عندما قام ايهود باراك بالتنافس على رئاسة حزب العمل الاسرائيلي مواجهاً زعيمه التاريخي شمعون بيريز شنت آلة الحزب الموالية لبيريز بقيادة السكرتير العام في حينه، نسيم زفيلي، حملة شعواء ضد القادم الجديد. وبعدما تمكّن باراك من اقصاء بيريز عن سدّة الزعامة، قامت آلة الحزب بمحاولات مستمرة لازعاجه والحؤول دون تمكينه من القيادة. في اثناء تلك الحرب الداخلية سرّب زفيلي لوسائل الاعلام شعاره بشأن باراك، وهو الشعار الذي ظل يلاحق الأخير حتى نجاحه في الانتخابات الأخيرة. كان الشعار مختصراً ولاذعاً في آن: "باراك لا يحلّق". على عكس هذا الشعار تماماً حلّق باراك منذ ذلك الحين حتى الآن. فقد تمكن ليس فقط من اقصاء زفيلي عن سكرتارية الحزب، وانما أيضاً تهميش جميع مؤيدي بيريز في عملية صناعة القرار الحزبي. وأحاط الجنرال السابق نفسه بموالين مخلصين جمعهم من ألوية الجيش المختلفة الذي قضى فيه سنوات حياته العملية وقاد رئاسة أركانه. واستطاعت هذه المجموعة المتماسكة من بناء آلة دعم جديدة تخطّت حزب العمل المنهك داخلياً لتصبح اخطبوطاً تمتد اذرعه عن طريق انشاء جمعيات اسناد متعددة الى مختلف قطاعات المجتمع الاسرائيلي. وكانت نتيجة ذلك انشاء حركة "اسرائيل واحدة" التي استطاعت من خلال التجنيد المحكم لآلاف من المتطوعين المخلصين من كسب معركة الانتخابات التي خاضها باراك بعقلية الجنرال الحربية، وكسبها من الجولة الأولى باحكام شديد ونسبة دعم حاسمة. حلّق باراك أيضاً خلال عملية تشكيل ائتلافه الحكومي. فقد استنفد كامل المدة القانونية المسموح بها لذلك، وخاض خلالها معركة استنزاف محكمة انهك فيها قوى، ليس فقط جميع الاحزاب التي تفاوض معها، وانما ايضاً جميع العرب والفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون بلهفة وقلق نتائج تلك المفاوضات. خاض باراك معركة الائتلاف على جبهات متوازية، وشكك الاحزاب بامكان جلوسها على مقاعد الوزارة، وأعطى اشارات متضاربة، ولكن صارمة، أدت في نهاية المطاف الى انهيار السدود الحزبية من حوله نتيجة تهافت المتهافتين، وتمكن من ضمان غالبية ائتلافية عريضة مستثنياً، بعكس سلفه رابين، الاتكاء على الاصوات العربية في الكنيست. في هذه الحكومة الجديدة، التي تضم اليسار واليمين، الغربيين والشرقيين، المستوطنين ودعاة وقف الاستيطان، العلمانيين والمتزمتين دينياً، برز باراك كمايسترو وحيد يقود فرقة موسيقية متعددة الآلات والأذواق ولا تستطيع الا ان تعزف اللحن الذي يريده فقط. لقد حلّق باراك وأثبت وثبّت نفسه قائداً لأركان الوزارة الاسرائيلية التي ستقود المفاوضات مع العرب والفلسطينيين. وعلى رغم فسيفسائية التشكيلة الوزارية الجديدة وتعدد اطيافها اليمينية لم يكن بوسع العرب والفلسطينيين، نظراً لرداءة نتانياهو من جهة وتهالك الموقف العربي من جهة اخرى، سوى الترحاب والتهليل بمخلّص عملية المفاوضات من عقمها: ايهود باراك. بعد احكام السيطرة على جبهته الداخلية انطلق رئيس الحكومة الاسرائيلية الجديد، وبعقلية الجنرال العسكرية الهجومية، الى التعامل مع الجبهة الخارجية. فعلى هذه الجبهة كان عليه ان يواجه اطرافاً متعددة، اقليمية ودولية، ذات مصالح ومطالب مختلفة، في احيان متعاضدة وأحيان اخرى متضاربة. وبعد ان استهلّ انتخابه بلاءات "نتانياهية" يمينية متشددة، تعلّم باراك سريعاً واختار عدم اقحام نفسه في مواجهة مبكرة مع المسار العام المؤيد للتوصل الى تسوية للصراع في المنطقة، التي كان من الممكن ان تؤدي الى تكالب القوى عليه كما حصل لنتانياهو. وبعقلية رئيس الاركان اختار باراك ان يركز نفسه في موقع حصين أولاً، وأن يقوم بعملية تفكيك للقوى التي يواجهها ثانياً، لينقضّ عليها بالهجوم بعد ذلك فيسهل عليه محاصرتها والسيطرة عليها ثالثاً. ومن متابعة ما قام به الجنرال - رئيس الحكومة - حتى الآن يمكن الاستخلاص ان استراتيجيته للتحرك التفاوضي تقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية: 1 - التمترس في المواقع: من الملاحظ ان باراك كان ولا يزال حريصاً على اشاعة اجواء تفاؤلية من حوله، ولكن من دون أن يقدم اي تراجع ذات مغزى عن المواقف الاسرائيلية التقليدية الموروثة، بما فيها مواقف الحكومة الاسرائيلية السابقة. فلاءات باراك بقيت على حالها تعكس الموقف الاسرائيلي التقليدي: لا تنازل عن القدس، ولا سيادة فلسطينية كاملة غرب النهر، ولا حقّ لعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم في فلسطين المغتصبة عام 1948. ليس هذا فقط، وإنما ايضاً عدم اتخاذ قرار رسمي بوقف العملية الاستيطانية في الأرض الفلسطينية. والأنكى من كل ذلك، عدم تفكيك المواقع الاستيطانية غير المقرّة رسمياً والتي تمت بمساعدة حكومة نتانياهو ولكن بصورة غير رسمية التي تمت خلال فترة الحملة الانتخابية في اسرائيل، واستطاع المستوطنون من خلالها "وضع اليد" على اكثر من اربعين قمة من قمم جبال الضفة الغربية. قرّر باراك ان يبدأ تحركه من اجل استئناف العملية التفاوضية ليس من حيث كانت توقفت، وانما من حيث يتم املاؤها على أرض الواقع المتغير للصالح الاسرائيلي يومياً. وبالتالي، يوظّف باراك كل الوقائع الموجودة كمنطلق لتحركه، وذلك كي يكسب "افضلية تفاوضية" تسمح له، ان أراد "التنازل" مستقبلاً، ان يكون "التنازل" في "الزيادة" التي لا يريد الاحتفاظ بها اصلاً. انه موقف تفاوضي بارع يقوم على مراكمة المكاسب وتحميل "وزرها" على ضرورات ومتطلبات داخلية متعددة، منها مثلاً، التزامات حكومية سابقة، العملية "الديموقراطية" الداخلية، و"التنازلات" المطلوبة للحفاظ على الائتلاف الحاكم. وبذلك تستمر العملية التفاوضية رهينة بيد اسرائيل تتحكم بمسارها ونتائجها الى أقصى حد ممكن، وهو حدّ يخترق الخطوط والحدود العربية والفلسطينية بالتأكيد. 2 - استلاب الأجندة التفاوضية: استطاع باراك ان يفرض منذ انتخابه "هالة" ايجابية حول توجهاته "السلمية"، مخفياً بطريقة بارعة ماضيه العسكري العنيف وتوجهاته السياسية المتشددة. وقد يكون للتخلص من نتانياهو تأثير عريض على استقبال "البطل المخلّص" الذي حظي به باراك من جميع الأوساط الاقليمية والدولية، حتى قبل ان يظهر بشكل موضوعي وعملي توجهاته الفعلية ومضمون خططه لوضع حد لصراع القرن. وفي هذا الشأن استغل باراك الإرث السلبي لسلفه للقيام بحملة علاقات عامة جعلت منه ليس فقط "ملك اسرائيل" وانما "ملك السلام" المنتظر في المنطقة. استغل باراك قدرته التخطيطية العسكرية الماهرة وقام بتجميع كل عوامل الزخم المتوقعة وباغت بها الأطراف المقابلة مجتمعين وفرادى. فالمبادرة أصبحت في يده، والجميع ينتظر الاشارات منه. ذهب الى القاهرة وقال ما يجب أن يقال هناك، وأخذ تفويضاً بمنحه مساحة زمنية لاستكشاف الأوضاع، وكأنها بحاجة الى استكشاف. ثم بادر الى الاجتماع بالرئيس الفلسطيني، وقال ايضاً ما يجب ان يقال، متبعاً ذلك باستمرار النهج في العقبة، قبل ان يستقر في البيت الأبيض ليأخذ المباركة الأميركية الجاهزة لمسعاه في "إقامة السلام". واستطاع باراك بالتالي ان يستلب الاجندة كلها لنفسه، وأن يحوّل العرب أجمعين الى متلقين ومنتظرين ومتلهفين، وأن يحظى، قبل ان يبدأ بأية خطوة فعلية، بدعم دولي مفتوح ومضمون. وأصبحت الطريق أمامه ممهدة ليخطو فيها الخطوات كما يشاء. وكل خطوة، مهما كانت هامشية او مظهرية، ستسجّل له ايجابية وسيحقق من خلالها تراكماً لتنفيذ خطة الانتصار. 3 - الهجوم التفاوضي على عدة جبهات: كما نجح باراك في إرباك الاحزاب الاسرائيلية المختلفة اثناء مفاوضات تشكيل ائتلافه الحكومي، نجح ايضاً - وبأقل الأثمان - في إرباك الاطراف العربية المقابلة في المفاوضات المرتقبة، ودقّ إسفين الشك بين الطرفين الرئيسيين: الفلسطيني والسوري. فمن خلال تلميحات، لم تقل الكثير ولم تأت بجديد، استطاع الجنرال - رئيس الحكومة أن يدغدغ المصالح المتضاربة للطرفين العربيين المعنيين أساساً بعملية المفاوضات، وأن يوحي بامكان التقدم على مسار تفاوضي على حساب آخر. ونتيجة لذلك انشغل العرب بأنفسهم فاتحين له المجال ليحلّق في رحاب حملة علاقاته العامة كما يشاء، ولم يتمكنوا من عقد القمة الخماسية المرجوة، أو القمة الموسعة، وبدأ الحديث المتجدد دائماً عن الحاجة الملحّة لتنقية الأجواء. سيفتح باراك هجومه التفاوضي على جبهتين على الأقل: الجبهة الفلسطينية والجبهة السورية - اللبنانية، ولكنه سيكون حريصاً على ان لا يسير بشكل متواز على الجبهتين، أو أن ينهي التفاوض عليهما في آن واحد على الاطلاق. سيبدو باراك ايجابياً في توجهه الافتتاحي هذا ليسجل لنفسه نقاطاً كثيرة، ولكنه في حقيقة الأمر يستهدف تضارب وضرب هذين المسارين مع بعضهما مع الوقت، وبطريقة يتم فيها وضع اللوم على الآخرين وليس عليه. يحاول باراك جاهداً انتزاع موافقة فلسطينية على دمج تنفيذ "اتفاق واي" مع مفاوضات الوضع النهائي. سيقوم عندما يقرر فتح المسارات التفاوضية بالتلكؤ في تنفيذ بنود "واي" ليستغل الفترة الزمنية من اجل فتح "كوّة" على المسار السوري - اللبناني، ليعود بعد ذلك معزّزاً بانتصار لتقديم الحل النهائي للجانب الفلسطيني. حينها سيجد هذا الجانب نفسه محصوراً محاصراً، فإما القبول بعرض باراك الذي ينتزع من الحقوق الفلسطينية لُبّها وجُلّها، وإما الرفض فتقع اللائمة على الفلسطينيين لتعنّتهم وعدم رغبتهم في انهاء الصراع خلال مدة عام. عندها سيأتي الضغط من الجميع للقبول بدولة فلسطينية مقلصة ومحدودة السيادة كما يريدها باراك تماماً. بدأ باراك السباحة مع التيار، وأحدث من حوله أمواجاً في كل الاتجاهات من دون ان يبلّل نفسه بقطرة ماء واحدة. يقوم التيار بحمل الجنرال وإغراق الآخرين رويداً رويداً بالماء. المهم الآن يكمن في التوقيت الذي سيختاره باراك للانقضاض على الآخرين لإبقائهم تحت الماء وانتشالهم منها حينما يشاء. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت.