لم تكدِ القطَّةُ السوداء ترى عصفور الدُّوري يحطُّ على الأرض، حتى شعرتْ برغبة شديدة في التهامه .. وثَبَتْ عليه ففرَّ هارباً إلى أعلى الشجرة، وعادَتْ هي إلى المنزل. ومنذ ذلك الوقت، بدأتِ القطةُ السوداء تراقب الدوري، وترصدُ حركاته في أنحاء الحديقة، وتهجمُ عليه لتفترسه كلما حطَّ لالتقاط الحَبِّ والحشراتِ من تحت الأشجار. وكان الدوري يفرُّ مذعوراً. ثم بدأ الدوري يهاجم القطّة، وهي ماشيةٌ في طريقها، أو نائمةٌ تحت الشجرة، أو جالسةٌ على شرفة البيت. وينقرُها بمنقارهِ ويفرُّ هارباً. وتكررتْ هذه الحوادث، حتى أدّتْ إلى عداوةٍ شديدة بين القطة والعصفور. واستمرّتِ الحال على هذا الشكل حتى جاء الشتاء ... وكان شتاء قاسياً جداً. تساقطت فيه الثلوج على القرية خمسة أيام متواصلة. وغطّت الثلوج الطّرُقَ والساحاتِ والحدائقَ وسطوحَ المنازلِ، والحقولَ القريبة والبعيدة. ولم يعد الدوري يجد ما يأكلُهُ .. فلا حبوب ولا حشرات، ولا شيء أبداً مما يصلُحُ طعاماً لعصفور. ضعفَ الدوري وهَزُلَ من شدّة الجوع. وتيبّسَتْ رجلاه كما تيبَّسَ جناحاه من الصّقيع والبرد. ولم يعد باستطاعته الطيران والإنتقال من مكانٍ إلى آخر. فالتصقَ بأحد أغصان الشجرة المجاورة للبيت، وراح ينتظرُ هلاكهُ بين لحظة وأخرى. وحدث عند ظهر ذلك اليوم أن انشقّ باب البيت، وخرجَتْ منه القطّة السوداء، وراحت تمشي فوق الثلوج الناصعة البياض. وعندما بلغت الشجرة التي يجثم عليها الدوري، وقفتْ هناك. ظنّ الدوري أن الهرّة تنتظرهُ لتَفْتِكَ به. فضغط الغصنَ الذي يقفُ عليه محاولاً الطيران، لكنّه ترنّحَ في مكانه .. ثم سقط أمام الهرّة كما تسقطُ طابةٌ مقذوفةٌ في الهواء. دُهِشتِ القطّة عندما رأتِ الدوري أمامها في حالته التعيسة تلك، ونظرت إليه نظرةً مملوءة بالحَيْرة، ثم قرّبتْ فمها منه وأخذته بين فكّيْها، فلم يَشُكّ الدوري بأنها ستلتهمُهُ. لكنّ الهرّة السوداء أمسكتْهُ برفقٍ بين أسنانها، ثم صعدَتْ به إلى أعلى الشجرة، ومن هناك قفزَتْ إلى سطح البيت، واتجهَتْ نحو مَدْخنةِ المدفأة، حيث يوجدُ قفصٌ خشبيّ اتخذتْهُ الهرّة بيتاً لها. وضعتِ الهرّة الدوري في الصندوق وقالت له: - هذا بيتي .. إنه دافئٌ جداً .. فانتظرني هنا ريثما أعود. عندما ذهبت الهرّة، زحفَ الدوري نحو جدار المدفأة الساخن والتصق به. فأحسّ بالدفء يسري في جميع أنحاء جسمه. وبعد قليل أصبح قادراً على تحريك رجْلَيْهِ وجناحيه. ثم فتح منقارهُ فوجد أنه قادرٌ على الزقزقةِ أيضاً. عادت القطة بعد قليل وهي تحملُ كميَّة من حبوب القمح، ألْقَتْها أمام الدوري فراح يلتقطُها بنَهَم. أكل الدوري حتى شبع. وعندما همَّ بالذهاب هتفَتْ به القطّة: - لا. لن تذهب الآن. فنهارُ الشتاء قصير. وسيخيّمُ الليلُ بعد قليل. وصقيعُ الليل أشدّ من صقيع النهار. ستباتُ الليلة في بيتي هذا. وأنا سأنام في المنزل. قضى الدوري ما تبقّى من النهار في بيت القطّة الدافئ. ونام فيه أثناء الليل. وعندما استيقظ في صباح اليوم التالي، وجدَ السماء خالية من الغيوم، والشمس مشرقة، والثلوج آخذة بالذّوَبان. انتظر الدوري حتى جاءتِ القطّة. فشكرها على إنقاذها لحياته. ثم رفْرَفَ بجناحيه، وحلّق عالياً في الفضاء.