية الاعظم للصراعات على صعيد عالمنا "المعولم" المعاصر، أم بصدد ان تستقل عن هذه الآلية الأعم؟ فمن أبرز ملامح اللعبة الدولية الجديدة "الاحادية القطبية" إحلال حلف شمال الاطلسي محل مجلس الامن بوصفه المرجع النهائي في تقرير مجريات الامور كما ثبت في البلقان. فهل يؤذن ما يجري ان يُغَض النظر عن قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للامم المتحدة في ما يتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي؟ حرص باراك على زيارة الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله، وعلى ان يلتقي عرفات قبل ان يلتقي كلينتون في واشنطن وطوني بلير في لندن. مما يوحي بأن ثمة نية اقليمية في فصل آليات التفاوض بشأن التسوية في الشرق الاوسط عن اللعبة الدولية. أو أن هناك ما قد يجمع الفرقاء في الشرق الاوسط على ما بينهم من خلافات مستحكمة، وهو عدم ارتياحهم - جميعاً - لإخضاع آليات التسوية لصراعات دولية ربما بدت اكثر مركزية للنظام "العولمي" الراهن، ولكن الفرقاء في الشرق الاوسط يرونها ذات طبيعة مختلفة تماماً. ثم علينا إدراك ان لباراك مشاكل داخلية تقف عقبة في وجه أن يُخضع تحركاته لخط قد ينسجم مع اللعبة الدولية الجديدة، ولكن تُعرِّضه هو لمزيد من المشاكل والتعثرات على الصعيد الداخلي. إن اقتراح باراك بدمج تنفيذ اتفاقات "واي ريفر" مع مفاوضات الوضع النهائي ليس مجرد اقتراح عارض، ولا هو مجرد خروج على وعوده خلال المعركة الانتخابية، وانما هو تعبير عن مصاعب حقيقية تواجه رئيس وزراء اسرائيل الجديد وهو يبحث عن طريق يستأنف به المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، بل وايضا مع سورية ولبنان، بعد ان جمد نتانياهو المفاوضات على الجبهات كافة. إن باراك يتمتع بصلاحيات فردية لم يحظ بها اي رئيس سابق لحكومة اسرائيلية. فقد انتخب بمقتضى القانون الانتخابي الجديد الذي دعا اليه بيريز العام 1996 ويجري بمقتضاه انتخاب رئيس الحكومة مباشرة بغض النظر عن رئاسته قائمة حزب الغالبية. ثم صوّت له 56 في المئة من الناخبين، وهذه نسبة لم يحققها رئيس لحكومة اسرائيلية قبله. ثم هو يحظى بتأييد ادارة كلينتون، ولو لمجرد ان العلاقات بين كلينتون ونتانياهو تدهورت الى أبعد حد، لدرجة أن البعض يُرجع الى كلينتون تدبير "حالة" في اسرائيل، بعد تجميد نتانياهو اتفاق "واي ريفر"، أفضت الى انتخابات مبكرة وسقوط نتانياهو فيها سقوطاً مدوياً. ذلك أن نتانياهو لم يتورع عن إحراج كلينتون وابتزازه في ظرف كان هذا الأخير في أمسّ الحاجة فيه لإنجاز خارق في مجال السياسة الخارجية، يعزز مركزه أمام الكونغرس وقت بلوغ محاكمته بشأن فضيحته الجنسية أدق مراحلها. ولكن، على رغم ما قد تكون إدارة كلينتون بذلته من جهد لدعم مركز باراك، فإن هذا الاخير بصدد تناقض داخلي يتعذر عليه تجاهله. ذلك أن مركز باراك يتدعم كلما زاد عدد الاحزاب التي يُوفق في ضمها الى ائتلافه الحكومي. غير ان الائتلاف كلما زاد اتساعاً، شمل اطرافاً ذات مواقف متضاربة ومتنافرة في ما بينها، وبالتالي، عجزت عن جمع كلمتها على مساندة باراك في الخطوات التي يرى ضرورة اتخاذها. وهكذا وُوجه بمعضلة أن تصبح متطلبات قوته أسباب تردد وتضارب وضعف في صفوفه. فثمة خلافات برزت فعلاً داخل حكومة باراك. مثلاً، حول مشكلة المستوطنات. قرر باراك عدم إقامة مستوطنات جديدة، ولكن ايضاً عدم إزالة المستوطنات القائمة. هل يشمل ذلك تلك التي اقيمت بطريقة مخالفة لأية قواعد في المرحلة الانتقالية قبل تسلم باراك الحكم؟ وماذا عن المستوطنات في القدسالشرقية العربية؟ ثم هناك العديد من المشاكل التي قد تبدو فنية، ولكنها سياسية الى أبعد حد، وجوهرية الى أبعد حد، كقضية شُح المياه، ومشكلة اللاجئين، والبعد النووي الاسرائيلي، وقضية القدس في مختلف أبعادها. ثم لا بد من بروز تناقض آخر مبعثه اختلاف أجندة كلينتون عن اجندة باراك في تسيير عملية السلام، بعد أن تقرر استئناف المفاوضات. فمن مصلحة كلينتون الاسراع في التوصل الى ما يصلح "إعلاناً عن اتفاق شامل حول النزاع"، وإن كان اتفاقاً حول المبادئ العامة والخطوط العريضة للتسوية، على أن تترك لخطابات متبادلة كما جرى في معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية البت في عدد من المسائل المستعصية الحل التي تتطلب تسويتها عملاً مضنياً ووقتاً طويلا. وهكذا يكون بوسع كلينتون أن يدعي أن الفضل يعود اليه هو شخصياً، في ظل رئاسته الثانية والاخيرة، في ايجاد حل تاريخي لأحد أخطر صراعات القرن العشرين قبيل حلول القرن الجديد. غير أن باراك، بطلبه دمج تنفيذ اتفاق "واي ريفر" في اتفاق الوضع النهائي، انما ينتهج نهجاً مختلفاً، نهج التخفيف من وطأة المشاكل المستعصية بإرجاء تسوية الكثير منها الى المرحلة الختامية، ما يزيد من المشاكل المعلقة، ويصبح من المستحيل إعطاء الانطباع بإمكان إصدار بيان يزعم أن الصراع قد حل في جوهره، وان ما لم يحل ما هو إلا تفاصيل وارد حلها بخطابات متبادلة! ولذلك نقول ان ثمة تناقضاً ضمنياً بين موقف كلينتون الأكثر حرصاً على التعجيل بإعلان التسوية، وموقف باراك الأكثر حاجة الى وقت طويل حتى يتحقق للمفاوض الاسرائىلي أفضل مركز تفاوضي ممكن. وهذا تناقض ليس وارداً تصور حل عاجل، أياً كانت الحفاوة التي استقبل بها باراك في واشنطن، والآمال المعلنة عن تسوية عاجلة للصراع. * كاتب سياسي مصري.