جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    العضلة تحرم الأخضر من خدمات الشهري    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    الكويت تلغى رسمياً حصول زوجة المواطن على الجنسية    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشر سنوات على ثورة الانقاذ في السودان . قراءة في فكر الترابي الانقلابي
نشر في الحياة يوم 08 - 06 - 1999

مرت عشر سنوات على الحركة الانقلابية السودانية تحولت "الجبهة الاسلامية القومية" خلالها الى شريك رئيسي في صنع القرار بعد ان حلت تنظيماتها واندمجت بالدولة على مختلف المستويات. وعلى رغم مرور هذه الفترة الطويلة نسبياً في عمر الحكم ما تزال الخلافات قائمة بين التنظيمات السودانية والحكم واستتباعاً الجبهة الاسلامية التي تحمّلها قوى المعارضة المسؤولية الكاملة عن كل ما حصل.
لم تقتصر الاضرار، وربما الفوائد، على السودان بل امتدت الى خارجه لتزيد الخلافات وترفع من نسبة التباين بين "الجبهة الاسلامية" المنحلة والقوى الاسلامية العربية التي انقسمت بدورها الى تيارين: فريق أيد بتحفظ وضم في مجمله القوى الخارجة على حركة الاخوان المسلمين، وفريق عارض بتحفظ وضم في مجمله حركة الاخوان في معظم فروعها وتنظيماتها.
ويذكر ان أصل الخلاف بين الجبهة الاسلامية وحركة الاخوان يعود الى عهد سابق بكثير لفترة حركة الانقلاب في السودان، وجاءت الحركة لتعززه وتزيده تعقيداً. فالخلاف يعود الى منتصف السبعينات وتجدد بعد حصول الانقلاب.
أدرك حسن الترابي باكراً، وهو دكتور دولة في القانون، ان معركته الأساسية في السودان ليست ضد العلمانيين فقط بل ضد الاسلاميين التقليديين ايضاً. وبحكم معرفته بواقع السودان وتركيبه الاجتماعي المتفرع على مناطق متنوعة سكانياً وموزعة على مساحات جغرافية واسعة ادرك ايضاً اهمية الدولة ودورها المميز في لعب دور التوحيد السياسي في بلد شاسع وقليل السكان.
شكلت النقطتان المذكورتان خط تماس متوتر بين فكر الترابي الحديث والتقاليد الاخوانية المتوارثة فحاول قدر الامكان دفع فرع الاخوان في السودان الى تطوير لغته السياسية وتطويعها حتى تستوعب المشاكل المعقدة والتركيب الخاص لبلد استقل حديثاً عن بريطانيا سنة 1956 وضخم الحجم وقليل السكان حوالي 35 مليون نسمة ومتعدد الأعراق والجهات عشر مناطق قبلية كبرى الى عشرات المجموعات العرقية والقبلية الصغيرة الى تنوع في مصادر ثروته ودخله واختلاف في بيئاته الجغرافية والمناخية وتحيط به ثماني دول عربية وافريقية.
بدأ التوتر حين تزعم الترابي حزب "التجمع الاسلامي" على أساس دستور "جبهة الميثاق الاسلامي" الذي مثل وجهات نظر مختلف القوى والتيارات الاسلامية الحديثة بين 1964 و1969. وشكلت تلك الفترة اول خطوة لتأسيس الافتراق بين الترابي وفرع الاخوان في السودان وبدأ الخلاف ينصب على مسألتين الاولى فقهية عندما دعا الترابي الى احداث ثورة اجتهادية تقوم على تجديد الأصول فصاغ منهجه الفقهي الذي يجمع بين اهل الرأي واهل الحديث وبين التفسير الظاهري والتفسير الباطني. وأشار الى ضرورة الدمج بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية وبين منهج الاستنباط ومنهج الاستقراء في محاولة منه للتوفيق ما بين الشرع والعلوم الاجتماعية والطبيعية المعاصرة لدراسة خصائص المجتمع السوداني. والثانية سياسية تقوم على معادلة كسب القوى الحديثة المتضررة من هيمنة القوى التقليدية وتأسيس تيار معاصر يشق طريقه المختلف بين القوتين الاسلاميتين المركزيتين طائفة الانصار المهدية حزب الأمة والطائفة الختمية - الميرغنية الاتحاد الديموقراطي.
اعتبر الترابي في محاضرة ألقاها في السبعينات تحت عنوان "تجديد أصول الفقه" ان من سمات السودان انه "بلد ضعيف التاريخ والثقافة الاسلامية الموروثة" ص 223. فالضعف التاريخي يعني بالنسبة له ان المجتمع غير موحد والدولة ضعيفة، وضعف الثقافة الاسلامية الموروثة يعني ان التيارات التقليدية تقوم على العصبية والمذهبية وليست اسلامية وفق المنهج العقائدي المعاصر.
واعتبر الترابي ان ضعف تكوين السودان التاريخي والثقافي فرصة لتجديد الفقه واحداث ثورة في الاجتهاد كذلك فرصة سياسية لاعادة تشكيله وفق صيغة دستورية معاصرة تجمع ما بين المطلق المنزل والواقع النسبي المتغير لذلك دعا في المحاضرة نفسها الى "بسط الشورى والالتزام بها بدقة وانضباط. فالجماعة المسلمة تبقى منظمة جداً حيث تكون الشورى فيها سارية سائدة" ص 224. وأكد على ان الدين هو محاولة دائمة للتوحيد بين الاستنتاج من أدلة الشرع وأحكامه وهو الأصل والاستنباط من بيئة الواقع وهو الأصل الأدنى.
لا يستخدم الترابي كثيراً كلمة الديموقراطية وربما لا يستخدمها اطلاقاً الا في مجال الاشارة الى حسناتها او سيئاتها. لكنه يكثر من استخدام تعبئة الرأي العام "بالتناصح والشورى" ويؤكد على ضرورة ربطها بمنهج أصولي فقهي جديد يحقق الثورة الاجتهادية. ويرى ان النظام الأمثل اليوم هو ان "نرد الى المصطلحات الاسلامية - العلم الفقه الاجتهاد الشورى والاجماع - شعبيتها وان نعترف بالتفاوت والتناصح والتذاكر مع اعترافنا بضرورة الاتحاد بين المسلمين في صياغة الاحكام التي يقتضيها الشرع في واقعهم" ص 251. ويشدد في محاضرة اخرى ألقاها في الخرطوم بتاريخ 20 كانون الثاني يناير 1987 بعنوان "منهجية التشريع الاسلامي" على مسائل القصور الفقهي واختلاف ظروف البيئات الاسلامية واختلاف التطور بين الزمن الماضي والزمن المعاصر ويرى ان اصول الفقه والتشريع خلافية أصلاً وليست قطعية لذلك يطالب بتأسيس منهجية جديدة تقوم على التوحيد والعدل والاستقامة والقصد والتوازن. ويفسر كل نقطة بأفكار تحليلية وتاريخية ليؤكد على تأخر الفقه التقليدي لأنه انقطع عن العالم الموصول وتقابل أنماطه الاجتماعية ويبدأ بشرح منهجه الفكري الذي يطلق عليه بعض انصاره فقه الترابي.
ينطلق فكر الترابي من مسألة مركزية وهي ان التدين هو محاولة دائمة للتوحيد بين المثال المطلق الشرع والواقع النسبي حركة المجتمع وتعاقبه الزمني. ثم ينتقل الى فكرة ربط العلم الشرعي بالواقع المعاصر والعلوم الحديثة ويتساءل لماذا استخدم علماء الاصول في القدم المنطق الصوري الأرسطي لتفسير بعض الاحكام ولا يحق لعلماء الاصول في عصرنا استخدام مناهج اكثر حداثة لتفسير الاحكام القرآنية من جديد. ويبدأ الترابي بعرض عناصر منهجه الذي يوحد بين الظاهر والباطن وبين الاجمال والتفصيل العام والخاص والتوازن بين الاحكام والقطع وتوازن النظام والحرية والعقل والنقل والاتباع والابداع والتقليد والاجتهاد لينتهي اخيراً الى تأكيد فكرة ان الاجتهاد لا تنقطع دواعيه فهو من الثوابت الفقهية. وأخيراً يركز على مسألة جديدة وخطيرة في تاريخ الفقه الاسلامي وهي ان مرحلة الاجتهاد الفردي تراجعت بسبب تطور الحياة المعاصرة وتعقد متطلباتها وهو ما يفيض عن قدرة فرد واحد الاجابة عن خصائصها واسئلتها لذلك يطالب باعادة النظر بالمنهج الأصولي للفقه يقصد الاخوان وتجاوز العصبية الطائفية يقصد المهدية والختمية لينتهي الى المطالبة بالتأسيس على نصوص الشريعة والاستئناس بالعلوم المنهجية. من محاضرة منهجية التشريع الاسلامي، صفحات 227 - 274.
لم تغب فكرة الشورى والمسؤولية الجماعية عن منهجية الترابي بل كان يركز دائماً عليها ويؤكد اهميتها. فأفكار الترابي التجديدية لم تبدأ في الثمانينات بل تأسست في الستينات وتبلورت في السبعينات. ففي محاضرة له ألقاها في جامعة الخرطوم في كانون الثاني 1977 أكد على مقولة "تجديد الفكر الاسلامي" وشدد على ضرورة الشورى وتطور أنماطها منذ عهد الصحابة. وأكد فيها على ان الشعب المسلم "أو الجماعة المسلمة لها حق الزام الفرد المسلم لسلطان الشورى والاجماع" وبسبب اتساع رقعة المسلمين وانتشارهم الجغرافي تعطل الاجماع وتأثر بالظروف التي طرأت على المسلمين، لذلك حتى يأخذ اهل الحل والعقد دورهم لا بد من "شورى نيابية تمثيلية" ص 10 - 11. ولأن الحياة تشعبت ولا يمكن لمجتهد واحد ان يحيط بكل الشعاب لا بد من دولة اسلامية حديثة تعتمد عن طريق الشورى والأمر التنفيذي بآراء الفقهاء المتوافرة والمتكاثرة على ان يدون القانون الاسلامي وتشريعاته المعتمدة "من قبل هيئات شورية تهتدي بالطبع بكل الاجتهاد الفقهي وتستند بالطبع الى الدعم الاجتماعي" ص 22 - 23.
منذ العام 1977 بدأت فكرة الدولة ودورها في صوغ شخصية الجماعة وأهمية القانون في تكوين المجتمع المعاصر المتصالح مع شريعته وبيئته تتكون في استراتيجية الترابي السياسية.
وعندما أعلن الرئيس السوداني السابق جعفر النميري عن نيته تحويل الدولة الى دولة اسلامية أيده الترابي وساهم بصفته من رجال القانون وشارك بصفته صاحب وجهة نظر في عضوية لجنة مراجعة القوانين لتتماشى مع الشريعة الاسلامية، وأخذ من موقعه ذاك في لعب دور مميز اذ توافرت للمرة الاولى فرصة تحويل قناعاته الفكرية الى مواد دستورية تعتمدها الدولة. ففي محاضرة ألقاها في الفترة المذكورة شدد الترابي على فكرة الربط بين وجدان المسلم وفطرته الدينية والسلطان ودور الدولة فأشار بوضوح الى ضرورة "ان تقوم في مجتمع المسلمين دولة" ص 5 لكنه أكد على قصور القانون لأنه "لا يحيط الا بعمومات"، وضعف الدولة لأنها لا تستطيع "ان تفرض على المجتمع قانوناً مفصلاً ينظم حياتهم بكل حذافيرها" ص 7. ويرد الترابي الأمر الى مسألة ان "قانون الأرض" محدود في أثره واحاطته وبرقابته بينما "قانون الاسلام يستند على سلطان الدولة ثم هو موصول بالوجدان المسلم وبحياة المجتمع" ص 10 لأن من وظائف القانون "ان يعبر عن قيم المجتمع والتعبير عن القيم نوع من التذكير" ص 13.
ويضع الترابي في المحاضرة نفسها المسلم بين الوجدان والسلطان ملاحظاته على الديموقراطية فيرى انها "قاصرة على العلاقات السياسية" ولا تجدي شيئاً في علاقات الناس من جيرة وتكافل وتضامن. ويرى ان الانتخابات "قليلاً ما تمثل الناس تمثيلاً صادقاً" ويشير الى قلة مشاركة الناس في الاقتراع ودور المال في تزييف ارادتهم. وهو يؤدي الى تعارض اهداف الديموقراطية مع وسائلها السياسية الأمر الذي يقضي بضرورة وجود نظام النصح والشورى لتستقيم الأهداف وتتساوى مع الوسائل.
عندما شارك الترابي في "اللجنة الدستورية" واشترك في صوغ قوانينها كان الخلاف وقع بينه وبين الاخوان المسلمين وأنهى ما عرف باسم "حزب التجمع الاسلامي" و"جبهة الميثاق الاسلامي" وبدأ منذ منتصف السبعينات بتأسيس تنظيمه المستقل ونجح في كسب معظم قواعد الاخوان وعزلهم الى فرع صغير وضعيف لا تأثير عقائدياً له في الحياة السياسية السودانية.
استفاد الترابي من تجربته الاخوانية مضيفاً اليها خبرته كعميد لكلية القانون ثم عضو مراجعة القوانين في نهاية عهد النميري ليؤسس فكرته من جديد على قواعد تنظيمية ودستورية ويحدد مشروعه وأهدافه ووسائل تحقيق الغايات. فأقدم على تأسيس "الجبهة الاسلامية القومية" وعقد مؤتمرها التأسيسي في الخرطوم في 1985 بعد اندلاع ثورة "15 رجب" وسقوط نظام النميري.
توضح وثائق المؤتمر التأسيسي خطاب الأمين العام، دستور الجبهة، والبيان الختامي كل ما هو غامض في استراتيجية الجبهة الاسلامية من حيث تبلور موضوعة الدولة وأهمية القانون في مجتمع واسع الارجاء وضعيف في تكامل بنيتيه التاريخية والثقافية.
تحول الترابي قبل سقوط النميري الى لاعب كبير في تقرير الصياغة القانونية للدولة وبدأ رئيس النظام يتخوف منه، لذلك قرر اعتقاله لتأمين جانبه قبل ان يقوم النميري بزيارته الاخيرة الى واشنطن بذريعة العلاج واجراء الاتصالات مع المسؤولين. وخلال وجوده في العاصمة الأميركية اندلعت الثورة الشعبية وقام الجيش باشراف المشير عبدالرحمن سوار الدهب بانقلاب لضبط الوضع الأمني ومنع الانهيار. وهكذا بقي النميري في المنفى وخرج الترابي من السجن بطلاً.
بين ثورة 1985 وانتخابات 1986 وضع الترابي استراتيجية الوصول الى السلطة وبرزت الحساسيات بينه وبين القوى الاسلامية التقليدية المهدية والختمية والقوى الاسلامية السياسية الاخرى فرع الاخوان والتيار السلفي والحلقات الصوفية وأخذ النزاع يتبلور على بند "قوانين سبتمبر" اذ كانت الاحزاب الاسلامية التقليدية تطالب بالغائها بينما تمسك الترابي بها محاولاً الفصل بينها وبين الحاكم.
أدى نمو الخلاف الى اجتماع كل القوى السياسية من اسلامية وعلمانية والحادية والاتفاق على ترشيح خصم واحد مشترك للترابي ودعمه بغية اسقاطه في المعركة الانتخابية. وسقط الترابي بفارق بسيط لكنه نجح في تسجيل اكبر مفاجأة في تاريخ السودان الحديث عندما اكتسح معظم المقاعد المخصصة للقوى الحديثة من اتحادات نقابية ومهنية وطلابية ومراكز المدن الرئيسية والعاصمة المركزية الخرطوم والعواصم الاقليمية. واحتلت الجبهة الاسلامية المركز الثالث في البرلمان المنتخب وجاءت بعد حزب الأمة اكبر كمية من المقاعد وحزب الاتحاد الديموقراطي ثاني اكبر كتلة برلمانية وأخيراً حزب الترابي. وباتت القوة الثالثة هي التي تقرر ميزان التحالف في ظل الخصومات التقليدية المذهبية والطائفية بين الأنصار والختمية. وتحول البرلمان السوداني في عام 1986 الى ما يشبه توازن البرلمان التركي في عام 1996 مع فارق يتكثف في نقطتين: الأولى، ان حزب الرفاه الاسلامي التركي هو الكتلة البرلمانية الكبرى لكنها بحاجة الى تحالف لتشكيل الغالبية. والثانية، ان خصوم الرفاه من العلمانيين وجنرالات الدولة والانتهازيين والوصوليين بينما خصوم الجبهة الاسلامية في السودان هم من الاسلاميين التقليديين ورجال المناطق والقبائل وبعض اصحاب الطرق الصوفية ومراكز القوى النافذة في المجتمع.
وضمن التوازن القلق عاش السودان اسوأ تجربة ديموقراطية عرفت الكثير من التقلبات والكثير من التحالفات اللزجة وغير الثابتة. مرة يتحالف المهدي مع الميرغني ويشكل حكومة ثنائية يعارضها الترابي في الشارع وحزبه في البرلمان. ومرة يتحالف المهدي مع الترابي وحزبه ويخرج حزب الاتحاد الديموقراطي فيقوم الأخير بتوقيع اتفاق مع جون قرنق لتوسيع رقعة التمرد في الجنوب ونقله الى الشمال للضغط على الحكومة. ومرة يتحالف المهدي مع الطرفين الجبهة الاسلامية وحزب الاتحاد الديموقراطي وتبدأ المواجهة في الجنوب لعزل تمرد قرنق واستعادة الأراضي الجديدة التي سيطر عليها في مرحلة الخلاف السابق. وأخيراً اضطر المهدي الى تشكيل حكومة ثنائية مع الميرغني مستعيناً ببعض الوجوه العلمانية في البرلمان لكسر احتكار الترابي للقوى الحديثة في الشارع، وهو أمر أدى الى خلخلة المعادلة الداخلية وتفكك الوضع السياسي وأخيراً تقديم كل الذرائع والمبررات للجيش السوداني بالتدخل والانقلاب على التجربة الديموقراطية وحل البرلمان والأحزاب.
الفترة الذهبية
تعتبر فترة 1985 - 1989 مرحلة ذهبية في حياة الترابي السياسية اذ نجح خلالها في كسر الثنائية التقليدية الانصار والختمية وانتاج فريق سياسي ثالث اطلق عليه الترابيون وبات النظام لا يستقر الا بتوازن تقوم قواعده على ثلاث قوى.
غير ان قوة الترابي كانت في الآن نفسه نقطة ضعف. فالتيار الاسلامي الحديث الذي قام بتأسيسه خلال العقدين الاخيرين اقتصر نفوذه على المنظمات الطالبية والاتحادات المهنية والنقابات والعاصمة المركزية والعواصم الاقليمية، بينما السودان كدولة جديدة لم تكتمل شخصيتها التاريخية يقوم توازنها السياسي على توازن القوى التقليدية في الأرياف والمناطق والولايات المترامية الأطراف. ولأن بنية السودان بنية قديمة فإن العلاقات التقليدية هي السائدة فيها وهي في النهاية تلعب الدور الأساس في انتاج السلطة وسياستها. الى ذلك يتألف السودان من عشر مجموعات عرقية وقبلية كبيرة تنتشر بين جنوبه وشماله وشرقه وغربه وتتركز الأكثرية الساحقة في وسطه، وهي اكثرية ريفية غير مدينية في غالبيتها وهو أمر يساعد كثيراً على محاصرة اي تحول سياسي حديث سواء جاء بواسطة الانتخابات الديموقراطية او من طريق الانقلاب العسكري.
لا شك في ان الترابي يعلم ذلك ويدركه لكنه تصرف على عكس علومه ومعارفه لظروف وأسباب لعبت فيها المنافسات السياسية الحزبية الدور الأساس في وقوفه مع الانقلاب العسكري ثورة الانقاذ ودعوته الى حل تنظيم "الجبهة الاسلامية القومية" وتشجيع عناصرها على الاندماج بالدولة والالتحاق بالجيش الشعبي كرديف عسكري للجيش السوداني. وأدى موقف الترابي المذكور الى ردود فعل متباينة بين أنصاره اذ انقسمت الجبهة الى تيار يوافق على الاندماج والالتحاق وتيار يرفض الأمر ويطالب بالتمايز عن الدولة والاحتفاظ بشبكة التنظيم الشعبي بداعي التحوط من المستقبل كتاب عبدالوهاب الأفندي، الثورة والاصلاح السياسي في السودان.
لماذا اذن فعل الترابي ما فعله على رغم علمه بخصوصيات السودان وتركيبته القبلية والطائفية والريفية والمناطقية وأخيراً تحكم العلاقات التقليدية بالسياسة العامة للدولة وقيادتها للقوى الحديثة والمعاصرة؟
اذا قرأنا وثائق المؤتمر التأسيسي للجبهة الاسلامية في 1985 يزول العجب لأننا سنجد فيها ما يكفي لفهم النظرية السياسية في فكر الترابي وتركز انتباهه على موضوعه الدولة وقيادتها للتحولات في السودان وموقع الجيش المميز والخاص كقوة وطنية حديثة تمثل مختلف المناطق والطوائف والقبائل، وهي كما يبدو قوة مشتركة لا خلاف سياسياً عليها بين السودانيين. فحجم السودان الجغرافي وقلة سكانه جعلا من الدولة قوة التوحيد السياسية الأولى وفي الآن نفسه فرضا عليها علاقات فيديرالية لامركزية نظام الولايات لضبط التنوع السكاني والسيطرة عليه مركزياً.
ماذا تقول وثائق الجبهة وخطابات أمينها العام؟
يحدد الترابي في كلمة الافتتاح اسباب قيام "الجبهة الاسلامية القومية" فيعلن انه جاء "ليوافي تهيؤ البلاد، لتحول جديد في حياتها العامة. وقد نشأت دواعي ذلك التغيير، عن تطورات في الوعي الديني والسياسي، أوهت أصول العصبيات التاريخية القديمة، وحلت عُرى الولاءات التقليدية المطلقة، وغادرت الشعب نهباً لشتات مبعثر من النعرات المحلية، والصراعات الذاتية والفئوية، وعرضة لفتنة ركام مربك، من الدعوات الزائفة، والشعارات الدخيلة…" خطاب الأمين العام، صحة 3. ويشرح في الخطاب الظروف السياسية والأحوال الاقتصادية الانتقالية ويتعرض للوحدة الوطنية وقضية الجنوب والسياسة الخارجية وقضية الشريعة الاسلامية. ويعطي اهمية خاصة للعاصمة القومية الخرطوم التي تنشأ فيها المبادرات في "النهضة الحضرية، من العلم والرأي، او الصناعة والعمران، او سائر أنماط الحياة". وأخيراً وهذا هو الأهم يشدد على الأسلوب السلمي ويدعو الى ان "تتوافق كل الأحزاب، على مبادئ دنيا، تضبط العلاقات، وتبسط الخلاف، وذلك بالتزام الديموقراطية والشورى والعلن في البناء والأداء الحزبي والسياسي وفي التنظيم الدستوري والحكومي" ص 4.
من الواضح ان الترابي كان يراهن على الانتخابات الديموقراطية التي تم الاتفاق على عقد دورتها بعد سنة، كذلك يلاحظ ان الأسلوب الانقلابي ليس وارداً الا ان جذوره الايديولوجية اخذت بالظهور في تحليل بنية المجتمع السياسية حين كرر كلامه عن تفكك العصبيات وضعف الولاءات التقليدية والنعرات المحلية الذاتية والفئوية وتركيزه على تميز المدينة ودور العاصمة كقوة تغيير جديدة. ولا شك تطغى على الكلام المذكور قراءة ايديولوجية ارادية وغير واقعية لأن السودان كان وما زال يعيش مرحلة تاريخية تنتمي الى ما قبل اكتمال شروط قيام الدولة الحديثة، بل ان العلاقات التقليدية على انواعها تشكل قوة فعل في الحياة العامة كموروث اجتماعي متداخل مع حالات التدين المختلفة السائدة في البلاد.
وربما تكون نزعة التحليل الارادية الايديولوجية هي التي قادت لاحقاً الى تغيير استراتيجية التغيير السلمي التدرجي واستبدالها بسياسة دعم الانقلاب والاضمحلال في الدولة، بصفتها الطرف الوحيد القادر على صوغ الشخصية التاريخية والسياسية للسودان الحديث.
تمكن قراءة الرهان على الدولة وتأسيس ايديولوجيتها الدينية المعاصرة من خلال نصوص الدستور المقترح التي اعتمدها المؤتمر التأسيسي للجبهة واصدرها في النهاية كبرنامج عمل في سياسته المقبلة. وهو دستور يشير الى عقلية نخبوية وبداية نشوء بذور منهج انقلابي في تفكيره.
يركز دستور الجبهة في المادة الثالثة على سعيها لإقامة "الحكم الاسلامي الهادف لرعاية مقاصد الدين وكفاية مصالح الناس والمؤسس على الشورى والمساواة وحق الجمهور في تقرير الشؤون العامة وفي اختيار ممثليهم من اهل الحل والعقد والقيادة والتنفيذ…". ويؤكد في المادة الرابعة على انه "لا اكراه في الدين، وان تضمن طلاقة التعبير عن الرأي، وحرية الحركة والاجتماع وحصانة الدم والمال والعرض، وحرمة المنزل والحياة الخاصة". وتطالب المادة التاسعة ترسيخ "النظام اللامركزي في حكم البلاد حتى تدار أطرافها المترامية بفعالية وحرية وشورى مبسوطة". وتعد المادة العاشرة بصيانة "حقوق الكيانات الدينية غير المسلمة بما لها البر والقسط والسماحة في المعاملات الخاصة، والمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، وحرية الاعتقاد والعبادة، واستقلال نظم الأحوال الشخصية والتعليم الديني".
وبعد ان يحدد الدستور في بابه الأول الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ينتقل في الباب الثاني الى تحديد وسائط تحقيق الأهداف، فتنص المادة 32 على الاشتراك في مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية ترشيحاً وانتخاباً لتوجيه المجتمع وتنظيم حياته. بعدها ينتقل الى الباب الثالث فيتحدث عن التنظيم في المادة 37 ويشير الى اربع هيئات المؤتمر العام، وهيئة الشورى العامة، والقيادة التنفيذية، وأخيراً الأمين العام. وتفصّل المواد الباقية من 39 الى 56 أسلوب تنفيذ ادارة التنظيم وكلها تركز على التمثيل النسبي والانتخاب والشورى والأساليب الدستورية الأمر الذي ينفي عن الجبهة تهمة التخطيط المسبق للانقضاض على الدولة. ويبدو ان الفكرة الاخيرة تبلورت بعد الانتخابات وفشل التجربة الديموقراطية وسياسة التنسيق والتحالفات.
حتى البيان الختامي لمؤتمر الجبهة التأسيسي كرر مواد الدستور وحذر اولئك الذين "لا يؤمنون بقيم الحرية ولا يراعون مبادئ الديموقراطية ويعوزهم السند الشعبي" وطلب منهم أخذ العبرة من مصائر "تجربتي الديموقراطية منذ الاستقلال، حتى لا تتبدد طاقات الشعب الواحد في شعاب الحزبية الضيقة"، وشدد على ان وسائط الجبهة هي "طريق الانتخابات وتحقيق علاقات الموالاة السياسية" و"قاعدة الشورى الواسعة" ص 27.
يبدو من كلام الترابي انه كان على قناعة بأن الجبهة الاسلامية ستفوز بغالبية المقاعد البرلمانية انطلاقاً من تحليله الذي يقول بتفكك الولاءات التقليدية والعصبيات الطائفية والمذهبية ولجوء الناس الى الاسلام المعاصر، المنفتح على العالم وترك اسلامهم التقليدي الموروث والمندمج ببيئات محلية ضيقة وهامشية. وبسبب هذه العقلية الاستبدالية تشكلت ضده مواجهات شخصية قبل الانتخابات أدت، كما ذكرنا، الى اسقاطه بتحالف كل القوى التقليدية والعلمانية في دائرته، كذلك اقتصر فوز حزبه على القطاعات الحديثة والفعاليات الاقتصادية المدينية بينما عجز عن اختراق معاقل الأنصار والختمية التي حافظت على ولاءاتها التقليدية القديمة واقترعت لحزب الأمة المهدي والاتحاد الديموقراطي الميرغني. ونجحت المناطق والأرياف في تأمين غالبية برلمانية للقوى التقليدية واستقرت مواقع الجبهة على تشكيل قوة ثالثة من رجال القانون والطب والدكاترة والمهندسين ورجال الأعمال واصحاب المهن الحديثة.
لم تنجح فرضية الترابي انتخابياً على رغم انه افترض صحتهاعلى ارض الواقع، وربما يكون السبب المذكور هو الدافع الحقيقي لتأييد الانقلاب العسكري بعد ان شعر ان القوى التقليدية اتجهت برلمانياً واقليمياً الى التحالف لعزل حزبه وابعاده عن صنع القرار السياسي. فتبدل المقال بعد ان تبدلت الأحوال.
لسنا هنا في صدد تقييم تجربة "ثورة الانقاذ" الا انه تجب ملاحظة الاصطفاف ضدها من الاحزاب التقليدية والقوى العلمانية الى الحلقات الصوفية والحركة السلفية، مضافاً اليها فرع الاخوان المسلمين في السودان كذلك الفرع الاخواني في مصر الذي بادر الى توجيه انتقادات ووضع ملاحظات على التجربة.
نستطيع تفسير تلك المواقف بالحساسيات والمنافسات الحزبية والطموحات السياسية خصوصاً حركة الاخوان في مصر والسودان الا ان الأساسي فيها يعود الى اختلاف منهج الترابي نفسه وتأكيده الدائم على تجديد الأصول الفقهية بتوسيع القياس لإحداث ثورة اجتهادية دائمة، وهذا لا يتوافق مع كثير من الاتجاهات الاسلامية التقليدية والمعاصرة وهو أمر يفسر لماذا كانت معركة الترابي مع الاسلاميين لا تقل اهمية عن معاركه مع العلمانيين. فالسودان مجتمع اسلامي وتدينه الشعبي فطري ومتوارث تقليدياً ولم تنهض فيه دولة استبدادية علمانية على غرار دولة أتاتورك في تركيا، لذلك كانت مشكلة الترابي مع هذا النوع من الاسلام فطرح افكار التجديد والتنوير ليتمايز عن القوى السياسية الاسلامية الاخرى، بينما نرى في تركيا ان معركة اربكان الأساسية هي مع العلمانيين واستبداد الدولة الأتاتوركية.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.