إذا كان لفن التصوير تاريخ أو تواريخ، فإن الناس في الصور أيضاً مختلفون، اختلاف فن التصوير ومراحله. فهم اليوم مثلاً يقومون بمشاهد تمثيلية، لتصورها كاميرات الفيديو، ولكنهم فيما مضى كانوا يفعلون ذلك أمام كاميرات الفوتوغراف. حصل ذلك في الخمسينات على الأرجح. وقبل ذلك بقليل لم تكن الصورة الفوتوغرافية لحظة واحدة في مشهد متحرك، بل كانوا ينصرفون اليها بكليتهم، كانت جماع حياتهم، إذ كانوا يجلسون مستحضرين ملامحهم المتفرقة في مشاهد حياتهم ومواقعها المختلفة. ففي صورة هاشم المدني التي التقطها لأصحاب محالٍ تجارية في صيدا القديمة، يجلس العجوز بين شبانٍ ثلاثة، واضعاً يديه على ركبتيه، ومقدماً وجهه الى الأمام، في حين لا تُظهر ملامح وجهه أنه يفكر بغير الصورة، فتتخيل أنت الذي لا تعرفه أنه استعد لها منذ الصباح، وأنه في جلسته هذه إنما لا يفعل شيئاً سوى أنه يتصور. قد تكون مناسبة هذا الكلام الهموم التي دفعت مسؤولي المؤسسة العربية للصورة الى تأسيس مؤسستهم. فهم بدأوا منذ نحو سنتين بمشروع تجميع صور قديمة من بلدانٍ عربية، بغية حفظها، وهم في مشروعهم لا يرغبون في تلك الصور الشهيرة التي التقطها مستشرقون وسياح غربيون في نهاية القرن الماضي، وإنما تلك التي التقطها مصورون محليون. ويقول أكرم زعتري وهو أحد مسؤولي هذه المؤسسة أن التصوير أصبح حرفة محلية، عندما أصبح بإمكان المصور أن يخدم "ميكانسيان"، ولم يعد حرفة الرحالة الأوروبيين العابرين. حصل ذلك بين العامين 1910 و1915، إذ في تلك الفترة بدأت تتشكل برجوازية محلية مدينية، وترافق مع اختراع "Kodak Box Camera" وهي آلة تصوير صغيرة ورخيصة، اقتناها معظم المصورين المتجولين. وفي بحثهم عن تاريخ التصوير المحلي لاحظ القيمون على المؤسسة، أن أكثر من 90 في المئة من مصوري بدايات القرن في لبنان وسورية ومصر وفلسطين هم من الأرمن، واستمر هذا الأمر حتى بداية الخمسينات، ويعيدون ذلك الى اهتمام بطريرك الأرمن ياسييه غاربيديان بفن التصوير وإقامته أول محترف للتصوير سنة 1860. جمعت المؤسسة الى الآن نحو 12 ألف صورة قديمة، من مجموعات خاصة، وأخرى عائلية، من مصر ولبنان وسورية وفلسطين، وحفظت الصور في نظام كومبيوتر وأرشيف متطور، ووثّقت بطريقة يمكن الاستدلال اليها عبر التواريخ أو المواضيع أو أسماء المصورين. المشاهد التمثيلية للناس في الصور مختلفة باختلاف الأزمنة، فصور نهاية الستينات من هذا القرن، يظهر أشخاصها متقاربين على صورة عشاقٍ مثلاً، أو أشقاء في عائلة وقفوا من طويلهم الى قصيرهم وارتدوا ملابس متشابهة كل حسب عمره، كصورة انترانيك أنوشيان للعائلة الطرابلسية. جاء أفراد العائلة جميعهم الى الأستوديو، وارتدوا ملابسهم من أجل الصورة فقط، وإذ تثير الصورة تساؤلات للناظر اليها اليوم عن سبب بذلهم كل هذه الجهود من أجلها، فإن وجوه الأشقاء لا تجيب أبداً، ولكنها تستدعي مشاهد من زمنها، أيام كانت العائلات مؤلفة من خمسة أشقاء متدرجي الأعمار، ولكل عمرٍ ثيابه وابتسامته وتسريحة شعره. صورة أنوشيان للخطيبين أيضاً من زمن الستينات نفسه، المسافة بين الخطيبين، هي ما كان يسمح به ذلك الزمن من اقتراب، لم يظهرا كمحبين، وإنما تماماً كخطيبين. هي جاءت من منزلها، وهو من عمله والتقطت لهم الصورة ثم افترقا. معظم صور الخمسينات وبداية الستينات في مجموعة المؤسسة العربية للصورة، هي صور تمثيلية، والتمثيل هنا لا يقتصر على لحظة التقاط الصورة، أي أن المصور لا يطلب فقط تحريكاً للملامح أو الابتسام، وإنما يلتقط الصور من مشاهد تمثيلية كاملة. ففي مجموعة "السوسي" عشرات الصور لفتيان وصيادين يتصارعون على شاطىء البحر فيما الحركات التي التقطت لهم الصور وهم يؤدونها، مأخوذة تماماً من حلقات المصارعين الذين كانوا يجوبون المدن ويتصارعون في الأحياء. التقط السوسي عشرات الصور بأوضاع مختلفة للفتيان المتصارعين على شاطىء "الستينات" في صيدا، وأظهرهم وهم في سراويلهم الداخلية بعيدين عن الصورة على رغم وضوح تمثيلهم للمشهد. لكنه لم يصور صيادي الأسماك في صيدا على مراكبهم فهم اختاروا، أو ربما اختار أن يأخذهم الى الشاطىء الرملي، فهم على مراكبهم، لا يمثلون بل يعملون. صحيح أن هناك كثيراً من الصور للناس في أعمالهم، وأن ثمة مصورين كانوا يجولون لتصوير الناس في أعمالهم، ولكن في هذه الصور كان ال"ميكنسيان" يظهر بثيابٍ نظيفة ويطل الطفل الذي يعمل لديه من بين أجهزة المحرك ناظراً بعينيه البارقتين الى عدسة الكاميرا، كمن يسرق دخوله الى الصورة من معلمه الذي أتى بالمصور ليصوره وحده. في بدايات القرن كانت الصورة هي الثواني الأخيرة من دقائق تعب المصوَّرون في انتظار مرورها حتى يتمكن المصوِّر من تجهيز كاميرته وتأليف المشهد ولهذا يظهر المصوَّرون متعبي الوجوه وكاتمين أنفاسهم، ولهذا أيضاً ظهر أفراد عائلة العلم في صورتهم الملتقطة عام 1928 قبالة منطقة المنارة وكأنهم منتظرون منذ وقت طويل، وأن توقفهم أثناء توجههم الى بيروت، ونزول السيدتين من السيارة والوقوف أمام نافذة السائق، كان جزءاً من برنامج رحلتهم الى المدينة. ازدهرت في هذه الفترة أو بعدها بقليل ال"اللقطة المفاجئة" التي يظهر فيها الناس أثناء مرورهم في شارع مثلاً أو أثناء أكلهم سندويشاً، ولكن "الفوتو سوربريز" لم تكن كما تعنيه الكلمة تماماً، وإنما كانت تؤخذ بالاتفاق مع الأشخاص المصوَّرين ولكن بما يوحي بأنها أخذت من دون علمهم. الصور في أرشيف المؤسسة العربية للصورة، تستدعي في مخيلة من يراها، صوراً من حياة أشخاصها. ليست الصورة لحظة في مشهد، وإنما هي أقرب لأن تكون لحظة يمكن منها مشاهدة حياتهم كلها.